معادلة البلاغ المبين
لكي ندرك بوعي نظرية البلاغ المبين كما تتصورها المذهبية التوحيدية، نحتاج إلى التعرف على أمرين اثنين هـما:
1 - مفهوم البلاغ المبين وشروطه.
2 - محاور البلاغ المبين.
1 - مفهوم البلاغ المبين وشروطه
فهم نظرية البلاغ المبين، كما يطرحها النموذج الحضاري الإسلامي، يستدعي عرضها على ميزان خطاب الله سبحانه وتعالى ، ففلسفة هـذا البلاغ ومناهجه، ووسائله، وغاياته، ومقاصده، تتحدد بالفلسفة القرآنية المتعلقة بقضايا الحياة، والكون، والإنسان، وصيرورة الوجود الدنيوي عموما. وعلى هـذا الأساس نستطيع أن نقول: بأن وظيفة البلاغ المبين هـي: تمكين الأمة من إنجاز رسالة الشهادة على الخلق، وتحقيق مسئولية الأمة الوسط، وإقامة الحجة الدامغة على الناس، وتبيين أنه الحق تبارك وتعالى، وتحقيق تبعات هـذه المسئولية على صعيد:
- العبادة الحقة لله سبحانه وتعالى .
- الإعمار الكوني.
- التسخير السنني.
- الإنقاذ الحضاري للبشر.
- التعارف الثقافي بين الأمم والشعوب.
وعليه، فالبلاغ المبين هـو جميع الجهود الإسلامية المخلصة لله سبحانه [ ص: 53 ] وتعالى، والمتوافقه مع الهدي النبوي، والهادف إلى توفير وتحصيل مقاصد الشارع في الخلق، عن طريق العرض المنهجي للإسلام في شموليته، وتكامله كنظام حياتي، مستوعب لسعادتي الدنيا والآخرة، وتثقيف الناس على مذهبيته ورسالته ومشروعه، والسعي إلى بنائه الواقعي بالوسائل المشروعة والمتماشية مع ظروف الواقع الإنساني المتغير في الزمان والمكان.
ومن هـنا، ولكي نحقق بلاغا مبينا وهاديا في مستوى التحدي العالمي الذي تستدعيه مسيرة البشرية، وتطوراتها العقلية والثقافية، والمنهجية، والحضارية، علينا أن نحقق بعض الشروط الأساسية، والتي منها:
- الفهم العميق لخطاب الله سبحانه وتعالى ، في مذهبيته التوحيدية، ورسالته الاستخلافية، ومشروعه الاجتماعي. وتعد هـذه الغاية مرحلة من مراحل البلاغ المبين نسميها: (مرحلة فهم الخطاب الإلهي) .
- الفهم العميق لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وفلسفته في البلاغ المبين، ومنهاجه في الهداية، ومنهجيته في تطبيق الإسلام، وبنائه واقعيا، وتعتبر كذلك هـذه الغاية، مرحلة من مراحل البلاغ المبين نسمها: ( مرحلة فهم النموذج التطبيقي للإسلام) .
- الفهم المستوعب للسنن الإلهية التكوينية، والتاريخية، التي تتحكم في البلاغ المبين، وفي بناء الدعوات الحضارية، وتعتبر كذلك هـذه الغاية مرحلة من مراحل البلاغ المبين ونسميها: (مرحلة السير في الأرض، والوعي السنني) .
- الفهم العميق لطبائع المراحل الحضارية التي مرت، وتمر بها البشرية، بغرض فهم صيرورتها فوق الكوكب الأرضي، ونسمي هـذه المرحلـة من مراحـل البلاغ المبين: (مرحلة فقه العمر الحضاري للإنسانية ) .
- الفهم المستوعب للواقع المحلي، والعالمي، في تركيبه، وبنائه، وتاريخه، [ ص: 54 ] ونسمي هـذه المرحلة البلاغية: (بمرحلة فهم الواقع القائم، والخبرة التاريخية، والمستقبل المنشود للبشرية ) .
- الفهم العميق لمنهاج بناء البلاغ المبين في الواقع الحياتي للناس، وتعد هـذه المرحلة البلاغية مرحلة تطبيقية تنتج عن الوعي المتحصل من فهم المراحل السابقة، ومحاولة استخدامها في مشروع اجتماعي عملي، ونسميها (مرحلة البناء الحضاري) [1]
2 - محاور نظرية البلاغ المبين
فإذا أدركنا بأن مفهوم البلاغ المبين مستوعب لرسالة حضارية جماعية، واستشعرنا صعوبة تحقيق شروطها، وضخامة المهمة الملقاة على عواتقنا كأبناء أمة إسلامية رسالية، وجب علينا أن نفهم المحاور النظرية، والتطبيقية لنظرية البلاغ المبين [2] فلكي نؤدي وظيفية البلاغ المبين، علينا أن نعي فلسفة هـذا البلاغ، ومناهجه، وعلاقته بالعلوم النفسية، والاجتماعية، والثقافية، والعلوم الشرعية من جهة، والعلوم السياسية، والاقتصادية، والتربوية، والوسائلية، والإعلامية والجغرافية، والتكنولوجية، والصناعية، والعلوم الطبيعية، والكونية ( الآفاقية ) من جهة ثانية.
إن الصلة وثيقة جدا بين هـذه العلوم، ونظرية البلاغ الاسلامي المبين، على اعتبار أنه - البلاغ - الغاية القصوى لكل هـذه العلوم، فكل علم إسلامي نقلي أو عقلي، مطالب شرعا بأن يقصد في غايته، المساهمة في البلاغ المبين، إذ هـذه العلوم تبقى فاعلة وعملية، إذا نزلت إلى ساحات البلاغ التي تقدم فيها الهداية [ ص: 55 ] الإسلامية للبشرية في كل المجالات الحياتية، ونحن في هـذه الدراسة الأولية سوف لا نتتبع هـذه الصلات الموجودة بين البلاغ المبين، والعلوم المختلفة، لأسباب منهجية، وموضوعية خاصة بوحدة الموضوع، ولكننا سنقتصر على ذكر ملاحظات عن المحور الفلسفي، والتاريخي، والواقعي (المنهجي) للبلاغ المبين كما عرضته سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
مرجئين المحور السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والتربوي، والمعرفي إلى حينه إن شاء الله.
أ - المحور الفلسفي للبلاغ المبين
وأعني به فلسفة هـذا البلاغ، ومضامينه التصورية الكبرى، وعلاقاته المنهجية الأساسية، فالمبـلغ الإسلامي عن الله سبحانه وتعالى ، مطالب بأن يفهم بأن الإصلاح، والترشيد، والهداية، والدعوة، والتعليم، كما تطرحه نظرية الإسلام الحضارية، تقتضي الوعي على مراتب، ومستويات، ومضامين العلاقات الدعوية، القائمة في نظرية البلاغ المبين. فلكي يكون هـناك بلاغ مبين، كما تطرحه الفلسفة التغييرية القرآنية، علينا أن ندرك بعمق العلاقات المترتبة عن العناصر التالية:
- علاقة الإنسان المستخلف بالخالق سبحانه وتعالى ، الذي خلق الإنسان، والكون، والحياة.. ولهذه العلاقة مراتب يجب وعيها هـي: مرتبة التكليف، ومرتبة التوحيد، ومرتبة العبودية، ومرتبة المقاصد، ومرتبة الاستخلاف..
- علاقة الإنسان بأخيه الإنسان في مراتبها التالية: مرتبة الاجتماع، ومرتبة الأمة، ومرتبة الرسالة، ومرتبة الثقافة، ومرتبة الحضارة، ومرتبة التاريخ..
- علاقة الإنسان بالكون في مراتبها التالية: مرتبة التسخير، ومرتبة الإعمار، ومرتبة كشف الآيات، ومرتبة استخدام السنن، ومرتبة المؤاخاة بين الإنسان والكون.. [ ص: 56 ]
- علاقة الإنسان بالحياة في مراتبها التالية: مرتبة فهم الزمن، ومرتبة فهم المتاع، والعرض الدنيوي، ومرتبة فهم لحظات العبور، أو كما أثر " عن الإمام علي كرم الله وجهه: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. "
فمن هـذه العلاقات الأساسية، تنبني نظرية البلاغ الإسلامي، وتتوحد العلوم لأداء رسالة تبيين أنه الحق تبارك وتعالى، فلكي نقدم بلاغا إسلاميا تبشيريا، وتعليميا هـاديا، علينا أن نفهم بعمق هـذه العلاقات المتناغمة بين عناصر نظرية البلاغ الإسلامي المبين: الخالق تبارك وتعالى، والإنسان، والكون، والحياة.
ب - المحور التاريخي للبلاغ المبين
نعني بالمحور التاريخي للبلاغ المبين: مراعاة تاريخ الأمم، والشعوب، ومعرفة ثقافتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وذلك عندما نبدأ في ممارسة العمل الدعوي، حتى نخاطب الناس من خلال المداخل الطبيعية لاستجاباتهم. والرسول صلى الله عليه وسلم كان خبيرا بتاريخ المجتمعات التي كان يمارس عليها الدعوة، والبلاغ المبين، ومن أمثلة هـذا الوعي ( قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين اضطهدوا، آمرا لهم بالهجرة إلى الحبشة: إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض الصدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ) [3] فهذا الوعي التاريخي بشخصية هـذا الملك، وعدله، وبالأرض وخاصيتها، إنما يعبر عن إدراك صلى الله عليه وسلم لأهمية المحور التاريخي في البلاغ المبين. والوعي التاريخي متحصل من السير في الأرض، والنظر في سنن الأولين، وفي آيات الله في الآفاق والأنفس.
يقول الأستاذ جودت سعيد : ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يستخدم آيات الآفاق والأنفس، ليحل المشكلة خارج النصوص. ولا مانع من التذكير بالحديث الذي أكرره كثيرا لما له من الدلالة، والأهمية في هـذا الموضوع، موضوع آيات الآفاق، والأنفس.. ذلك الحديث الذي يترك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتجاج [ ص: 57 ] بسلطانه النبوي، وسلطان ما أوحي إليه، ليتخذ من آيات الآفاق والأنفس دليلا، وحجة لبيان موضوع معين، وقع الجدال فيه مع صاحبه زياد بن لبيد : ( ذكر ابن كثير في تفسير سورة المائدة الآية 63، وصححه ( عن الإمام أحمد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: وذاك عند ذهاب العلم، قلنا يا رسول الله: كيف يذهب العلم؟ ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا.. وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال: ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة. أليس هـذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة، والإنجيل، ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ؟! ) هـنا يلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آيات الآفاق والأنفس ليحسم النزاع، والجدال في آيات الكتاب، وإن آيات الكتاب قد تكف عن أدائها دور العلم، في ظروف معينة، والرسول صلى الله عليه وسلم
هـنا يستشهد بحدث تاريخي واقع أمام العالم جميعا، لا يمكن أن ينكره أحد. وهذه القوة لآيات الأفاق والأنفس، أشرنا إليها قريبا حين قلنا: إن دلالتها عالمية، وفوق الأيديولوجيات ، ولم يحاول هـنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: أنا رسول الله ولا أنطق عن الهوى، وعليك أن تسلم بما أقول، ولا تجادل فيه. إن هـذه الحادثة، والحوار العجيب الذي دار في مطلع الحياة الإسلامية، لعميق الدلالة، وسوف لا يكف عن عطاء ما يحتويه من منهج لا يزال يتألق على مر العصور في أهمية الوقائع في الآفاق والأنفس. وهذا ما أردنا أن نضعه أمام الشباب المسلم ليتأملوا فيه، ليس كحدث جزئي، وإنما كمنهج. [4]
[5] [ ص: 58 ]
إننا حقا لا نستطيع إدراك جهود الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا نظرنا إليها كمناهج متكاملة، وتأملناها كوسائل فاعلة في بناء الحياة الإسلامية.
ج - المحور الواقعي للبلاغ المبين
إن الطبيعة البلاغية، والدعوية للرسالة الإسلامية هـي التي استدعت الوعي على أحوال الخلق، وطبائعهم، واستعداداتهم، وميولهم، وقدراتهم وذلك بغرض مخاطبتهم بما يطيقون من غير إكراه، ولا تعسف. ومعنى المحور الواقعي للبلاغ المبين هـو إدراك معادلات الناس الفردية، والاجتماعية، ومخاطبتهم حسب ظروفهم، ومشاغلهم، واكتساب مفاتيح التعامل مع أوضاعهم كما هـي في الواقع المعيش [6] . والنبي عليه الصلاة والسلام ، خبير بهذا الجانب من جوانب البلاغ المبين، عارف لأسراره، وخباياه، ومناهجه، ووسائله، وليس أدل على هـذا، تتبع منهج النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الأفراد والجماعات.
يقول الإمام الشاطبي مقعـدا لقانون دعوي منهجي، مستخلص من الفقه النبوي: النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال على وزن واحد.. فصاحب هـذا التحقيق الخاص، رزق نورا يعرف به النفوس، ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها، أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها. فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص، ما يليق بها، بناء على أن ذلك هـو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف [7] [ ص: 59 ]
فهذه قاعدة من قواعد التعاطي مع المنهج البلاغي النبوي، الثاوي في سنته صلى الله عليه وسلم
وهذه جملة من النماذج الواقعية لهذه المنهجية.
فمن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال، وخير الأعمال، وعرف بذلك بعض أوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها، لو حمل على إطلاقه، أو عمومه، لاقتضى مع غيره التضاد والتفضيل.
ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام ( سئل: أي الأعمال أفضل ؟ قال: إيمان بالله. قال: ثم ماذا ؟ قال: جهاد في سبيل الله. قال: ثم ماذا ؟ قال: حج مبرور. ) [8] . ( وسئل عليه الصلاة والسلام : أي الأعمال أفضل ؟ قال: الصلاة لوقتها. قال: ثم أي ؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: جهاد في سبيل الله ) [9] .
وفي النسائي ( عن أبي أمامـة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: مرني بأمـر آخذه عنك. قال: عليك بصوم فإنه لا مثيل له ) [10] .
وفي الصحيح ( في قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. إلخ. قال: ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ) [11] .
وفي الترمذي: ( ليس شيء أكرم على الله من الدعاء. ) [12] وفي البزار: ( أي الدعاء أفضل ؟ قال: دعاء المرء لنفسه. ) [13] .
وفي الترمذي: ( ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ) [14] [ ص: 60 ]
وفي البزار: ( يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هـما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما ) [15] وفي مسلم: ( أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. ) ) [16] .. وفيه: ( أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. ) [17] .. وفي الصحيح: ( وما أعطي أحد عطاءا خيرا وأوسع من الصبر ) [18] .. وفي البخاري: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه. ) [19] .
ومن الضوابط الدعوية أن يخاطب الناس بما يفهمون، فقد " روي عن علي رضي الله عنه قوله: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " [20] .
ويضيف الإمام الشاطبي ضابطا آخر في عالم البلاغ المبين، محاولا تحديد منهجية للتعامل مع العقول، والأذهان، والوقائع، والأزمان، حسب ما تتطلبه منهجية الدعوة في المنهاج الإسلامي قائلا: وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في حال مآلها بالنسبة لحال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هـذا المساغ، فالسكوت عنها هـو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية [21] . [ ص: 61 ]