الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        المنهج النبوي والتغيير الحضاري

        برغوث عبد العزيز بن مبارك

        ثانيا: الرؤية الاجتماعية

        عندما نتأمل المشكلة السابقة من منظور عالم اجتماعي، تبرز لنا أحد الجوانب الأخرى للأزمة الجاهلية. الجانب الذي يصلنا مباشرة بعالم الممارسة اليومية، والحركة الواقعية للإنسان الجاهلي في ظل الثقافة الجاهلية. الثقافة الأرضية العاجزة عن السمو إلى مستوى الوعي التوحيدي. فالظاهرة الجاهلية من هـذه الزاوية ترسم لنا صورة أخرى، من صور المأزق العقائدي، الذي كان وراء محنة الجاهلية. فالإنسان هـناك كان سلبيا لجملة من الأهداف كرس ذاته، وحياته، وطاقته ليحققها. فكل قدراته الذهنية، والجسدية، والمادية موجهة لخدمة هـذه الغاية، والدافع الأساس الذي كان وراء حركة الجاهلي، والمبرر المعقول بالنسبة إليه ليتحرك بالشكل السلبي، الذي أشرنا إليه، وهو تلك الأهداف التي سنتعرف عليها من خلال هـذين المثالين: [ ص: 114 ]

        المثال الأول:

        ففي مقالة جعفر بن أبي طالب للنجاشي في أعقاب حوادث الهجرة الأولى إلى الحبشة قال: (يا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف) [1]

        المثال الثاني:

        في مقالة مبعوث الكفار عتبة بن ربيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا ابن أخي إذا كنت تريد بما جئت به من هـذا مالا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع دونك، وإن كنت تريد به ملكا سودناك علينا) [2] يبدو أن هـذا البيان المختصر عن حالة المنطق الجاهلي، يستطيع أن يقدم لنا على الأقل الصورة الأساسية لطبيعة الحياة الجاهلية، وملامح فلسفتها الاجتماعية. فالبشر هـناك من الوجهة الاجتماعية، يعانون من خلل، جعلهم رهائن (دائمين) لجملة من الأهداف السلبية، التي لم تتح لهم فرصة تفتيق طاقاتهم، وتسخيرها في خدمة رسالة معينة، ترتفع قليلا أو كثيرا عن الفلسفة الأرضية المغرقة في المادية، والظلم الاجتماعي. لقد حصر الاجتماع الجاهلي نفسه في سجن (الاهتمامات البسيطة) المتوارثة، عن أجيال الفراغ العقائدي. ويبدو كأن خلاصة أمراض الجاهلية الإنسانية، وجدت لها مكانا آمنا للتعشيش، والبيض، والتفريخ، والنمو في ذات الجاهلي. فالجاهلي يقدم لنا أزمة مثلثية الشكل، تشتمل على ثلاث زوايا:

        - زاوية الهوى والاشتغال بالعرض الدنيوي الزائل.

        - وزاوية عبادة الأصنام، والإعراض عن الحق تبارك وتعالى.

        - وزاوية الجمود العقلي (الآبائية) والركود الثقافي. [ ص: 115 ]

        قال تعالى: ( أرأيت من اتخذ إلهه هـواه أفأنت تكون عليه وكيلا ) (الفرقان: 43) ( أتعبدون ما تنحتون ) (الصفات: 95) .

        ولو استعملنا اللغة الاجتماعية، للتعبير عن الأزمة الجاهلية، لوجدنا بأن هـذه (الأهداف البسيطة) لا تقدم مشروعا اجتماعيا متكاملا، لتوجيه الطاقة الحيوية للمجتمع، كيما تتحرك على خط التحضر، والتثقيف، تبعا لإيديولوجية معينة. ولهذا فالمجتمع الجاهلي، انعدمت فيه الفعالية الحضارية، وبالتالي فقد القدرة على التأثير في حوادث العالم، التي كانت تمر بهدوء يخدر النائمين، بعيدا عن كونه الجغرافي والفكري، هـناك في ديار الحضارة الفارسية، والرومانية، حيث كانت تصنع الظاهرة الحضارية، استجابة لعقيدة تلك المجتمعات. وسوف نرى بعد مدة غير طويلة، من تحرك النبي صلى الله عليه وسلم ، كيف أصبحت المنطقة السابقة، محطة لبناء حضاري عظيم، استقطب أنظار الحضارات القائمة، وهد فيما بعد أركانها من الأساس.

        إن الناس في المجمع الجاهلي، كانوا يستبسلون في دوامة أهداف بسيطة، دل (علم السير في الأرض) أنها هـي التي أغرقت كل الحضارات القديمة، تلك الحضارات التي كانت تقدس أشباه الأرباب الأرضيين، وخير مثال نسوقه هـنا هـو نموذج المجتمع الفرعوني القديم.. ونفس هـذه النزعة سوف تهلك الفراعنة الجدد للعالم.. فراعنة (الاستعمار الديمقراطي) ، والمجتمع السوفياتي القديم المعاصر، مثال آخر.. وتلك هـي سنن الله في الاجتماع البشري.

        إن الأهداف البسيطة لا تمتلك الروح الدافعة، التي تخلق للناس اهتمامات ترتفع بهم فوق وجودهم الأرضي الزائل، وتربطهم بالواقع الرباني المتسامي، الذي يستلهمون منه (النفس الحضاري) الممكن في الأرض.

        هكذا إذن وضعيه المجتمع الجاهلي، التي امتدت في الحقيقة (أكثر من [ ص: 116 ] ألفي عام، ابتداء من الجد الأكبر إسماعيل حتى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولقد أثمر هـذا التاريخ الطويل فنا غنيا، وخلف تراثا أدبيا رفيعا لا نظير له من بين الأمم الأخرى، وتلك هـي القائمة التاريخية للمجتمع، خلال هـذه الحقبة من الزمان، ولو استخدمنا لغة الاجتماع لقلنا: إن هـذا كل ما أثمره المجتمع الجاهلي، كثمرة لنشاط استقطب حول (الحاجة) والمنفعة) ، وبذلك نلاحظ أولا أن هـذا المجتمع لم ينتج كثيرا، مادام لم يخضع إلا لاتجاهات الحياة اليومية وقواعدها) .

        من هـنا تشكلت الأمة الحقيقية للمجتمع الجاهلي في شقيها: الكوني والاجتماعي. ولكي تحل هـذه الفاجعة الحضارية الكبرى، يتطلب الأمر إحداث تغييرات جذرية في المجتمع الجاهلي، ولن يتحقق هـذا إلا بتغييرات جذرية في البناء الثقافي، ولا يمكن تحصيل ذلك إلا بتغييرات جذرية في الإنسان، ولا يمكن إجراء أي تعديل عقلي أو روحي أو سلوكي في حياة الإنسان، إلا بعقيدة كونية معينة. وهذا هـو العمل التاريخي الأساس، الذي قام به رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية