المقدمة
مشروع دراسة قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه..
لا شك أن موضوع تعامل المجتمع الإسلامي مع القيم الإسلامية يحتاج من الناحية التاريخية إلى أطروحات عديدة ممهدة تبسط القضية في كل مجتمع، وفي فترات التاريخ المتعاقبة، وربما يحتاج إلى عشرين أطروحة أو أكثر تتقدم مثل هـذا البحث الذي قد يشكل خلاصة ورؤية لها، من هـنا يبدو أن ما قمت به من عمل انتقائي للأمثلة وليس حصرا، كما أنه عمل انتقائي من بيئات معينة؛ لأن العالم الإسلامي يتسع اتساعا هـائلا، ويسكنه سدس سكان الأرض، ولأن تاريخه ليس تاريخا بسيطا، بل يمتد في عمق الزمان أربعة عشر قرنا، كما أن مثله بسبب مصدرها الإلهي تمتد في أعماق التاريخ إلى آدم عليه السلام أول الأنبياء، فآدم عليه السلام كان موحدا ودعا إلى عبادة الله تعالى وعلم أبناءه التوحيد، وأما ما يقال من كون الإنسان في بداية خلقه لم يكن واعيا بقضايا العقيدة والتوحيد، وأنه بذل مجهودا ذاتيا لتفسير الكون والحياة ومعرفة مصير الإنسان مما كشفت عنه الدراسات الغربية - وخاصة في حقل الانثروبولوجي - التي قامت قبل قرن ونصف ضمن أطر فلسفية معينة سادت المجتمعات الغربية، وكانت التيارات الفلسفية التي تسيطر على الغرب في منتصف القرن الماضي - القرن التاسع عشر- تتمثل في الفلسفة الوضعية، وهو تيار كبير ربما يحتل ربع المساحة الثقافية، ويندرج تحت هـذه المدرسة الوضعية عدد كبير من الفلاسفة. [ ص: 39 ] والعلماء الطبيعيين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء التاريخ، وإلى جواره يقف تيار آخر هـو التيار العقلي الذي يقوده " كانت " صاحب كتاب " نقد العقل الخالص " ، وتنضوي تحته مجموعة كبيرة أيضا من الفلاسفة ومن علماء النفس ومن علماء الاجتماع، ثم يعارض التيارين تيار عرف بالتيار المثالي، والذي يبرز من بين رجالاته " بريجسون " . هـذه التيارات وبصفة خاصة التيار الذي يمثل الفلسفة الوضعية والذي قاده " أوجست كونت " وتابعه " دور كايم " في علم الاجتماع، والذي كون مدرسة كانت ترى أن القضايا المعقدة المركبة في الفكر وفي الطبيعة وفي الفسلجة - علم وظائف الأعضاء - يلزم من أجل فهمها أن نردها إلى أوضاع بسيطة، ولكن كيف نقف على تلك الأوضاع البسيطة لنرد المركبة إليها؟ قالوا: يمكن أن نفعل ذلك لو اتجهنا إلى الأقوام البدائية لنرد المركبة إليها؟ قالوا: يمكن أن نفعل ذلك لو اتجهنا إلى الأقوام البدائية التي لا زالت حتى الآن منعزلة حضاريا، وهكذا اتجهوا إلى كولومبيا - شمال غرب الولايات المتحدة - وهناك وجدوا بغيتهم في مجموعة من قبائل الهنود الحمر. واتجه بعضهم إلى استراليا. وهناك وجد بغيته في مجموعة من القبائل التي تعيش عيشة بدائية. وهكذا ردوا المركب إلى البسيط بأن حاولوا التعرف على معتقدات هـذه الأقوام البدائية، وسبر هـذه المعتقدات ومعرفة كيف تنشأ عند الأقوام البدائيين، وقاسوا على ذلك فقالوا: الإنسان في فجر التاريخ هـكذا كان كما هـو شأن هـذه الأقوام، فهناك الطوطمية التي هـي عبادة الأسلاف وعبادة الحيوان والتي تظهر في القبائل الاسترالية البدائية المنعزلة، أو التي تظهر في قبائل البولونيز وفي مناطق كولومبيا ، وليس الأمر فقط بالنسبة للألوهية، وكيف وصل إليها الإنسان، وإنما أيضا مثله وقيمه وأخلاقه، كيف وجدت وما هـو مصدرها؟ فقالوا: بأن المصدر ليس خارجيا وإنما الإنسان بتجاربه يطور هـذه الأخلاق، وبالتالي هـي نسبية وليست مطلقة، لذلك نجد أن ما ينكره قوم يقبل به آخرون، وهذا يدل على النسبية، كما أن ما كان يرتضيه أجدادنا. [ ص: 40 ] لا يرتضيه أحفادنا، وهذا يشير إلى النسبية أيضا، فإذن قضية مصدر القيم وقضية نسبية الأخلاق انبثقت من دراسات حاولت أن ترد المركب إلى البسيط، وأن تنظر إلى التاريخ الإنساني من خلال القبائل البدائية، وهكذا كانوا يفعلون في دراسات علم النفس، فهم يدرسون الحالات الشاذة المرضية ليعرفوا حالة الإنسان السوي، وهذه مسألة خطيرة رفضتها عدة تيارات فكرية وفلسفية ونفسية واجتماعية في الغرب نفسه، رفضوا الفكرة أساسا (محاولة الكشف عن المعقد والمركب بالاتجاه إلى البسيط والبدائي والقياس عليه) . من هـنا ظهرت فكرة الاعتقاد بأن الإنسان مصدر القيم، وبرزت فكرة إيجاد الدين الطبيعي عند أوجست كونت في أواسط القرن التاسع عشر، حيث قال بأنه يمكن أن نجد أخلاقا نحددها بأنفسنا ودينا ندين به، ويكون دينا طبيعيا يقوم على أساس العقل، ومضوا في هـذا الاتجاه خلال القرن العشرين، ولكن القرن العشرين كشف عن أمور هـائلة ورد الكثيرين منهم إلى الصواب، عندما كشف عن مدى انتظام الكون وغائيته، حتى أنه يمكن أن أشير إلى بعض الاتجاهات الحديثة لدى فلاسفة لا يدينون بالإسلام ولا يدينون بدين، ولكنهم من الفلاسفة الطبيعيين الذين درسوا الطبيعة والعالم والأفلاك، ثم انتهوا من تجاربهم إلى الإقناع بأن العالم له غائية (له هـدف) وأنه يقف خلفه - بتعبيرهم - عقل منظم. وبالطبع نحن لا تهمنا التعبيرات، لأننا لا نعبر بهذه التعبيرات عن الصفات الإلهية، وإنما نحن نصف الخالق عز وجل بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال والإجلال والتقديس ولله المثل الأعلى.
إن الاتجاهات الحديثة لدى فلاسفة القرن العشرين الكبار تخطت النظرة المادية التي تحكمت في القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ويتضح الاتجاه الجديد في أطروحات " هـوايت هـيد " ، و " ايدينجتون " , و " جيمس جينس " .. ولنتأمل في كلام " ايدينجتون " المتوفى سنة 1944م. [ ص: 41 ] حين يقول: " إن حقيقة أن العلم محدود بالمعلومات عن هـيكل الأشياء حقيقة ذات أهمية قصوى يعني أنه يصف الأشياء ولا ينفذ إلى جوهرها وإنما يصف الهيكل الخارجي – إنها تؤكد أن الحقيقة الكاملة لا تزال غير معروفة، وفي ضوء هـذه الحقيقة لا يمكن الزعم الآن بأن أحاسيسنا أو تجربة اتصال النبي بالله - طبعا هـنا لا يخصص أي نبي - ليس لهما موضوع خارجي... "
إذن يرفض بأن هـذه ليس لها موضوع خارجي يعني يرفض القول بأنها ليست حقيقة تاريخية وجدت فعلا، وحصل مثل هـذا الاتصال وذلك لأنه من الممكن جدا أن يكون هـناك مثيل خارجي لهذه الأحاسيس، أو لتجربة النبي، أو العارف بالله - طبعا ذهنه فيه تشوش من حيث عدم التمييز بين العارف وبين النبي - ولم يعد من الممكن أن يقال عن أحاسيسنا الدينية أو الجمالية أنها مجرد ظواهر خادعة، كما كانوا يقولون بالأمس صلافة وتبجحا. فهذا عالم طبيعي كبير يهدم ما قيل قبل منتصف القرن العشرين، وهذا التيار يستمر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ويظهر التغير العظيم في العلم الحديث، عندما يرفض التفسير المادي للكون، وهو التفسير الذي تبنى عليه الماركسية والتي تقول " لا إله والحياة مادة " ، كما تبنى عليه الفلسفات الوضعية وغيرها، التي ترى أن الحياة أيضا مادة، وأنه ينبغي أن يخضع - خاصة لدى الفلسفة الوضعية - كل شيء للتجربة والحس وللملاحظة، فإن لم يصلح للملاحظة الخارجية، فإنه لا يعترف به باعتباره حقيقة علمية.
يقول عالم الرياضيات " جيمس جينس " - هـذا نشر الكتاب سنة 1984م، فهو من أحدث الكتب في هـذا الموضوع - يقول: " إن الكون أشبه بفكر عظيم منه بماكنه عظيمة " . هـذا طبعا بعد جولات الفضاء ومركبات الفضاء والاقتراب من كواكب أخرى وتطور العلوم الطبيعية والفلكية والفسيولوجية.. [ ص: 42 ] " إن الكون أشبه بفكر عظيم منه بماكنة عظيمة " . بمعنى أن مظاهر العقل فيه أقوى من المادة، نحن طبعا نعبر عن صفات الله تعالى بالعلم، والإرادة، وأنه ينفذ إرادته ومشيئته في الخلق وفي الأقدار وفي توجيه التاريخ البشري. بل هـو الخالق لأفعال الناس، كما في جزء الإمام البخاري " خلق أفعال العباد " .
" إن الكون أشبه بفكر عظيم منه بماكنة عظيمة " . إن الذهن لم يدخل إلى هـذا العالم المادي كأجنبي عنه، ونحن نصل الآن إلى مكان يجدر بنا فيه استقبال الذهن كخالق لهذا الكون وحاكمه - طبعا هـنا الذهن المجرد لا يقصد ذهن إنسان - إن هـذا الذهن بلا شك ليس كأذهاننا البشرية - وبالطبع فإن جيمس جينس ما تلقى فكره من الوحي الإلهي، ولكنه يحاول أن ينبش عن الحقيقة وأن يصل إلى شيء، وهو يعبر عنها وفق اجتهاده البشري وطاقته البشرية، إذ ليس له علاقة بألفاظ الوحي والإيمان بالله، فهو يعبر بتعبيراته الخاصة، ولكن هـذا كله له مدلول- فهو يقول: " ليس كأذهاننا البشرية " - نحن نقول في صفات الله تعالى (ليس كمثله شيء) - بل هـو ذهن خلق الذهن الإنساني من الذرة- نحن أيضا نقول بأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين، من ذرات الطين، هـكذا كان خلق آدم عليه السلام - وهذا كله كان موجودا في ذلك الذهن الكوني في صورة برنامج معد مسبقا- برنامج كوني معد مسبقا، نحن نعبر عن هـذا بالمشيئة الإلهية في الخلق، وبعلم الله القديم وبإحاطته الكاملة- " إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم، تلك التي كنا قد أقمناها على عجل، لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوى منظمة أو مهيمنة. وهذه القوى تشبه أذهاننا إلى حد كبير، وهذا الشبه ليس من ناحية العواطف والأحاسيس، وإنما هـو شبه يتعلق بذلك النهج الفكري الذي يمكننا تسميته بالذهن الرياضي " . [ ص: 43 ] هذا الكلام إلى جانب أقوال أخرى لعلماء الطبيعة ومفكري الحضارة الغربية يكشف لنا عن التحول الذي حصل، أنا أريد أن أشير بهذا إلى أن قضية " لا إله والحياة مادة " لم تعد قضية مقبولة حتى في نطاق الفكر الغربي. وأن ربط القيم بالإنسان وأنه هـو الذي اكتشفها وطورها وأنها نسبية، وأنه يمكن التحكم فيها بواسطة العقل، هـذا كله هـو الذي أدى إلى الفوضى الأخلاقية التي تشهدها أوروبا وأمريكا ، فالدين الطبيعي الذي اقترحه أوجست كونت والفلسفة الوضعية انتهى إلى أن الإنسان في أرقى الأوساط العلمية والحضارية المادية يقفل بابه عند المغرب ولا يستطيع أن يكون على تماس بأي إنسان آخر، إلا من خلف لوحات الزجاج التي يقدم الإنسان فيها النقد ويمسك البضاعة. هـذا الذي يحدث في الولايات المتحدة بعد العشاء، وتخشى معظم النساء من الخروج في الطرقات ليلا، هـذا الذي يحدث في العالم الغربي، هـذه الحضارة المنخورة التي لا تدين لله تعالى وتدين للأهواء والشهوات، وتميل الميل العظيم.
وقد نتصور أن قضية التطور ونسبية الأخلاق طرحت بسبب التقدم العلمي، وعندما نتابع الفكر الغربي نجد أن السفسطائيين في اليونان - في أثينا - قبل ميلاد عيسى عليه السلام بستة قرون قالوا بنسبية الأخلاق، وعلاقة الإنسان مع الفكر تشبه أحيانا علاقته مع الثبات، من حيث إن الموضة الجديدة تقضي على القديمة، لكن القديمة ما تلبث أن تعود ربما مع تعديلات بسيطة، وبالتالي فإن ما قاله السفسطائيون قبل الميلاد بستة قرون عاد الفلاسفة الغربيون فقالوه في منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
هنا نأتي إلى وضع القيم في المجتمعات البشرية قبيل نزول القرآن على نبينا عليه الصلاة والسلام ، فالعلمانيون عندما يدرسون القيم الإسلامية ويدرسون القيم الجاهلية، يقومون بالمطابقة مع مثل الحياة العربية قبل الإسلام، [ ص: 44 ] ومع ما ورد في التوراة والإنجيل، ويسلكون مسلكين في غاية الغرابة، فالأشياء إذا تطابقت بين الإسلام وما قبله من أديان قالوا: هـذا دليل على أن الإسلام اقتبسها من التوراة ومن الإنجيل ومن الأديان السابقة، فإن اختلفت قالوا: هـذا دليل على أن القيم ليست مطلقة، وإنما هـي نسبية، ففي كلتا الحالتين يحاولون الغنيمة، وسرقة الحقوق الأدبية؛ لأن قصدهم الواضح ليس الوصول للحقيقة، وإنما محاولة تشويه الإسلام، والقول بأنه لم يأت بجديد، والقول بأن شعائر الحج مثلا كانت موجودة عند الجاهليين، وكل الذي فعله الإسلام أنه رفع الأوثان، وأما الطقوس فواحدة، أما النظرة الإيمانية إلى هـذا الموضوع فإننا نعتقد بوحدة الأديان، وما دام مصدر القيم الإسلامية هـو المصدر لكل القيم التي بعث بها الأنبياء، فهذا هـو سبب التشابه في العبادات وأشكالها، وفي القيم الخلقية المثل العليا؛ لأن الأنبياء جميعا أكدوا على التوحيد وعلى الارتفاع بإنسانية الإنسان، وكانت الأديان كلها إسلاما وخضوعا لله تعالى، ورفضا للشرك، ورفضا للأخلاق المتدنية.
وأما قضية النسبية في الأخلاق كما نجدها عند الأمم البدائية فلا شك أننا لا نرفض هـذه المناهج جملة وتفصيلا فيما يتصل بدراسة الأمم البدائية، الذي نرفضه رفضه فلاسفة الغرب أنفسهم من مدارس أخرى غير المدرسة الوضعية، وهو أن نرد المركب إلى البسيط، وأن نقيس على البسيط ما جرى في أحقاب التاريخ. فدراسة قبائل بعينها ذات أخلاق متغايرة تدل على أنهم اجتهدوا في هـذه الأخلاق، إذ لم يصلهم وحي، وبالتالي ستختلف فيما بينهم، ولكن هـذا لا يعبر عن نسبية الأخلاق، وإنما يعبر عن عدم قدرة الإنسان بجهوده الخاصة إلى الوصول إلى الحق المطلق، لا في التوحيد الخالص ولا في القيم والمثل العليا. وبالتالي لا تنطبق هـذه الدراسات - التي أقيمت وفق مشاهدات وملحوظات على أمم بدائية - على الأديان السماوية الموحى بها، والتي هـي أصل وحدة القيم الخلقية عالميا، لأن الرسالات عالمية، [ ص: 45 ] فالله عز وجل أرسل أنبياء إلى الأمم المختلفة وفي مراحل مختلفة من التاريخ، ليقيم الحجة على الناس ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [الإسراء:15]. فهناك رسل كثيرون، وهناك أنبياء أكثر، وليست هـذه إشارة إلى الحديث الذي يقول بأن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون نبيا؛ فإنني لم أقف له على طريق صحيح، وأما الرسل فتعتضد طرق الحديث في كونهم خمسة عشر وثلاثمائة رسول، تعتضد طرق ضعيفة ومنها طريق صححها الحاكم ووافقه فيه الذهبي، ولكن الله تعالى ذكر أسماء أنبياء كثيرين وأشار إلى أنه حج الناس بإرسال الرسل إليهم.
إن قيم المجتمع الإسلامي تنبثق كما نعلم من مصدرين أساسيين، هـما كتاب الله تعالى وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكيف تعامل المسلمون مع هـذه القيم؟
القرآن الكريم هـو كلام الله تعالى، نزل منجما مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بواسطة جبريل عليه السلام ، وهو النص الديني الوحيد الذي كتب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكل الرسالات الأخرى لم تكتب في عصر رسلها، وإنما بعد ذلك بقرون، لو تأملنا في الديانة اليهودية سنجد أن التوراة كتبت بعد موسى عليه السلام ، وأن شروح التوراة أدخلت فيها أقوال أنبياء اليهود خلال قرون طويلة، وكانت الاتجاهات التفسيرية تميل عن التوحيد في مدرسة يهوذا إلى كثير من التجسيم، في حين أن المدرسة التي كانت تعرف بمدرسة السامرة كانت أقرب للتوحيد، وهذا كله يشير إلى التدخل الكبير من قبل أحبار اليهود فيما كتب ونسب إلى الله تعالى، وقد بين الله تعالى لنا في القرآن أن اليهود حرفت التوراة، [ ص: 46 ] لكن لا شك أن في التوراة قدرا من الحق وأحكام تشريعية صحيحة، وكما نعلم أن اليهود في عصر الرسالة عندما ظهرت مشكلة المرأة اليهودية التي زنت واحتكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على أثر الخلاف بينهم هـل يرجمونها أم يعاقبونها بعقوبة أخرى أخف، فجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للتخلص من حكم الرجم، فلما فتحت التوراة وجد فيها حكم الزنا، ولكن اليهود وضعوا أيديهم على الموضع، فهذا يشير إلى بقاء أحكام تشريعية صحيحة في الكتب السماوية المتقدمة، وإن كانت قد حرفت، لكن التحريف لم يكن شاملا لكل مضامينها التشريعية والخلقية.
إن القرآن بالنسبة للعرب في شبه الجزيرة هـو أول كتاب يتعاملون معه، فكان أول كتاب تعاملوا معه هـو كلام الله، لأنهم لم يكتبوا كتبا قبله، وإن كتبوا المعلقات السبع على الجلود وعلقوها في الكعبة، ولكنه لم يكن ثمة كتاب يتداوله الناس، فكان أول كتاب تداوله الناس هـو كلام الله تعالى، فكانت فطرهم تتلقاه دون أن تمتزج بأي فكر فلسفي، وهكذا تلقته نقيا طريا، وتأثرت به وتشبعت به وتفهمته، ولا شك أنهم استعانوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في الفهم، فتعمق فهمهم لكل ما أمر الله تعالى به ولكل ما نهى عنه.
وهكذا عرفوا الحقوق والواجبات من خلال كلام الله تعالى، ومن خلال بيان النبي عليه الصلاة والسلام ، في حين أن كثيرا من هـذه الحقوق ناضلت – بالتعبير المعاصر؛ لأنهم فعلا ناضلوا، إذ لا أجر لهم في جهاد – أمم الغرب طويلا للحصول على كثير من الحقوق المتصلة بالشورى، أو بحرية الرأي، أو بحقوق التصرف المختلفة، أو بساعات العمل، أو بتحقيق العدل في توزيع الثروة، أو ما شاكل ذلك من القضايا، وخاضوا غمرات صراع طويل، ولا شك أنه أزهقت في سبيل ذلك أرواح كثيرة. من هـنا ندرك سبب ما حصل من خلاف في الرؤية التاريخية بين رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، ثاتشر وبين الرئيس الفرنسي ميتران حول تقويم الثورة الفرنسية، فالثورة الفرنسية. [ ص: 47 ] وإن تمكنت من ترسيخ كثير من الحقوق، لكنها بالطبع ما فعلت ذلك إلا بعد مظالم هـائلة، وبعد قتل لبشر كثيرين، وبعد أن أقامت محاكم إرهاب وساقت الناس إلى المقاصل، أما المسلمون فإنهم ما فعلوا شيئا من هـذا القبيل، وإنما جاءهم الأمر منحة من الله تعالى: ( إن هـذا القرآن يهدي للتي هـي أقوم ) [الإسراء:9]. قيل لهم: افعلوا كذا. قالوا: سمعنا وأطعنا. افعلوا كذا لا تفعلوا كذا. جاءت أوامر وجاءت نواهي، وتوقف الناس عند أمر الله تعالى وعند أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا أمروا بإراقة الخمر التي اعتادوها وأفرطوا فيها ونظموا فيها القصيد خرجوا بدنان الخمر إلى شوارع المدينة وسككها فأراقوها، وقالوا: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا. وحتى إذا أمرت النساء بأن يتلفعن بنزول آيات الحجاب تلفعن بالمرط أول سماع الآيات، وهذه الاستجابة السريعة لكل الحقوق ولكل الواجبات ولكل التشريع لا شك أعطى المجتمع تماسكا عظيما، ولا زلنا حتى الوقت الحاضر ننعم بآثاره ونفيء إلى ظلاله ونعرف أن كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، ولا يقدم أحد منا – إلا إذا كان سفيها فاجرا – على اغتصاب مال أو اغتصاب عرض أو قتل نفس بلا حق. ولا شك أن ما حزناه منحة من الله تعالى الذي حدد لنا الحقوق والواجبات دون أن نبذل في ذلك جهدا ودماء وصراعا تاريخيا طويلا وحقوق العمال التي أدت إلى اضطرابات وإلى قيام نقابات، وإلى إثارة مشكلات، وإلى تعطل أعمال، وإلى شغب كثير، من أجل تحديد ساعات العمل، من أجل أجر عادل، كل هـذا أوضحه الإسلام دون هـذه المجهودات ودون هـذه الاضطرابات ( إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) [1] -لاحظ التعبير-. [ ص: 48 ] والنهي عن الظلم والأمر بالعدل المطلق، هـذه القيم التي رفع الله بها شأن الأمة الإسلامية، وأوجد فيها التماسك الاجتماعي والأمن الجماعي، وهي قيم لو حافظنا عليها تقودنا دون شك إلى وحدة المجتمع الإسلامي وقوته وعودته إلى الله تعالى وإلى طريق الحضارة.
إن أسلافنا فهموا أن القرآن لا يريد أمة ضعيفة، وإنما يريد أمة مجاهدة قادرة على حماية الحقوق التي وهبها الله لها بموجب الكتاب والسنة، لا تفرط فيها ولا تتنازل عنها، وإنما تسعى لضمانها، وتتضافر الجهود في هـذا السبيل؛ لأن الأمر ليس أمر قانون وضعي، وإنما هـو أمر من الله تعالى، والكل يسعى لتطبيقه والحفاظ عليه، الناس والسلطة، هـناك عباد الله تعالى مهما كان وضعهم في السلم الاجتماعي أو السلم السلطوي، الحاكم والمحكوم يعرف أن الحكم لله ( إن الحكم إلا لله ) [يوسف:40]، فهو يسعى بحكم معتقده الديني إلى تحقيق الحقوق وتحصيلها والقيام عليها والحفاظ على أمن مجتمعه، أمن اجتماعي وأمن ثقافي يحفظ وحدة الأمة من الفتن الداخلية التي تطحنهم ببعضهم، بدل أن يتجهوا بقوتهم إلى الخارج لتثبيت كيان الإسلام والدفاع عنه.
بالطبع في تاريخنا صور مضيئة، وفي تاريخنا انتكاسات، وينبغي أن نعترف بأن وحدة الأمة هـزمت في ظروف كثيرة، وأنها واجهت الخصوم الخارجيين وهي على خلاف بينها، وأن هـذا حدث في الحروب الصليبية وحدث في مواجهة التتار، وأن السبب في الهزائم يرجع إلى التربية والمعتقدات السائدة في المجتمع الإسلامي، فلو فحصنا مستوى القيم. [ ص: 49 ] والمثل العليا لوجدنا أنها انتكست قبل أن يواجه المسلمون أعداءهم الخارجيين، وأن التجديد في روح الأمة أو تجديد إيمان الأمة ضعف، وهناك حديث شريف ساقه الحاكم وأشار إلى الثقة برواته ووافقه الذهبي ، يفيد بأن الإيمان يخلق، وأنه يحتاج إلى التجديد. وتجديد الإيمان لا شك هـو بالعودة إلى الأصول، بقراءة القرآن قراءة متدبرة واعية فاحصة، والاستعانة على ذلك بتوجيهات الرسول عليه الصلاة والسلام ، والإحساس عند القراءة بأن القرآن غض طري مثل وقت تنزيله، ويمكن أن ينفتح القلب وينشرح وتدخله المعاني، وكلما تعمق الإنسان في فهم الآيات وتوجيهها كما بين الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكما بين علماء السنة والمفسرون، كلما اتضحت إمكانية الوعي الهائل الذي يمكن أن يرفدنا به كلام الله تعالى، بطبيعة الحال نجد الشمول في أخلاقيات الإسلام، في المثل العليا الإسلامية؛ ففي الحياة الاقتصادية نجد مثلا، نجد ما يمنع من الاحتكار، نجد ما يمنع من الربا الذي هـو استغلال الإنسان للإنسان وحاجته، ومحاولة اكتتاز الثروات الهائلة التي لا يمكن أن يستفيد منها الإنسان، بل هـي تضره؛ لأنها تأخذ عمره دون أن يتمكن طيلة حياته وحياة أبنائه من بعده من استنفادها. هـنا نجد التوجيه نحو استثمار المال وعدم اكتتازه، نحو إخراجه إلى المجتمع، نحو تداوله ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) [الحشر:7]، فتتداوله أيدي الأغنياء والفقراء، ويستفيد الغني بهذا الاستثمار ويستفيد الفقير؛ لأن الأموال تتداول، وبالتالي هـناك قوة لشراء الاحتياجات، وبالتالي لا تقع حالات الكساد الدورية التي تقع في الرأسمالية. الإسلام اجتث ظلم الرأسمالية عن طريق تحريم الربا وتحريم الاحتكار، حيث لا يوجد نظام رأسمالي إلا مع وجود هـذين الركنين.
وفي قيم الحضارة والأخلاق والعلم يكفي أن نبرز صورة المجتمع الإسلامي وصورة علمائه في القرون الخمسة الأولى، وما حققوه من إنجازات. [ ص: 50 ] نتيجة التوجيه القرآني نحو التجريب ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) [الإسراء:36]. وهكذا أمضوا الحواس في ملاحظة الظواهر الطبيعية والظواهر العلمية وخصائص المواد، وهذا الذي علمه المسلمون لأوروبا، ولكنهم ناموا عنه وتركوها تدرج فيه حتى سبقتهم بأربعة قرون منذ القرن السادس عشر الميلادي بداية النهضة الأوروبية، في حين أن تفتح وعي المسلمين لازال حديثا، ولكن هـذا التفتح إذا استند إلى الوعي الإيماني والحماس الديني والتصور الفكري الصحيح واللجوء إلى الله تعالى والاستعانة به، لا شك أنه سيعيد الأمة ليلتحم فيها الجانب التقني مع الجانب الإيماني، ولتقدم للبشرية حضارة متوازنة بين الروح والمادة.
إن الإشكالية التي يطرحها بعض المفكرين، والمتمثلة في وحدة منظومة الحضارة الغربية، وأنه لا يمكن رفض فكرها المادي وقيمها الخلقية النفعية، والأخذ بتقنيتها العلمية فقط؛ لأن الفكر والقيم تعبير عن الواقع المادي عند الماركسيين، وهي أداة وقائد عند آخرين من فلاسفة الغرب المثاليين، وفي كلتا الحالتين لا يمكن الفصل بين الجانب الفكري والقيمي، والجانب العلمي والصناعي، من منظومة الحضارة الغربية. فإذا أراد المسلمون التقدم العلمي والتقني، فلا بد لهم من الانخلاع عن شخصيتهم الحضارية وقيمهم الروحية والأخلاقية والاندماج كليا في بوتقة الحضارة الغربية، إذ ليس بإمكانهم القيام بعملية انتقائية؛ لأن غياب القيم التي ولدت العلم والصناعة المتقدمة سيحول دون تحقيق الإنجاز المطلوب. ولكن عند التحقق من هـذه الإشكالية يبدو أنها تحتوي على مغالطة تتكشف عند عرضها على الواقع التاريخي والمعاصر. إذ يبدو أن هـذا الربط مجرد صورة نظرية [ ص: 51 ] في أذهان الفلاسفة والمفكرين. فإن اليابان حققت تقدما هـائلا في صناعاتها دون أن تفقد هـويتها، وهكذا الأمر في دول جنوب شرق آسيا الناهضة. ومن الناحية الواقعية فإننا نجد علماء مسلمين يلتزمون بالإسلام عقيدة وسلوكا وقيما، يحققون مستوى رفيعا في العلوم الطبيعية والتقنية والاجتماعية، مما يدل بوضوح على أن قيمهم الإسلامية لا تعيق تقدمهم العلمي. والمجتمع هـو مجموع الأفراد الحاملين للقيم، وبالتالي فإن الإشكالية المطروحة سرعان ما تتبدد أمام الواقع العملي.
وأما النقد النظري فقد رفض علماء اجتماع كبار مثل فاكس فيبر " فكرة وجوب ووجود علاقة مباشرة بين البنية الاقتصادية التحتية والبنية الثقافية الفوقية " [2] ، ويقول عن عصرنا: " بأن الأخلاق الرأسمالية والعلمانية قد وافقت الشرق الأوسط ليس لوجود علاقة داخلية بين المجتمع الصناعي والأخلاق العلمانية، ولكن لأن المثقفين المسلمين، والذين كانوا قد وافقوا على هـذا التفسير الغربي للتاريخ، كانوا قد استعاروا هـذه المجموعة من وجهات النظر العالمية " [3] .
ويرى فيبر " أن الطبيعة الوراثية للمؤسسات السياسية الإسلامية هـي التي أعاقت - في رأي فيبر - ظهور المقدمات الضرورية للرأسمالية وبالأخص: القانون العقلاني، وسوق العمالة الحر، والمدن المستقلة، والاقتصاد النقدي، والطبقة البرجوازية " [4] .
والحق أن ظهور الرأسمالية لم يتم في العالم الإسلامي بسبب تحريم الدين للربا والاحتكار، ولكن قد برزت في عالم الإسلام تشريعات. [ ص: 52 ] تكفل تنظيم النشاط الاقتصادي ودفعه إلى الأمام بإقرار حرية التملك وحماية الملكية وحرية العمل وحرية التجارة، ولولا الجمود الحضاري وضعف النخبة المثقفة ونوم الجماهير الطويل، لأمكن قيام اقتصاد نشيط مواز للرأسمالية في عالم الإسلام.
إن القيم الإسلامية ليست معوقة لإتقان الصناعات، ولا لنمو رأس المال واتساع التجارة، وللحفاظ على فائض القيمة من قبل أرباب العمل مما يمكنهم من النمو المستمر.
وينبغي البحث عن الأسباب الحقيقية للتردي الاقتصادي في العالم الإسلامي، حيث إن الانفصام بين الأمة والقيم الإسلامية هـو أبرز عوامل التخلف. ومن ثم فإن تجديد " الدين " ظاهرة صحية ومبشرة بمستقبل واعد إذا تم طرح المفاهيم بمستوى حضاري وثقافي مناسب لهذا العصر، وقد تتردى الأحوال أكثر إذا تم الطرح بصورة أخرى تحمل عناصر التعصب والانغلاق والجمود.
إن الحديث عن قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي ينبغي أن تتقدمه دراسات تقويمية (قيمية) كثيرة تغطي شرائح اجتماعية عديدة لفترة تاريخية شاسعة الامتداد في الزمان والمكان الذين أثر فيهما الإسلام. وتقوم باستقراء واسع وعميق لتفاعل القيم المطلقة مع حركة الإنسان في التاريخ لاكتشاف إيجابيتها وقدرتها على إمداد الإنسان والحياة بالمعنى أو الوعي لوجوده
ومسئوليته.
إن القرآن كلام الله هـو أول كتاب باللغة العربية حرك وعي الإنسان قبل أربعة عشر قرنا، وفتح عقله على مكانه في الكون والحياة، وعرفه بالحقوق والواجبات التي تعمق وعيه الاجتماعي ونظرته الإنسانية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك كله بأقواله وأفعاله وسيرته الشخصية، ونظرا لتمثله القرآن بعمق ووعي خاصين، وتأثيره الكبير في جيله خاصة، [ ص: 53 ] فإن الرؤية القرآنية تحولت إلى واقع إنساني معاش تفاعل مع الوحي الإلهي قرآنا وسنة، وأثمر ارتقاءا عظيما في الوعي الإنساني العام، عندما انتشر الإسلام في الزمان والمكان.
إن معاناة الإنسان في الحياة يمكن أن تتضاءل بازدياد وعيه في ظل الوحي الإلهي، في حين قد يؤدي الوعي نفسه إلى زيادة المعاناة عند غياب الإيمان من النفس والحياة، إن قسوة الحياة تزداد عندما تفتقد " المعنى " ، وإن الدين هـو الذي يعطيها المعنى.
" ويشير عدد من الدراسات المقارنة بين حضارات مختلفة إلى خلاصة مؤداها أن الاكتئاب أكثر شيوعا في الثقافات الغربية " [5]
وما ذلك إلا لافتقار الحضارة الغربية إلى المعنى، وبالطبع فإن بعض الأديان والمعتقدات تعطي قيما سلبية تضعف الدعم الاجتماعي لمعتنقيها، " فهناك من يرى أن مرضى الاكتئاب الأفريقيين لا يشعرون بالذنب والكآبة إلا عندما يتصلون بالأفكار المسيحية واليهودية " [6] ، كما أن بعض الثقافات - ومن ضمنها اليابانية - ربما تشجع الانتحار من خلال ترويج الاعتقاد بأنه تحت ظروف معينة يكون الانتحار طريقا مؤكدا إلى ملكوت السماوات [7] .
ويرى العديد من علماء الاجتماع والنفس أن النهضة الأوروبية منذ القرن السادس عشر كان حافزها المهم ما يسمونه بأخلاق العمل البروتستانتية، التي تؤكد على أهمية العمل، حيث " يؤمن الفرد بأن العمل من أهم الأشياء في الحياة، وأن من المستصوب أخلاقيا أداء العمل الشاق، وأن على المرء. [ ص: 54 ] أن يعيش حياة قوامها ضبط النفس، وأن قيمة المرء يحكم عليها من خلال عمله. وقد نبتت هـذه الأفكار أصلا على يد المصلحين البروتستانت: كالفن ولوثر، وصارت تسمى بأخلاق العمل البروتستانتية " [8] ، ومن الناحية التاريخية فإن حركات الإصلاح البروتستانتية تأثرت بالقيم الإسلامية من خلال احتكاك المفكرين الأوروبيين بالمسلمين عن طريق الحروب الصليبية، والاحتكاك الحضاري في الأندلس والبحر المتوسط (صقلية) والحدود الإسلامية البيزنطية.
وإنه لمن المؤسف حقا أن لا تظهر في الإسلامية دراسات اجتماعية ونفسية تعني بأثر القيم الإسلامية على الفرد منذ مولده إلى نهاية عمره في جوانب حياته المتنوعة، كما لا توجد دراسات حول أثر القيم الإسلامية على الشرائح الاجتماعية والمؤسسات القائمة، والتفاعل الاجتماعي داخل بناها، مدعومة بالبيانات والجداول الإحصائية والاختبارات العلمية، التي ترشد المسيرة الحضارية الوليدة.
إن محاولات الإصلاح والثورة في عالمنا الإسلامي المعاصر لم تحقق زيادة الوعي لصالح التواصل بين الناس واحترامهم لبعضهم ومحبتهم للآخرين وتحقيقهم للعدل، إلا بقدر محدود؛ لأنها لم تتعرض لروح الإنسان، ولم تؤثر في حاجات التوحش والأنانية، ولم تستثر كوامن الحب والرحمة، وكل ذلك بسبب بعدها عن الوحي الإلهي.
لقد تعرض هـذا البحث للقيم الروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كلا على حدة، لغرض تنظيم المعلومات، وإلا فإن القيم تعمل متداخلة في إطار واحد. [ ص: 55 ]