الفصل الخامس
قيم الحياة الاجتماعية
إن من مقاصد الشريعة حفظ النوع الإنساني واستمراره في الوجود، فقد شرع الزواج باعتباره وسيلة لزيادة النوع، وحصنت الأسرة بتشريعات كثيرة باعتبارها محضن الأجيال الصاعدة، وحرم إتلاف النفس بالقتل أو الانتحار ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) (المائدة: 32) . وهذه الآية جعلت تحقيق الأمن الفردي أساسا لتحقيق الأمن الجماعي، لارتباط الأمنين، فجعلت قتل الواحد كقتل المجتمع، لما يشيع في المجتمع من اضطراب وقلق عند العدوان على " الواحد " لذلك على المجموع أن يتحركوا لمنع العدوان على " الواحد " وإحياء نفسه وتحقيق الأمن للمجموع. وفي الحديث ( ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ) [1] ، ولا شك أن عقوبة الخلود في النار منعت الكثير من المسلمين عبر التاريخ من الانتحار تحت ضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية. فالصمود والسعي لتحسين الحال هـو السبيل الوحيد المفتوح أمام المسلم. وعندما نقرأ تاريخنا لا نكاد نعثر [ ص: 125 ] على أحد من المسلمين ختم حياته بالانتحار إلا نادرا، ومازالت نسبة المنتحرين في مجتمعاتنا ضئيلة جدا بالقياس إلى المجتمعات الغربية، ولا شك أن التوجيه الديني وراء هـذا التباين الواضح.
إن مما يدعم صمود المسلم أمام الضغوط النفسية أن صلته بالله تعالى لا تنقطع، وأن رجاءه في رحمة ربه عظيم بسبب فتح باب التوبة مهما بلغت معاصي الإنسان، وهي توبة بينه وبين ربه لا تحتاج لاعتراف أمام وسيط، ولا إلى كشف مستور للعالمين ( لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) (الزمر: 53) .
( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) (يوسف: 87) .
ويمتد رجاء المسلم إلى الآخرة، وهو يحس بتقصيره، وأن عمله لا يدخله الجنة، فهو يعتقد بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والنبيين والصالحين والقرآن له عند ربه، ما دام موحدا. فهذا التلاحم والاتصال بينه وبين الأجيال يعطيه طاقة هـائلة على احتمال مصاعب الحياة. ثم إن ما أمر الله به من صلة الأرحام القريبة، والتواصل بين المؤمنين والتناصح بينهم، وزيارة المريض، وتفقد الجار، والتكافل الاجتماعي بين الناس لا يدع المسلم وحيدا يائسا، وهو من أكثر أسباب شيوع الانتحار في العالم.
إن الإحساس بالوحدة والوحشة لا مكان لها بين المسلمين إذا فقهوا تعاليم دينهم وطبقوها في واقعهم. وقد أكدت الشريعة على قيم كثيرة تحفظ المجتمع الإسلامي من أبرزها التزام المسلم بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي بالسفينة في البحر، فينبغي على سائر ركابها [ ص: 126 ] أن يمنعوا أية محاولة لخرقها لئلا يغرقوا جميعا [2] .
وقد مضت هـذه الأمة المسلمة تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر القرون، وخاصة في صدر الإسلام، ثم صار الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أقساما شتى. فمنهم طائفة مضت على سنن الأولين وطرائق الصحابة والتابعين، من استحضار النية، وإخلاص النصيحة، والصبر على المدعوين، وخفض الجناح لهم، وتليين القول معهم، والتزام الحسنى والرفق في بيان الإسلام ومساوئ غيره. ومنهم طائفة ملتزمون بالإسلام قولا وعملا، ولكن فيهم شدة وحدة تفوت عليهم بلوغ الهدف من قلوب العباد وتصدهم عنهم، فهم أقل درجة من الطائفة الأولى. ومنهم طائفة لا علم لهم بل يأمرون وينهون دون معرفة بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رياء وسمعة وارتفاعا على الناس، وإظهارا للصلاح وطلبا للمحمدة، وليست لهم في ذلك نية، فتراهم يأمرون الضعفاء ويسكتون عن الأقويا. ولا شك أن الطائفة الأولى هـي الموصوفة بالخيرية ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) (آل عمران: 143) . وهي خيرية الإيمان والاستقامة عليه والدعوة إليه، لذلك لم تفض في تاريخ الإسلام إلى ظهور الاستعلاء العنصري أو احتقار الأمم الأخرى، بل إن الاتجاه الدعوي إنما يمثل حب الخير للآخرين وسلوك سبيل النجاة لهم في الدنيا والآخرة، خلافا لما أحدثته النازية والفاشية من روح الاستعلاء الفارغة، التي أدت إلى الحروب الطاحنة التي أفنت ملايين البشر في النصف الأول من القرن العشرين.
وقد وضع ابن تيمية - رحمه الله – قاعدة هـامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تتمثل في مراعاة المصالح والمفاسد من قبل الآمر بالمعروف [ ص: 127 ] والناهي عن المنكر، فإن حصلت مصلحة أعظم من المفسدة وجب الأمر بالمعروف والنهي عليه، وإن كانت المفاسد أعظم من المصالح لم يجب عليه، بل قد يحرم، أما إذا حصل التساوي والتكافؤ بين المعروف والمنكر لم يؤمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح . وأما عند اختلاط المعروف والمنكر فيدعى إلى المعروف دعوة مطلقة، وينهى عن المنكر نهي مطلق، هـذا من جهة نوع المعروف ونوع المنكر، أما في الفاعل الواحد والطائفة الواحدة فيؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بالمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هـو أنكر منه أو فوات معروف أكبر منه [3] .
وقد نبغ في تاريخ المسلمين عدد من المجددين على رأس القرون، فكانوا يحيون ما مات من السنن ويقاومون ما تجدد من البدع نتيجة التصور الجزئي للإسلام والانحراف عن معالمه بالتعلق ببعض الكتاب والإيغال فيه دون البعض الآخر، ولشيوع الجدل وتحكيم العقل في أمور العقيدة والشريعة، وإنما الحكم لهما على العقل، وبسبب الغزو الفكري من العقائد الأخرى. وقد نجحت حركات التجديد في المحافظة على الإسلام، وتوريث الأجيال اللاحقة قيمه ومبادئه وإقناعهم بالذود عنه والالتزام به حتى كانت العصور الحديثة، فعصف الغزو الفكري بالأمة ومزقها. فما أحوجها إلى التجديد وإلى أهل الصلاح والعلم يرشدونها ويوجهونها إلى الصراط المستقيم والوحدة والتضامن، ولن يتم ذلك إلا بالعودة الصادقة إلى الله تعالى والإخلاص له بالعبادة والطاعة، وإلا بالعودة إلى الينابيع الأصيلة والاغتراف منها، [ ص: 128 ] وهي الكتاب والسنة، وإن أولى ما ينبغي العناية به كتاب الله بقراءته تعبدا وتعلما والاستعانة بكتب التفسير المعتمدة في فهمه، ثم العناية بالسنة المطهرة بالاستعانة بصحيحي البخاري ومسلم وفهمهما من خلال شروحهما، مع مراجعة أهل العلم وسؤالهم؛ لأن الاتصال بالنصوص دون سؤال أهل العلم قد يخالطه سوء الفهم والانحراف عن الجادة بسبب الوقوف على بعض الآثار دون البعض الآخر، مع حاجة بعضها إلى البعض الآخر لاكتمال المعنى أو بيان الناسخ من المنسوخ، إلى غير ذلك من الضوابط التي يعرفها العلماء، وبدون مراجعة أهل العلم الراسخين قد يقع المسلم في مخالفة الأحكام الشرعية وهو لا يعلم، وقد يتبع الباطل وهو يظن نفسه على الحق. قال عبد الله بن وهب : " لولا مالك والليث هـلكت، كنت أظن كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل به " [4] . يعني أن مالكا والليث فقهاه في السنن، وبينا له الناسخ والمنسوخ، والراجح من المرجوح، وفسرا له النصوص بما يكفل له الفهم الصحيح والاتباع السليم، وهكذا أظهر عبد الله بن وهب أهمية التلقي عن العلماء الراسخين بقوله: " لولا مالك والليث لضل الناس " [5] . وبمصاحبة أهل العلم الراسخين يتصل المسلم مباشرة بالكتاب والسنة، مع الحرص على العمل والتطبيق، إذ لا خير في علم لا ينفع، والانتفاع بالعلم إنما يكون بالعمل به، وبذلك يتحقق الاتباع الصحيح المبني على العلم والعمل معا، والوقوف عند حدود النص ومنع العقل من اختراق مجاله يمنع الوقوع في معارضة النصوص. " قال عمر رضي الله عنه : " اتهموا الرأي على الدين، فقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي اجتهادا، ووالله ما آلو من الحق، وذلك يوم أبي جندل " . " [ ص: 129 ] وليدع المسلم ربه أن يقيه شر الفتن ويبعده عن الأهواء والخصومات والأيدلوجيات المخالفة لدين الله، فقد " كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: " ما فرحت بشيء من الإسلام أشد فرحا بأن قلبي لم يدخله شيء من هـذه الأهواء " .
وكان السلف الصالح يحذرون من مجالسة أهل البدع والاستماع إليهم وتوقيرهم واحترامهم وترديد أقوالهم وإذاعتها. وإذا كان التحذير من أهل البدع كذلك فإن التحذير من الكفار ومتابعتهم أشد وأعظم، فمن أنكر صريحا من الدين، وأنكر تحكيم الشريعة أو بعضها، و اتخذ دينا سواها، أو معتقدا مخالفا لها، فهو كافر، وأمره أشد من المبتدع. قال الحافظ الذهبي : " ومن كفر ببدعة - وإن جلت - ليس هـو مثل الكافر الأصلي، ولا اليهودي والمجوسي، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر وصام وصلى وحج وزكى وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع كمن عاند الرسول وعبد الوثن ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها " [6] . فالعجب من مسلمي هـذا الزمان يحملون على من خالفهم المخالفة اليسيرة في الأمور الاجتهادية ويعادونه أكثر من معاداتهم لأهل البدع الغليظة بل وأهل الكفر الصراح، مع أنهم وصفوا بأنهم رحماء بينهم أشداء على الكفار، قال تعالى: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) (الفتح:29) .
وكان الصحابة رضي الله عنهم واعين لأهمية وحدة الأمة، متسامحين في [ ص: 130 ] الاختلافات التي مصدرها الاجتهاد، ملتزمين باختيارات الخليفة. بل بلغ الأمر أنهم التزموا باختياراته في العبادة، رغم أن الأدلة الأقوى كانت لا تؤيد اختياره، وذلك لأن الأخذ باختيار الإمام الشرعي من أقوى أسباب الحفاظ على وحدة الأمة. ووحدة الأمة مأمور بها في الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) (الأنفال: 46) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) [7] . وقد فقه الصحابة هـذه التوجيهات وعملوا بمقتضاها ( دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه منى في الحج، فسأل كم صلى أمير المؤمنين؟ فقالوا: أربعا، فصلى أربعا، فقيل له: ألم تحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين؟ فقال: بلى وأنا أحدثكموه الآن، ولكن عثمان كان إماما فما أخالفه، والخلاف شر ) [8] .
إن بناء الحضارات وتكوين الأمم القوية يحتاج إلى جهود وتضحيات عظيمة، وقد وضع الإسلام وحدة الأمة هـدفا له، وهيأ من التوجيهات والتشريعات ما يكفل التعاون بين أبناء الأمة الإسلامية، مؤكدا على التكافل والتعاون، فقال تعالى: ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) (النساء: 114) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( طوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ) [9] . [ ص: 131 ] وقد كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مثلا للبذل والإيثار والتعاون على الخير والبر. وقد بدأ الإسلام بصلة الرحم لبناء الوحدات الاجتماعية الصغيرة على أساس متين من التكافل والتعاطف ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) (النساء: 1) . ثم يوسع الدائرة إلى حفظ وتوثيق علاقات التكافل بين العشائر التي تتعاون في دفع الديات، ثم حقوق الجيران على بعضهم، ثم أبناء القرية الواحدة فيما بينهم، ثم الانتقال إلى التكافل على صعيد المجتمع الإسلامي العام والذي ترعاه الدولة. إن الكرم والإيثار من خصال المسلم، حيث ( لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم ) ، كما في الحديث [10] .
وقد كثرت توجيهات القرآن والسنة في الحث على الصدقة وصلة الأرحام وإكرام الضيف، وتفقد أحوال الجيران، ما كان له أعظم الأثر في تماسك المجتمع الإسلامي خلال مراحل التاريخ وخاصة القرون الأولى، حيث انخلع الناس عن أموالهم للصالح العام تحت شعار ( الصدقة برهان ) [11] يعني أنها دليل قاطع على تذوق حلاوة الإيمان.
وقد لا تروق فكرة الإيثار لفيلسوف غربي مثل برتراند رسل ، حيث يقول: " إن كل إنسان له حق حيز معين في هـذه الحياة، وينبغي ألا يشعره أحد بأنه شرير إذا قام يطالب بما هـو حق له. والناس حين يعلمون تضحية النفس يعلمونها فيما يبدو لا على أنهم سيعملون بها تماما، ولكن على رجاء أنهم سيأخذون منها بالقدر القريب من الصواب، لكن الواقع أن الناس إما أن يفشلوا في تعلم هـذا الدرس، وإما أن يشعروا أنهم آثمون حين يطالبون بالعدل المجرد، وإما أن يصلوا في [ ص: 132 ] تضحية النفس إلى حد غير معقول، وعندئذ لا تخلو نفوسهم من حقد على الدين آثروهم على أنفسهم، وأكبر الظن أنهم يسمحون لحب النفس أن يرتد إليهم متنكرا في صورة المطالبة بالشكر.
وعلى كل حال فتضحية النفس لا يمكن أن تكون مذهبا صحيحا لأنها غير قابلة للتعميم، ومن المكروه البغيض أن تعلم الباطل كوسيلة إلى الفضيلة؛ لأنه إذا انكشف الباطل تلاشت الفضيلة " [12]
إن ما قرره رسل ينحصر في نطاق الحضارة المادية، أما الإيثار في ظل الإسلام فإنه برهان على صدق العقيدة وثوابه عظيم في الآخرة ومخلد في كتاب الله في وصف الصحابة من الأنصار ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر: 9) .
إن الفرق بين قيم ومفاهيم حضارة روحية تعتبر الحياة الدنيا مجرد جسر إلى الآخرة، حيث الخلود، وحيث تظهر ثمرات العمل الصالح، وبين حضارة مادية محدودة في عالم طبيعي، حياة الإنسان فيه قصيرة، إن الحضارة الروحية تشجع على العطاء والتضحية والتواصل بين البشر دون حد. [ ص: 133 ]