الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الإسلام وصراع الحضارات

الدكتور / أحمد القديدي

مقدمة

باسمه سبحانه أبدأ هـذا الكتاب، مصليا ومسلما على أشرف المرسلين وخاتم النبيين محمد المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عن الأنبياء والرسل من قبله وهدى المسلمين إلى سواء السبيل.. وبعد

فحين هـداني الله إلى وضع هـذا الكتاب الوجيز، عن مراجع الحضارة الإسلامية، ومواقع قوتها الفكرية، كنت في الواقع أفكر في مستقبل تلك الحضارة، وما اعتمادي على الماضي، إلا بقصد توظيفه لخدمة المستقبل.

ولعل القاريء المعاصر، يعلم كما أعلم -وهو يعيش معي محاور هـذا الكتاب، في حرارته السياسية والثقافية- أن تحولات عميقة تطرأ يوميا على عالمنا، وأن هـزات عنيفة تغير خريطة الكون، وأن الأنباء تتلاحق وتتسابق صباح مساء، لتعلن عن تغيرات جذرية في السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة، يساعد على الإحساس بها، ذلك السيل الطامي من المعلومات والأخبار، بسرعة انتقالها الآني عبر الأقمار الصناعية، من منطلقاتها، بأي مكان في الدنيا، إلى أجهزة التلفزيون لدينا، وهي في كل بيت، كأنها القريب الحميم، أو الصديق المقيم.

فالقاريء المعاصر عايش انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م، وشهد مذهولا عام 1989 سقوط جدار برلين ، تحت أقدام الشباب الألماني، وإعدام آخر ديكتاتور شيوعي شاوشيسكو في بوخارست عام 1990م، وعاش حرب [ ص: 43 ] الخليج عام 1991م، وحضر انهيار الاتحاد السوفيتي ، وانفلاق جمهورياته كالحب والنوى، وانتهاء الحرب الباردة ، وتعملق الولايات المتحدة وحدها، وانتصار الثورة الإسلامية الأفغانية ، على الطاغوت الملحد، واتساع المد الإسلامي كعقيدة استرجاع الهوية في أغلب البلدان المسلمة، وأخيرا انتشار العدوان الصليبي الصهيوني المشترك على الأمة الإسلامية، وبخاصة في رافديها الهامين فلسطين والبوسنة .

تلك في عجالة خاطفة، بعض زلازل هـذه العشرية، ارتجت من هـولها أركان عالمنا بأسره، وفرضت على المجتمع الدولي استراتيجيات جديدة، ورؤى فكرية مبتكرة، فاضطر العقل هـنا وهناك، إلى محاولة القراءة في كتاب الأحداث الطارئة، وفك طلاسم الوضع الراهن، باستنباط أصناف مستحدثة من اللغة، والسياسة، والثقافة، والفلسفة، والفن، والعلوم.

وهكذا نشأت تطورات عديدة، ومتناقضة لمصير الإنسانية، على ضوء اليقظة العنيفة للقوميات، والهويات، والثقافات، وحاولت الحضارة المسيحية إنقاذ هـيمنتها على العالم، من التصدع، فاكتشفت أن القيم الرأسمالية وما يصحبها من تحررية اقتصادية وسياسية.. يمكن أن تشكل مستقبل الإنسانية قاطبة، من هـنا جاء كتاب الأمريكي الياباني ( فوكوياما ) تحت عنوان: نهاية التاريخ.

ونهاية التاريخ لدى هـذا المفكر، هـي نهاية الحرب الباردة، وانتصار الرأسمالية والتحررية، بصورة حاسمة وأبدية، على الشيوعية المنهارة. [ ص: 44 ]

أي في الحقيقة انتصار الغرب على الغرب، لأن الرأسمالية والشيوعية ، كلاهما ثمرة من ثمار الفكر الغربي.

ألسنا اليوم، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين، بازاء هـيمنة نصرانية يهودية، تحت ستار أحادية القوة الأمريكية، التي لا تقهر، وتحت شعار انصهار الحضارات كلها في قالب الغرب الظافر المسيطر؟ ألسنا نواجه كمسلمين، محاولة تاريخية للعودة للإمبراطورية الواحدة، التي لا تغيب عنها الشمي؟ وريثة الامبراطورية الرومانية .. ثم البريطانية.. بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية؟

نعم. إن انهيار الاتحاد السوفيتي ، أعلن عن قيام قوة عاتية، لم يكن انتصارها مثل سائر انتصارات القوى التقليدية، عسكريا، بل كان انتصارها بدون حرب، مثلما قال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون [1] . ولم تحسم المعركة بين العملاقتين في ساحة وغى، بل إنهما لم تتصادما مباشرة في أية أزمة حدثت، وأكثر من ذلك فقد كانت أمريكا والاتحاد السوفيتي حليفين في الحرب الكونية الثانية ، ضد ألمانيا الهتلرية، وقوى المحور ، وانتصرا معا وجنبا إلى جنب، واقتسما الأرض، إلى مناطق نفوذ معروفة معلومة.

وجاءت هـزيمة المعسكر الشيوعي ثقافية وسياسية، أو هـي كما نسميها: هـزيمة حضارية.

ضرب السوس في قلب الشجرة العجوز، وخربها من الداخل، وجدت [ ص: 45 ] القلعة المحروسة نفسها مشتعلة من خلف أسوارها. سقطت الأيديولوجية القائمة على الإلحاد، وإلغاء الحريات، وانعدام المبادرة، ومنع الملكية الفردية ، تحت وقع الإعلام الغربي والثقافة الغربية، حتى تشكل وجدان الشعوب السوفيتية والأوروبية الشرقية على الشوق للمدينة الأمريكية الفاضلة، كحلم.. كمثل أعلى.. كجنة موعودة.

نعم كان الإعلام الأمريكي والأوروبي، منذ العشرينيات، متجها للرأي العام في الجمهوريات السوفييتية ، وأوروبا الشرقية ، يضرب له الأمثال بحياة المواطن الأمريكي والأوروبي، ويظهر له تلك المجتمعات، قمة من قمم النجاح، والسعادة، والرفاه، والسؤود، والاستهلاك، والحرية، والمبادرة.

وشاءت الثورة التكنولوجية والإعلامية والاتصالية، أن تتقهقر الحدود الجمركية القديمة، وأن تنهار الجدران، وتذوب مساحات الجليد، أمام الصورة بالقمر الصناعي، عبر شاشات التلفزيون، وشرائط الفيديو، فهجم المثل الأعلى الأمريكي، على المدن السوفييتية والأوروبية الشرقية، كما يهجم نور الشمس الساطعة على السجون، والمحتشدات المظلمة الحالكة.

ولم تجد تلك الإمبراطورية الشيوعية، ما تقاوم به هـذا الغزو، سوى يقظة القوميات، المخدرة منذ سبعين سنة. ثارت الأديان واللغات والأعراق، وحلت حروب أهلية عاتية، محل الوفاق الخادع، والسلام الهش، والصمت المفروض.

وبدأ العملاق الروسي يحرك جثته الحية، من تحت أنقاض الخراب [ ص: 46 ] الشيوعي. هـو أيضا يتطلع بدوره للإمبراطورية القيصرية . تلك التي ظل يحملها في قلبه وفي كتبه الكسندر سلجنتستين ، الحائز على جائزة نوبل، والمنفي في أمريكا ، والتي بدأ يعبر عنها فلاديمير جيرينفسكي بتطرف، وبوريس يلتسين بتكتيك.

بدأ العملاق الراقد مثل أهل الكهف، ينفض الغبار عن وجهه ويديه ويستعيد أسماء مدنه، ورموز عظمته، وآيات ثقافته، وأطلق سراح تلك الجمهوريات، التي كانت تدور في فلكه، لتواجه كل منها مصيرها، كما أطلق عقال شعوب أوروبا الشرقية في نوع من الذهول المدوخ.. ذهول السجين الذي خرج فجأة من زنزانته، ولم يتعلم بعد طريقة استعمال الإرادة والحرية، بل لم يفقه بعد طريقة استعمال حواسه الطبيعية.

وفي هـذا الخضم المتلاطم من الثورات والتحولات، فتح المسلمون أعينهم على عالم جديد، كأنهم يكتشفون جزيرة حي بني يقظان، وعرفوا أن الأمر جلل؛ لأن عليهم أن يصمدوا بإزاء العواصف الهوجاء، وأن يجوسوا خلال ركام الأيديولوجيات ، وتزاحم الهيمنات، حتى ينجو بإسلامهم، ويفرضوا هـويتهم، ويعيشوا عصرهم، دون الذوبان في ذلك الجهاز الأعمى الصاهر المسمى بالنظام العالمي الجديد، الذي لم توضع أسسه معهم.. بل وضعت ضدهم.

أفاق المسلمون على التحديات الجديدة المتربصة بمصالحهم، وهي تحاول التخطيط لمصادرة مصيرهم، وإخراجهم من حركة التاريخ، فتنادوا متواصين [ ص: 47 ] بالحق من أدنى الأمة إلى أقصاها، وإنك لتقرأ أصداء ذلك التواصي، فتدرك أن الضمائر استنفرت، وأن العقول شحذت، وأن الساعة دقت، لتجاوز مرحلة التواصي بالحق، إلى مرحلة العمل الصالح، بتنسيق الجهود المتبعادة، والخروج على العالم باستراتيجية إسلامية متكاملة، تكون الجذع المشترك لتلك الصفوات الواعية في ديار الإسلام كلها.. وما أحوجنا اليوم إلى ما يجمع، وما أغنانا عما يفرق.

إن ما يجمعنا هـو المنقذ من الضلال، إنها تلك الروح الحية المتوهجة من سراييفو بقلب أوربا ، إلى تمبكتو بقلب أفريقيا ، ومن سمرقند بقلب آسيا ، إلى نيويورك ، حيث ينشط المسلمون السود بقلب أمريكا ، ومن الدوحة بقلب الخليج ، إلى نواكشوط بالصحراء المغاربية ، ومن معهد الثقافة الإسلامية ببكين عاصمة الصين الشعبية ، إلى مركز الدراسات الإسلامية بواشطن عاصمة الولايات المتحدة ، ومن إسلامبول إلى الألف جمعية إسلامية النشيطة في مدن أوربا الغربية . إنها الأشواق والطموحات والتطلعات نفسها، تهز الضمائر وتحرك السرائر.

فانظر إلى المسلم المعاصر أينما كان. في أندونيسيا أو في السينغال ، أو في أفغانستان ، أو في الصومال ، عربيا كان في مكة المكرمة أو سلافيا في مدينة غوراجدة البوسنية، أو أفريقيا في لاغوس النيجيرية، أو آسيويا في مانيلا الفلبينية. لاحظه وهو يشاهد مجازر سارييفو، أو عدوان الصهاينة على مسلمي فلسطين ، على شاشات التلفزيون، تكتشف تلك الوحدة المثالية الرائعة في رد الفعل، فتقسم أنك بإزاء ظاهرة حضارية مدهشة، منعشة، [ ص: 48 ] اسمها الروح الإسلامية، مهما اختلفت الأعراق والألوان والجنسيات ومعدلات النمو، ومستويات الدخل الفردي، إنها الروح الإسلامية، حركتها الثورة الاتصالية الحديثة، وشحذتها هـذه السرعة المدوخة في وصول الأخبار عبر الأقمار...

كانت تلك الروح الإسلامية كالجمر المتوقد تحت الرماد. كانت ساخنة حارة، لكنها مخفية، ولعل الناس من حولها حسبوها ميتة، ركاما حطاما، بينما هـذا العصر أحياها، بفضل آنية انتقال الصورة، فعبارة الله أكبر التي يطلقها المجاهد الشاب من مجاهدي حماس في مدينة الخليل بفلسطين المحتلة، تدوي في اللحظة نفسها، بفضل (سي. إن.إن) الأمريكية، في عائلة سودانية بأم درمان ، وعائلة تونسية بالقيروان ، وعائلة مسلمة في تركستان . في الثواني نفسها التي يرفع فيها الأذان في مدينة بيهاش البوسنية ، عبر قعقة المدفعية الصربية الصليبية، تكون أصداؤه وصلت الجزائر وبيروت وإسلام آباد .

وأنا ذكرت محطة (سي. إن.إن) الأمريكية عن قصد، لأقول: إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل تلك الوسائل المعدة ضدنا، سلاحا في أيدينا، وأراد أن يحول بعملية إلهية، بعض الاكتشافات التكنولوجية الموجهة لصدرونا، إلى جنود لا نراها، تعزز صحوتنا، وتيسر وحدتنا، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

وسيكتشف القارئ، وهو يتابع فصولي، أن الحافز على تحرير هـذا الكتاب، هـو الإجابة على الحيرة الملحة، التي تظهر في كتابات المسلمين وغير [ ص: 49 ] المسلمين وهم يتساءلون عن منزلة الإسلام في عصر أعلنه الغرب -من خلال صمويل هـنتينجتون [2] - عصر صراع الحضارات، بعد نهاية صراع المصالح ، وصراع الأيديولوجيات . فما هـو سلاحنا الثقافي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في هـذا الصراع المقبل؟ وهل أعددنا لخوضه ما استطعنا من قوة فكرية وثقافية؟

وإنني توخيت بقدر الإمكان مجادلة أفكار الآخرين بالتي هـي أحسن؟ مفضلا إقامة البرهان على تشنج العدوان. راجيا ما يرجوه المسلمون، وهو أن يكون بين حضارتنا والحضارات الأخرى حوار هـاديء مستقيم، لا صراع عنيف مستديم. وإن النصر الذي ننشده للمسلمين في هـذا الصراع الحضاري ، ليس نصرا عسكريا، فنحن نأبى أن نختزل مجد الإسلام في قوة حربية، وهو دين اتخذ السلام منهجا، والسلام اسم من أسماء الله الحسنى، كما أن النصر الذي نأمله ليس طغيانا على الحضارات الأخرى، أو إرادة هـيمنة على شعوب سوانا بقدر ما هـو دفاع مشروع عن أصولنا الروحية، وثوابتنا الحضارية، حتى نعتمدها في تحديد مصيرنا، وصيانة استقلالنا، وإنشاء تضامننا.

ويعلم الله جل وعلا أننا قصدنا بهذا الكتاب، إثارة أقلام جيلنا المسلم من أهل العلم والفقه والمعرفة، حتى نسهم في إقرار فضيلة الحوار الذكي، [ ص: 50 ] الحي، حول شئون حضارتنا، من مناظير مختلفة، وبموازين متباينة، فالحق لا يتبين من الباطل، ولا الغي من الرشد، إلا متى خضع الموضوع للنقاش الحر الكريم، بما يخدم الإسلام، وينهض بالمسلمين.

ويحضرنا ما رواه سعيد بن المسيب ( عن علي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا، لم ينزل فيه القرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين -أو قال: العابدين- من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد ) [3] .

إن آفة الحضارة الإسلامية في عصرنا الراهن، القضاء برأي واحد، ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هـذا الحديث، فقد تجاوزت الدراسات الإسلامية، إلى درجة جعلت كل صاحب رأي يريد أن يقضي به، دون إجماع العالمين أو العابدين من المؤمنين، ودون جعله شورى بين الناس.

باتت قلوب المسلمين شتى من جراء انعدام فضيلة الحوار، ولعل أخطر ما يهددنا، هـو أننا نتقدم نحو الحضارات الأخرى المتكاتفة المتكافلة، ونحن ملل ونحل، ضرب أعداؤنا أعز ما يربطنا: ديننا.. عندما أفرغوا استقلالاتنا من محتواها الحضاري، فلم تنجل جيوشهم الدخلية عن أراضينا، إلا بعد أن عششت ثقافاتهم البديلة في ضمائرنا، ولم تغادر الإدارة الصليبية المباشرة مجتمعاتنا، إلا بعد أن فرخت بيضتها الصهيونية في وجداننا. [ ص: 51 ] فكيف نحاور الحضارات إذن بدون أن نعيد قراءة مراجعنا الأصيلة، حتى نتفق جميعا على الأصول، مهما اختلفنا حول الفروع. وهذا الكتاب أردته خطوة بسيطة على هـذا النهج القويم، في عالم متغير متحول، يموج من حولنا يوميا بالأفكار والاكتشافات، والتحديات، وثورة الاتصالات.

وأنا موقن أشد اليقين، أن هـذا الجهد عسير، وأن الفوز بالمقصد نادر، ولكن الإيمان بالله سبحانه يعد المحرك الأكبر للهمم، والحافز القوي للإرادة. فاتكالي عليه، وإنابتي له، فيما اعتزمت من عمل.

المؤلف
[ ص: 52 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية