مفهوم الربط الحضاري
إذا ما حاولنا البحث عن كلمة الربط، ومشتقاتها من خلال النصوص القرآنية نجدها وردت في عدة مواضع هـي: ( وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) (الأنفال: 11) . ( إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ) (القصص: 10) . ( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ) ( الكهف: 14 ) . ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران: 200) . ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) (الأنفال: 60) .
ففي الآيات الأربع الأولى، جاءت معبرة عن وضع ديناميكي حركي، أي في صيغة الفعل الذي يؤدي إلى نتائج مثل: الثبيت على الحق، والإيمان، والإقرار بالربوبية، والدعوة إلى الله الواحد القهار، والحركة المستديمة في سبيل الحق تبارك وتعالى، حيث اشارت الآيات الثلاث الأولى من الأربع، إلى قضايا متعلقة بعالم القلوب، والنفوس (ظاهرة نفسية) ، متعلقة بعلوم النفس، أما الآية الرابعة فقد أشارت إلى قضية متصلة بالظاهرة الاجتماعية، والتحرك في [ ص: 121 ] الواقع، ومسك الثغور، والساحات الجهادية المتنوعة
(المرابطة) .. وبعبارة أخرى، الآية تشير إلى (عالم الحركة الاجتماعية) ، حيث علوم الاجتماع البشري.
أما الآية الخامسة، فقد أشارت إلى وسيلة من وسائل المرابطة، أي توجهت نحو (عالم الوسائل) (رباط) . ثم تحدثنا الآيات في مجموعها عن مقاصد، وغايات، ينشدها الإنسان، وعن كيفية الوصول إليها، وفي الإطار الكلي للآيات يقف المنهج التغييري، الذي ترجعه إلى عالم النفوس، وعالم المجتمع، فهو منهج الربط الحضاري الذي يحتاج إلى البنيان البشري المرصوص، الذي يرابط في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى .
إننا لا نقصد هـنا البحث عن المعنى اللغوي لكلمة ربط، وإنما عن المضمون المنهجي، والنفسي، والاجتماعي، والغائي لها. فلو أخذنا مثلا وجهة نظر مفسر كابن كثير ، فإننا نعثر لديه عن فكرة مهمة في هـذا المجال، وهذه فقرة من تفسيره: ( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض ) (الكهف: 14) يقول تعالى: وثبتناهم على مخالفة قومهم، ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة [1] .
فالربط الذي نعنيه هـنا هـو الذي يتعامل مع القناعات الخالصة للبشر، بدون ضغط ولا إكراه.. فهو الاقتناع الراسخ، والارتباط الوثيق بفكرة معينة، وهو كذلك دافع ذاتي في أعماق النفس الإنسانية، بحيث يعطيها طاقة الالتزام الكامل بضرورات العيش، تحت توجيه فكرة معينة.
فالارتباط بالشيء هـو السلوك الناتج عن عمليات الربط للإنسان بعقيدة معينة، وفق منهجيات تتطابق مع سنن الله في الربط الحضاري، فهو من الوجهة [ ص: 122 ] النفسية، حرارة ذاتية غلابة على طريق الفكرة، وإيمان داخلي يخلق في الإنسان طاقة الإخلاص لها.. وهو من الوجهة الاجتماعية، الموقف التاريخي الذي تأخذه جماعة تغييرية ما، وبه تستجيب لمقتضيات الكفاح، من أجل رسالة معينة، وتنشط من أجل تحقيق مشروعها الاجتماعي.. وهو كذلك جو إنساني يتيح للجماعة بأن تتعلم قوانين العيش في جماعة حضارية.
الربط الحضاري في الجهد النبوي
والنموذج النبوي في التغيير، يعطينا صورة عميقة لظاهرة الربط الحضاري، وخير دليل على صحة هـذا الاعتقاد، هـو تتبع بعض العينات العملية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام:
المثال الأول:
تأمل جيدا جواب النبي عليه الصلاة والسلام لكفار قريش، وهم يحاورونه في بعض قضايا الدين، وذلك باستعمال وسائلهم الخاصة التي تنتمي إلى الثقافة التقليدية: (وما جئت بما جئت به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا أملك عليكم، ولكن بعثني الله إليكم، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم بيني وبينكم ) [2] .
المثال الثاني:
تأمل كذلك مقالة جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، وهو يشرح مباديء الإسلام حيث [ ص: 123 ] " قال: فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله، لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة، والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة.. " [3] .
إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها على المثالين، هـي بداية ظهور منظومة جديدة من الأهداف، وبوادر ثقافة، مازالت في حيز القوة، ومعالم مشروع اجتماعي وليد، بدأ يسجل حضوره التاريخي، في عالم الآخرين، عن طريق نموذجه الكوني، الذي انطلق في تلك اللحظات في صراع واسع النطاق مع الجاهلية القائمة بكل ألويتها القديمة.
فكلام النبي عليه الصلاة والسلام من جهة، يبرز لنا معالم النموذج التوحيدي، ويحدد مضامينه العامة، على الأقل في المرحلة الدعوية الأولى، ومن جهة أخرى يوضح لنا مهمته صلى الله عليه وسلم في هـذه المرحلة التاريخية، ثم يوضح لنا نتائج الاحتمالين الواردين: احتمال الرفض، واحتمال القبول، وجزاء كل واحد منهما.
أما كلام واحد من أصحابه الأوائل (مرتبط بالفكرة) فقد بين لنا العلامات البارزة على طريق المشروع الإسلامي الجديد، وحدد بعض أبعاده الاجتماعية، والتربوية، والسلوكية. كما قدم لنا تقريرا موجزا، ووافيا عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فيها بعض جوانب أخلاقه، وتاريخه.
إن هـذه العينة مأخوذة عمدا من الفترة المكية، لكي تبرز لنا بعض القضايا [ ص: 124 ] المتعلقة بالتغيير من مراحله الانطلاقية.
فالمرتبطون الجدد بالإسلام سيخضعون لعملية تربوية منهجية، من قبل النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا هـو في الحقيقة العمل التاريخي الأول، الذي أنجزه صلى الله عليه وسلم ، حيث عمل على ربط الناس بالرؤية التوحيدية، وبالتالي (بالأهداف الحضارية الكبرى) للإسلام كبديل عن الأهداف الصغرى والبسيطة للجاهلية القديمة، بكل ما يحتاجه هـذا العمل الحضاري الضخم من وسائل، ومناهج، وأساليب، تتماشى وطبيعة الدين الجديد، حيث فكرة المشروع وغير المشروع من الأدوات، والسلوكات، والمواقف، واجبة المراعاة. وحيث ضرورة الانتقال بالدعوة من مرحلة إلى التي تليها، ومن مستوى البيت، والأسرة، والعشيرة، والقوم، والمجتمع الجاهلي القديم، إلى مستوى العالم أجمع، حيث كانت المنهجية الأخيرة في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للحضارات القديمة جميعا، وإعلان عالمية الحضارة الإسلامية واقعيا.
لقد سعى صلى الله عليه وسلم عن طريق عمليات (الربط الحضاري) الأولى إلى بناء جماعة إسلامية قاعدية - (الصحابة) - على أساس النموذج الحضاري التوحيدي، تلك الجماعة التي ستكون قائدة البناء الحضاري الإسلامي الأول، والذائدة عن حمى الإسلام، ورسالته، ومشروعه. لقد كان جهد الرسول صلى الله عليه وسلم منظما، ومخططا بواقعية، وعلمية، وتوازن.. يعمل بلا كلل ولا ملل، يحذوه الأمل المشرق، ويرافقه العزم والتصميم، والإرادة، والرغبة المتنامية، وتوجهه الإرادة الإلهية عن طريق رسالة الوحي الأعلى، الذي كان يتابع عن كثب أحداث الدعوة، ومراحل نموها لحظة لحظة، وموقفا موقفا، يتابعها في تفاصيلها الظاهرة والباطنة.. [ ص: 125 ]