المنهج النبوي وقدرته على البناء
ففي ظل هـذا الواقع البشري الخطير الذي يستدعي التفكير الجدي في شروط، وموجبات العيش في العصر العالمي الذي سيمتد في مستقبل الحضارة البشرية بشكل واسع، وخاصة في القرن الواحد والعشرين، يتثبت في الأذهان تساؤل مهم هـو:
كيف يساهم المنهج النبوي في حل الإشكال العالمي الراهن؟ وبعبارة أخرى: ما هـي المساهمة التي سيقدمها المنهج النبوي في مجال البناء الحضاري الجديد؟
فالمعلوم بالضرورة لدى قطاع ضخم من البشرية في الوقت الراهن أن الحياة الإنسانية موسومة بمسحة الشيطان. فالظلم الحضاري هـو المنطق الذي يحكم حضارة البشر القائمة، في نفس الوقت الذي يبدو فيه أفق الحضارة، وصانعيها، ضيقا، ولا يحتمل توسيعه -على مستوى المنظور - بشكل يعطي للناس فرصة العيش المشترك في العصر العالمي. فقدرة العقل البشري الراهنة غير قادرة على فهم مقتضيات الانتقال، وموجبات الاستمرار الحضاري، على أساس فطري عادل، يستوعب كل الاتجاهات البشرية القائمة، دون هـدر لحاجات الناس العقيدية، والعقلية، مع إلزامية الوعي، بأن البشرية لن يصلح حالها ما لم تعد إلى (فطرة الله) التي ركبها سبحانه وتعالى في الأنفس، والآفاق، وفي الكتاب. [ ص: 82 ]
إن هـذا النوع من الاستيعاب قد أنجزته من قبل (السنة النبوية) بشكل لا يتوهم فيه أحد تغييره إلى الأصلح منه مطلقا. وهنا تظهر لنا الأهمية القصوى في مجال دراسة المنهج النبوي كمركب حضاري ساهم من قبل في بناء حضارة التوازن الفطري من خلال المفاعلة بين الوحي الأعلى - قرآنا وسنة - وبين حاجة الخلق، والغاية من وجودهم الأرضي (الاستخلاف والمحافظة على الكون) .
فالمنهج النبوي ليس فقط خطابا أخلاقيا - ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) - بل هـو حركة وعي عقلية، ومنهجية، وروحية، وسلوكية لهذا الخطاب الأخلاقي على الصعيد الاجتماعي، ودراسته في إطار تجربة بناء نموذج حضاري مستوعب للمطلق وللنسبي - أي - مركب على أساس وعي متطلبات الزمان والمكان. لهذا كان (النظام التوحيدي) الأخير (القرآن) أنموذجا عالميا مبعوثا لكافة الخلق، ولجميع البشر.
ونحن هـنا نريد أن نبحث عن ظاهرة المنهج النبوي في هـذا المستوى من الوعي، الذي ساهم في تركيب حضارة، بدءا من تركيب إنسان، وثقافة، ومجتمع، وأمة، في ضوء مذهبية توحيدية، إلهية المصدر، ومن أجل غاية شاءت إرادة الله أن تكون لصالح الإنسان في حياته الدنيا والآخرة.