الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الإسلام وصراع الحضارات

الدكتور / أحمد القديدي

الاقتصاد الإسلامي يؤسس على الفضائل

شهدت السنوات الأخيرة في أمتنا, رواج فكر علماني سفسطائي, وجد له منظرين, ووجد له بخاصة مستثمرين, فالكلمة السحرية التي أصبح يستعملها أعداء النهج الإسلامي, هـي كلمة اقتصاد, والدعوى هـي أن الخيار الإسلامي لا برنامج اقتصادي لديه, وثانيا: لا يكون الاقتصاد إلا عالميا. فكيف نصنع في دوامة الاقتصاد العالمي؟

هاتان في الواقع حيلتان من قبعة المشعوذين الجدد, كالأرنب والحمامة الذين يخرجهما المهرج للجمهور, وهما حجتان واهيتان, اعتمد نجاحهما لا على عبقرية الجاهلين, بل على جهل قسم من شباب الإسلام, بأسرار الاقتصاد ومحركاته وثوابته, مضاف إلى عدم إحاطة بالتراث الفكري الاقتصادي الإسلامي.

وعلي شبابنا إذا أراد توخي النجاعة, أن لا يقع في الدائرة التي يحددها أعداء الإسلام, في أي جدل حول الاقتصاد, بل أن يجلبوا هـؤلاء إلى الدائرة التي حددها الإسلام, وذلك لاختلاف تام بين المنظور الاقتصادي الجاهلي الرأسمالي السائد, وبين المنظور الاقتصادي الإسلامي المنشود, فهما خطان لا يلتقيان.

نحن ننطلق من أسس أخلاقية وفضائل إنسانية, وهم ينطلقون من منطق القوة العمياء, والربح السريع, والاستغلال الفاحش.

إن اقتصادهم يقوم على قانون الغاب، ويبيح كل أشكال الإبادة والقتل، [ ص: 96 ] ويصب في خزائن تجار الموت, وسماسرة السلاح، وقادة العصابات المنظمة، والجريمة المنسقة. كل الهرم الاقتصادي الدولي, مقام على الجور, قاعدته نهب ثروات المستضعفين، وإذلال الشعوب الفقيرة, وبث الفرقة بينها, وتوكيل الوكلاء على مصائرها, وإقرار سيادة الدول الكبرى على طاقاتها، وأسعار موادها الأولية.. أما قمة الهرم, فتمثله المصارف العملاقة, بفخاخ قروضها, وفوائدها, يعلوها جميعا عرش البنك الدولي, وصندوق النقد الدولي. كل الهرم مؤسس على أيديولوجية مواصلة الاستخراب, وتغيير أشكال النهب والسلب, وتزويق وجه الباطل بمساحيق النظام الاقتصادي العالمي الجديد, من أجل تسويق الاعتقاد بأن العالم يخضع لقانون أبدي خالد هـو الظلم, وتحكم الدول الأخطبوطية الكبرى في مصائر الشعوب.

هذه هـي الدائرة الفكرية التي يريدون أن يجرونا إليها ويحسبون أننا نسكت عن الكلام المباح, ونقر لهم بأننا عاجزون عن الخوض في الاقتصاد المكنى بالعالمي، بينما الحكمة هـي أن نشك في أسس هـذه الاقتصاد المفروض، ونفند بواعثه الأيديولوجية، ونفضح مروجيه السماسرة، انطلاقا من فقه الاقتصاد الإسلامي، الذي لا حل سواه، حتى نحمي مصالحنا الحيوية، ونضع مستقبل أطفالنا تحت مظلة ظليلة.

إن الواقع الراهن يثبت أن ما نسميه مقتضيات الاقتصاد العالمي، ما هـو إلا تكريس الهيمنة على خيرات الأرض, من طرف عشرين بالمائة من سكانها, ولهذه الأقلية وسائل سخرتها لاستمرار المظلمة, وآخر تلك الوسائل ما فرضته من ضريبة الكربون على إنتاج البلاد المسلمة من النفط, حتى تخضع لضغوط [ ص: 97 ] السوق, وتقبل بأسعار منخفضة لهذه المادة الحيوية، لا تستجيب لضرورات التنمية في مجتمعاتنا.. وآخر تلك الوسائل, هـذه القرارات الأممية القاضية بفرض حصارات على بلدان مسلمة, لأسباب شتى حتى تنهار مقدراتها وتنحل الروابط الإسلامية القائمة بينها, وبين جيرانها، ورهن مستقبل أجيالها لعقود طويلة قادمة.

كما أن آخر تلك الوسائل, الشروع في الترويج لمشروع الشرق الأوسط الاقتصادي، دون رفع الجور التاريخي المسلط على شعب مسلم, هـو الشعب الفلسطيني، وعلى حساب بلدان عربية مسلمة, لا تزال بعض أراضيها محتلة جهارا نهارا من طرف إسرائيل , رغم أنف قرارات مجلس الأمن الداعية لتحريرها.. وينادي المروجون للسوق الشرق أوسطية, بإذلال الشعوب المسلمة وحصرها في دور الأيدي العاملة، وإهانة بعض الدول العربية، بتسخيرها للتمويل, كأنما هـي خزائن مال, وليست شعوبا أصيلة، لها مجدها، ولها رجالها، ثم تخصيص دور إسرائيل في هـذا المثلث، يجعلها العقل التكنولوجي المدبر، والقلب الاقتصادي الحي, وما نحن إلا الأذرع الرخيصة, والخزينة المليئة, والأرض المفتوحة, والسوق المضمونة! وذلك يعني أن دار الإسلام ستكون لإسرائيل, وحماتها, أذرعا تصنع, وبطونا تبلع, وصيرفيا يدفع! فياله من مآل خزي, ومصير هـزيمة, أهون منهما أن يبدلنا الله سبحانه وتعالى بأمة غيرنا, ولا تكون مثلنا, وذلك هـو الوعد الذي أنذر به القرآن أمما هـانت على نفسها, ضربت على مصائرها المذلة, فهانت على أعدائها والمتربصين بها.

والسؤال هـو: بماذا نواجه هـذا الاقتصاد؟ وما هـو بديلنا؟ [ ص: 98 ]

أول ما يجب علينا فعله, هـو تفكيك آليات ذلك النظام الخادع, وفهم محركاته, والتدبر في الأيدي التي تديره في الظل, في مكاتب الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات, ومكاتب سماسرة السلاح, ومن تحت هـذه الأشباح توجد الأحزاب والحكومات في أوروبا وأمريكا , ومن تحتها قاعات تحرير التلفزيونات والصحف والإذاعات.

ثلاث مستويات تسير دفة الاقتصاد العالمي: صاحب المال, وصاحب القرار السياسي, ثم صاحب الرأي العام.. ونحن كشعوب وصفت بأنها سائرة نحو النمو نقع في هـذه الكماشة, وبين فكيها.

وثاني ما يجب علينا فعله, بعد الفهم, أن نرسي قاعدة قوية للاقتصاد الإسلامي, بفضل عمل متعمق رصين, يصل بين المثل الأعلى, وحياتنا اليوم, وبين النظرية القرآنية, والتطبيق في عصرنا الحاضر. وأخطر ما سيلاقيه علماؤنا وخبراؤنا المسلمون في هـذه المرحلة, هـو حجة الجاهليين والمتغربين القائلة: بأننا بعيدون بعد كوكب المشترى, عن عصر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وعن زمن نزول القرآن. وهي حجة باطلة, لأن رجل الاقتصاد الإسلامي يأخذ من روح القرآن وجوهر السنة, الأسس الأخلاقية الخالدة, ويطوعها ببصيرته وإيمانه وعلمه, حتى تلبس مشاكل عصرنا, ومعضلات واقعنا, شأنه شأن المربي في عالم التربية الحديثة, والطبيب في ميدان الطب, والإعلامي عندما يؤسلم الإعلام.

إن النكبة الحقيقية, هـي أساسا في عدم توفيق المسلمين اليوم, لابتكار اقتصاد إسلامي, وأصل هـذه النكبة سببان رئيسان: الأول جهل لا إرادي بالقيم [ ص: 99 ] الإسلامية في الاقتصاد, مما جعلنا نتخبط في الأنماط الواردة علينا, من شرق وغرب, حتى ضاع جيل كامل من الأمة المسلمة, في جدل أيديولوجي عقيم, بين أنصار الشيوعية ، ودعاة الرأسمالية ، وانقسمت شعوبنا إلى عربات مجرورة من طرف المعسكر الماركسي ، وعربات مجرورة من طرف المعسكر الحر, وتحملنا انتقال الجدل الاقتصادي , إلى خنادق سياسية، تمركز فيها هـؤلاء وأولئك, وبلغ بنا الحال إلى الحرب الباردة المنسوخة عن أصلها, الحرب الباردة بين العملاقين, فانقسمت صفوتنا إلى تقدمية ورجعية, وذهب كل فريق إلى شطط: الأول إلى شطط التصنيع الثقيل, والثاني إلى شطط التداين ورهن الإعناق لدى البنك الدولي للإنشاء وإعادة التعمير, ولم تنج إلا دول مسلمة قليلة, حاولت الأخذ من هـذا وذاك, وكادت ترسم سياسة اقتصادية غير منحازة ووطنية لولا مؤمرات دولية.

أما السبب الثاني, فهو انعدام التشاور والتنسيق والتكامل, وهو سبب داخلي وخارجي, لسنا بصدد تعداد منطلقاته, وهي معروفة, مما جعل سياستنا الاقتصادية, لا تقوى على تحقيق استقلال قرارها, ولا تقوى خاصة على تحقيق اكتفائها الذاتي, لا في التغذية, ولا في الصناعات الخفيفة المرافقة للزراعة.

ويأتي السبب الثالث, مكملا لهذه المعوقات, وهو الداء العضال, المتمثل في القطيعة بين المؤسسة التربوية, والمؤسسة الاقتصادية. القطيعة بين المدرسة والمجتمع, حيث ظلت مدارسنا, على مدى جيل تخرج العاطلين, وتدفع بالدفعات البشرية نحو المقاهي, والشوارع, كأن المدرسة كوكب صناعي يدور في فضاء رحب, لا تربطه بأرض الواقع رابطة, وتوالت في جل دولنا برامج الإصلاح, تجب برامج الإصلاح، ويتناوب على تخطيط مناهجها التربوية [ ص: 100 ] (خبراء) و (متعاونون) من دول أوروبا , ومن أمريكا ، ومن روسيا ، بينما الحل الأوحد هـو الخيار الأصيل النابع من إسلامنا، ومن هـويتنا، والمنصب في عصرنا، والمتكلم بلساننا العربي, قبل أية لغة أجنبية, فلا تغيير لاختياراتنا الاقتصادية، دون البداية بالتربية, التي هـي رحم الاقتصاد، وفيه ينشأ جنين الاستقلال، والهوية والنهضة. فكل بنيان نبنيه على غير أسسه، إنما هـو آيل للسقوط، مقدر عليه الانهيار، وجلت كلمة الله تعالى عن حضارة قوم عاد, التي أقاموها شامخة، لكن بدون التقوى -أي بدون الاستناد إلى أصول الإسلام- ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ) (الشعراء:128-132) . ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هـار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) (التوبة:109) .

إن مبدأ الانطلاق من شريعة الله في الاقتصاد, هـو تبين التضاد الكامل, بين المقصد الإسلامي، والمقصد الغربي -وهو الطاغي- فبينما يخضع المقصد الإسلامي, إلى نظرية الخير والشر, في شئون الإنتاج والبيع, والشراء, والكسب, والإنشاء كلها, يخضع المقصد الغربي, إلى نظرية الربح والخسارة, في تنظيم أمور السوق كلها.. وفي حين يرتكز المقصد الإسلامي, على عقيدة الحق والباطل في كل ما يتعلق بإيجاد الثروة, وتنميتها, يرتكز المقصد الغربي القائم حاليا، على عقيدة التوسع, والتكثيف، ومضاعفة الكم. [ ص: 101 ]

ولعله من اليسير علينا, إذا ما أرخنا لأمتنا الإسلامية, وللغرب الأوروبي, أو الغرب الأمريكي اليوم, أن نتأمل في ما انتهت إليه حضارتنا وحضارتهم.

لقد كانت الحروب الصليبية, التي دامت قرنين كاملين, تجسيما, عن طريق العدوان والحرب, لمنظور الغرب الاقتصادي, أي الربح والغنم السريعان, بواسطة التوسع والإبادة, وكانت كذلك أيضا عمليات غزو القارة الأمريكية, منذ 1492م على أيدي كرستوف كولمبو , ثم كانت كذلك الحملات الاستخرابية (المعبر عنها بالاستعمارية!) بداية من حلول جيوش نابليون بالقاهرة يوم 24 يوليو 1798, ومرورا باحتلال الشام والمغرب الإسلامي , والهند , وأندونيسيا , تحت شعار توسع السوق الأوروبية -غير الموحدة آنذاك- إلى يوم الناس هـذا, حيث نعاني من ويلات العقيدة نفسها بطرق أخرى, أي من انعكاسات قانون السوق.

ثم انظر إلى آثار عقيدتنا الإسلامية, التي أفشلت الحروب الصليبية بسلاح الإيمان والجهاد أولا, ثم بتمسك المسلمين بالثوابت الاقتصادية. فكم من حصار لمدن مسلمة, دام شهورا, ثم اندحر على أعقابه, وانهزم فيه المحاصرون, بسبب النظام الاقتصادي المتبع, من الإيثار والصدقة, وتكثيف الإنتاج والقناعة, بل وابتكار اقتصاد حرب إسلامي متكامل, مثل نهاية حصار أنطاكية وأسر حاكمها بوهيموند الصليبي سنة 1100م, وانتصار المسلمين في الموصل سنة 1127م, واستيلاء عماد الدين زنكي على حلب سنة 1128م, إلى آخر هـذه السلسلة المشرقة, التي أدى فيها الاقتصاد الإسلامي رسالته الجهادية. [ ص: 102 ]

وكان مصير المعتدين الصليبيين الهزيمة, والعودة إلى نقطة البداية, بعد قرنين, فانتهت الصليبية بموت ملك فرنسا القديس لويس في قرطاج سنة 1270م, وأسر ملوكها, مثل ريتشارد قلب الأسد , وكانت نتيجة الحملات الصليبية, انتقال النظام الاقتصادي الإسلامي في بعض مظاهره إلى أوروبا , مثل الزراعات, وتنظيم الأسواق, والمسالك التجارية. وبعد قرون من ذلك العهد, انهزمت جيوش نابليون في مصر , وكانت المقاومة الاقتصادية المسلمة, للدخيل المحتل, وجها من وجوه الصمود, مثلما جاء في مذكرات أحد المؤرخيـن الفرنسيين, المشاركيـن في الحملـة Vivant-Denon (فيفان دونان) وكما أكده الجبرتي في تاريخه, ولعله من الرموز الناطقة بعزة الإسلام, أن يتسلل نابليون هـاربا ناجيا برأسه من مصر, تاركا نائبه كليبر , الذي قتل على يد الشهيد الإسلامي سليمان الحلبي , وتولى الجنرال مينو عوضا عنه قيادة جيش الاحتلال, فانحاز إلى جانب المسلمين, وأشهر إسلامه وأصبح اسمه عبد الله مينو.

وهكذا انهارت آخر الحملات الصليبية, وأولى الحملات الاستخرابية, إلى أن تقاسمت دول أوروبا المشرق والمغرب الإسلاميين, بداية من مطلع القرن التاسع عشر, وأول ما صنعته, كان تخريب الاقتصاد الإسلامي, بالتوازي مع مقاومة دين الأمة ولغتها, ومعالم حضارتها, وتم بسرعة تذييل قوت الشعوب, وربط اقتصادها باقتصاديات مركزية أوروبية, وتمادت هـذه الحالة من التبعية المادية والمعنوية, حوالي قرن, إلى أن نالت بلداننا استقلالاتها الإدارية والعسكرية, ولكنها في أغلبها ظلت تعاني التشابك القوى, بين اقتصادها, واقتصاد أوروباوأمريكا وأحيانا روسيا , وظلت كذلك تعاني زعزعة قواعدها الدينية واللغوية, وارتجاج ثقة المسلمين في هـويتهم وحضارتهم, ولعلها إلى اليوم [ ص: 103 ] تحمل أوزار ضعفها ووهنها, وتبحث عن الخلاص.

ثم يكفي مقارنة حضارة الإسلام, بالحضارة الغربية, في مثل تاريخي واحد, لتعرف مدى قوتنا, ومدى هـشاشتها. وهذا المثل هـو كما أسلفنا الوجود الصليبي في مشرقنا الإسلامي من 1095م إلى 1270م, واحتوى على ثماني حملات مدججة بالسلاح والمال, وتعاونت فيها أوروبا كلها, واستعملت أساليب الإبادة والتهجير والتنصير كلها, لكنها باءت بالهزيمة النكراء, ولم تؤسس دويلة, ولم تترك أثرا عمرانيا, أو معلما ثقافيا, بل غنم الصليبيون النهضة الإسلامية, لبناء مدنهم, وتكوين جامعاتهم, حتى إن أول مستشفى أوروبي, نشأ بعد أن شهد الصليبيون مستشفى دمشق , ومصحة شنيزر.

وبالمقابل تأمل وجود المسلمين في الأندلس : ثمانية قرون كاملة، من الحضارة، عمادها اقتصاد راسخ, وعدالة متسامحة, ومعمار أصيل, وأدب رفيع, وطب مزدهر, حتى إن نظام الري القرطبي، لا يزال معمولا به في إسبانبا إلى اليوم.

فشتان بين حضارة الإسلام، القائمة على تسخير الوسائل، من أجل الغايات، وبين حضارة الغرب, القائمة على تسخير الوسائل, لمضاعفة الوسائل بلا غايات.

ونحن حينما ندعو إلى الرجوع إلى جوهر الاقتصاد الإسلامي، فإننا لا ندعي الإحاطة بهذا الاختصاص, بل إن غايتنا تحريك سواكن فقهاء الاقتصاد الإسلامي حتى ييسروا هـذا العلم, ويستنبطوا أسبابه، ويثروا روافده, وقد شرع المسلمون في هـذا العمل الصالح, فصدرت الدراسات الجامعية, حول [ ص: 104 ] المصارف الربوية, وفضحت دراسات أخرى مؤامرات تحديد النسل, وكشفت دسائس إباحة الإجهاض, وكل ما من شأنه تشويه دار الإسلام, وتحجيم قوتها, وخضد شوكتها.

وأول ما يجب الرجوع إليه, هـو أصل عبارة الاقتصاد, التي جاءت من ( ق ص د ) أي المنهج السوي، ووجوب النية، بعكس عبارة Economy التي اشتقت من التوفير.

فالجذور الإسلامية للكلمة, انغرست إذن في تربة الدين, والفضيلة, والأخلاق, باشتراط النية, وفرضية استقامة النهج, بينما جاءت الكلمة الغربية من مبدأ جمع المال, وتوفيره, وكنز الثروة.

وقد ذكر الله في كتابه المجيد مشتقات القصد ست مرات, هـي كالآتي: ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) (لقمان: 19)

والمعنى هـو: اليسير المتعارف أي عدم الإسراف, ولكن أيضا إخضاع المشي إلى سلوك أخلاقي, يوجب التواضع والتعفف.. ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) (لقمان: 32) .

المقتصد في أداء الشكر والحمد لله, بعد أن نجاه ربه إلى البر, أي القائم بواجب الشكر, دون تجاوز ذلك السلوك, إلى إيفاء حق الله كاملا من العرفان ويفيد معنى الكفاية والتقليل.. ( لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ) (التوبة: 42) . [ ص: 105 ]

هنا يعني المولى عز وجل أولئك المنافقين الذين يتأخرون عن الجهاد, أما لو دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عرض قريب, أو سفر قاصد (بمعنى له قصد وغاية) لاتبعوه, ويلاحظ هـنا استعمال القاصد بمفهوم الغاية. ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) (فاطر: 32) .

تلاحظ هـنا الدرجات الثلاث, التي وضع فيها الله سبحانه ورثة الكتاب، ممن اصطفاهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد, ومنهم سابق بالخيرات, ويحدد الله منزلة المقتصد كدرجة بين ظلم النفس وهي رزيلة, وبين السبق بالخيرات, وهي فضيلة, وتفيد الوسطية السلوكية, حيث لا عقاب الأول ينالها, ولا ثواب الثالث. ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) (المائدة: 66) .

وهنا يتعرض الله سبحانه وتعالى لأهل الكتاب, ويطنب الشيخ الشهيد سيد قطب في شرح معنى الأمة المقتصدة, غير المسرفة على نفسها, قائلا رحمه الله: ( يبدو من خلال الآية, أن الإيمان والتقوى, وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية.. لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده -وإن كان هـو المقدم وهو الأدوم- ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا, ويحقق جزاء العاجلة, وفرة ونماء, وحسن توزيع, وكفاية, يرسمها في صورة حسية, تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) [1] . [ ص: 106 ] ثم نأتي للآية التي ذكرت القصد بذلك المعنى الجليل الذي عرضناه: ( وعلى الله قصد السبيل ) (النحل: 9) .

ويفيد القصد هـنا: تبيان المنهاج, ورسمه على النية, وهي أمانة أوكلها سبحانه لذاته العليا: (وعلى الله قصد السبيل) , ونحن ندرك أبعاد تلك الأمانة, فنجعل من قصد السبيل -ما نعبر عنه اليوم بالاقتصاد- وسيلة لبلوغ غاية سامية كريمة, ألا وهي تحقيق إنسانية الإنسان, ودعم أواصره بخالقه, وإعادة ترميم الجسور التي انهدمت, أو كادت, بينه وبين السعادة, وبينه وبين عالم الغيب, إذ الشهادة مقرونة بالغيب.

هذا هـو السر المكنون في الجهاد الاقتصادي الإسلامي, وهو الذي ينبغي أن يعلو على الأرقام, والجداول, والحسابات, والأرباح, ومعدلات الإنتاج, ومسالك التوزيع, وإلا كان مآلنا مآل الأمم الخاسرة, مهما كان دخلها, وهل تجدون تفسيرا لشعب مثل شعب السويد , حقق رقمين لهما عبرة:

- حقق رابع معدل في الإنتاج الوطني الخام في العالم.

- حقق أول نسبة في الانتحار لدى الشباب, ما بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين سنة, وذلك في عام 1992م.

يقوم جوهر الاقتصاد الإسلامي, على ثوابت خالدة, صلح بها حال المسلمين في فجر الإسلام وعزه, ويصلح بها حالهم اليوم, إذا أعملوا فيها حكمة الاجتهاد, واخضعوا لها معاملاتهم, وهذه الثوابت توجز [ ص: 107 ] في المباديء التالية:

الملكيـة: العقيدة المؤسسة للاقتصاد الإسلامي, هـي الإيمان بأن ملكية العالم لله وحده سبحـانه, ومـا الإنسـان إلا مؤتمـن عليه: ( لله ملك السماوات والأرض وما فيهن ) (المائدة:120) .

وهنا يراجع الفصل الذي أفردناه, للخلافة, والأمانة, في هـذا الكتاب.. وملكية الله للعالم, تجعل من رسالة الإنسان المستخلف المؤتمن, رسالة صيانة وحفاظ وتوريث للثروات, التي في السماوات والأرض، وقد توصل كل علماء الاقتصاد, والبيئة, والفيزياء, والاجتماع, حتى في الغرب نفسه, إلى أن معضلات الإنسان المعاصر, من التلوث, إلى تخريب الطبيعة, تعود إلى اعتقاد الإنسان, بأنه سيد الكون، وما الأحزاب الخضراء الصاعدة في الغرب, إلا دعوة لهذا النبع الصافي, لوضع الإنسان في منزلته الحقيقية من الكون, أي أنه جزء منه, لا مالكه الأوحد, وهو أساس الفكر الاقتصادي المسلم.

أما الملكية الصغيرة أي حق التصرف, وحق التوريث, فقد بينهما القرآن الكريم والسنة المطهرة بما لا يدع مجالا للتأويل, ويبقى الإسلام حضارة اقتصادية متكاملة, امتازت بذلك عن الأديان السابقة, وحتى النظريات اللاحقة.

الإنفـاق: من أبدع ما عرف به الله سبحانه المؤمن, صفة الإنفاق مما رزق, ( ومما رزقناهم ينفقون ) (البقرة: 3) . وذلك في أول آيات أول سورة بعد الفاتحة, حيث وضع الله عز شأنه, شروط إيمان المؤمن: [ ص: 108 ]

( الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هـدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) (البقرة:1-3) .

وصفة المؤمن إذن, هـي عدم حبس المال, وهي قاعدة قرآنية, وقاعدة أساسية في علم الاقتصاد الحديث, إذ أن دور السيولة في مجرى الحياة, هـو الضامن للانتعاش الاقتصادي, وما نسميه اليوم: تنمية. وقد ربط الله بين الإيمان والإنفاق لجعل المسئولية الاقتصادية للمسلم, موازية لمسئوليته الإيمانية: ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ) لأن الإنسان المسلم ليس متلقيا للعمل التنموي, بل هـو باعثه, والمسئول عنه، والمطالب به, أي وسيلته وغايته في آن واحد.

وقدر الله درجة الإنفاق فوضعها بين التبذير والتقتير, أي في الدرجة الوسطى بين رزيلتين, وكل درجة وسطى هـي فضيلة -عدم غل اليد إلى العنق, وعدم بسطها كل البسط- وهذه الوسطية هـي العقيدة الأساسية في النهج الاقتصادي الإسلامي, لأنها تقف ضد الحرية المطلقة المتوحشة للرأسمالية , وضد التقييد القاتل المشل للشيوعية .

أليس هـذا هـو ما وصل إليه علماء الاقتصاد, في العصر الراهن, بعد انهيار الماركسية , وإعادة النظر في الليبرالية ؟

المال: إن الإنفاق في القرآن الكريم مقترن بالمال, أي بعصب الاقتصاد, فأعلن سبحانه وتعالى أن المال مال الله: ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) (النور:33) .

ثم جعل صفة حب المال، صفة شائنة، تقصر صاحبها على حياة البهائم، [ ص: 109 ] وتحط من إنسانيته.. وجعل صفة جمع المال, وتعداده صفة، ترخص من قدر المرء, وتزيغه عن سواء السبيل, حتى ولو ظن أن ماله أخلده, كما جاء في آيات مبثوثة في الكتاب المجيد. ثم إن الله سبحانه ألغى الفوارق، بين غني, وفقير, حيث لا يشفع المال لصاحبه يوم القيامة، ولا يفيده في الدنيا، إلا متى زكى وتصدق, وأنفق حلالا, كما توعد الله الذين يأكلون المال الحرام, أو يأكلون أموال الناس بالباطل, أو أموال اليتامى, في عديد من السور النيرة, مثل سورة البقرة, والنساء, والروم, وتوج الفكر القرآني, هـذه النظرية الأخلاقية السامية, لوظيفة المال, بأن سخره للجهاد, إلى جانب النفس: ( وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) (الصف: 11) . ( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) (التوبة: 88) .

ولم يكتف القرآن بسن هـذه القيم العليا الخالدة, بل فصل سبل صرف المال تفصيلا عجيبا, لم يفرط في جزئية, فقدر توريث المال, وقنن كفالة الأيتام, وعين الصدقات, وحدد الزكاة , وبين الخراج والجزية , وأنذر الذين ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله.. وكل ذلك, وهب للإنسانية منهاجا للكسب والإنفاق, يقع داخل إطار أخلاقي فذ, من التعامل الاقتصادي والاجتماعي, ولم نجد له نظيرا في الأديان الأخرى على الإطلاق, وتحت هـذه الراية الفريدة, سبق القرآن كافة المدارس الاقتصادية الحديثة, برفضه انحصار الثروة في [ ص: 110 ] الطبقات, أو قيام دولة المال على حساب مجموع الأمة: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) (الحشر:7) .

الرزق: أعظم سمة للفكر الاقتصادي الإسلامي, ربطه المحكم, بين الكسب والرزق الحلال, فقد زخر القرآن, وحفلت السنة, بهذه المعاني فالله هـو الرزاق, وعطاؤه ينعت بالطيبات, والإنفاق يجري من هـذا الرزق, أي أن معنى الإنفاق يكتسي قيمة الدين, وإعادة الخير إلى صاحبه, مما يكبح جماح الطغيان, بفتنة المال, فالمؤمن يكسب رزقا وهبه إياه الله تعالى, وإنفاقه في وجوه الخير, هـو إرجاع الحق إلى صاحب الحق, ويتدخل عالم الغيب في عالم الشهادة, في هـذا الميدان, حيث يعلن الله سبحانه أن: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (الطلاق:2-3)

ويقرن سبحانه لفظتي الحلال والطيب, ليضع حدوده التي لا يتجاوزها المؤمن.. ثم أوضحت السنة النبوية شراكة الناس في مصادر الرزق الأساسية, وعدم انفراد نفر أو جماعة بها: ( قال الرسـول الكريم صلى الله عليه وسلم : الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار ) ، (رواه صاحب مصابيح السنة في الحسان, وأبو داود في التاج, وابن ماجة في حديث أبي هـريرة , وإسناده صحيح عن سبل السلام) [2] . [ ص: 111 ]

الأجـر: ترددت عبارة الأجر في القرآن الكريم, بدرجتين, درجة الثواب المتاح لفاعل الخير المؤمن, ودرجة المقابل المادي لعمل دنيوي.

مثال الدرجة الأولى: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ) ( فاطر:7) .

ومثال الدرجة الثانية: ( قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) (القصص:25) .

وبهاتين الدرجتين في القرآن, يكتسب الأجر معنى روحيا صرفا, ومعنى ماديا محسوسا, فيحافظ الأجر في الإسلام على الصفتين معا, ويشحن المصطلح العربي بطاقة دينية أخلاقية، لا تجدها في سواه من الأديان, ولا في سوى العربية من اللغات. فالله سبحانه قدر الأجر للشهادة في سبيله, وللصبر، والإحسان، والنجدة، والوفاء، والتقوى، والعفو، والإصلاح، والتصدق, بدون من أو أذى، إلى غير هـذه الصفات الحميدة.. ومن عبقرية المنهاج الاقتصادي الإسلامي, أننا نجد تلك الصفات نفسها, مطلوبة لدى الإنسان في تعامله التجاري والاجتماعي عموما, كأنما القرآن, يرجو تنظير الإنسان في عبادته, بالإنسان في تجارته، [ ص: 112 ] باشتراط الصفات نفسها, في هـذا وذاك, وهنا يحضر مثال (الميزان) في الذهن، وقد أطلق القرآن المجيد مصطلح الميزان على العدل الإلهي المطلق, وعلى الجهاز الذي يستعمل للوزن، والمعنيان نفساهما أعطيا لكلمتي القسط والقسطاس.

التجـارة: ينزل القرآن التجارة, منزلة المعاملة مع الله سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا هـل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) (الصف: 10) .

ثم يستعمل القرآن الكلمة نفسها بمعنى المعاملة مع الناس, بل جمعها مع اللهو, داعيا الترفع عنها: ( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ) (الجمعة: 11) .

وأخيرا يستعمل القرآن كلمة التجارة, بمعنى ثالث محايد, وهو المعنى الاقتصادي المتعارف إلى اليوم: ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) (النساء: 29) .

ثم مضى القرآن ومضت السنة في بيان هـذه المعاني الثلاثة, بتطهير التجارة من الربا , والغش, والاحتكار , والرشوة , والترف, والطغيان, والاستغلال , وذلك بمجموعة من الآيات القرآنية, والأحاديث القدسية والنبوية, معلومة لدى كل من عكف على بحث المنهاج الاقتصادي الإسلامي: [ ص: 113 ]

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) (البقرة: 278- 279) .

هذه بعض القيم التي تجعلها حضارة الإسلام عدتها, لخوض صراع الحضارات إذا لم يكن بد من هـذا الصراع المعلن, وهي قيم تقتضي, أن يكون الراعي مسئولا عن تطبيقها, بعد سنها, لا أن نملأ بها خطبنا للتمويه, ثم ينفذ عكسها.

وقد ضرب لنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه , أرقى أمثلة المسئولية - والمسئولية الاقتصادية بالذات - حين " قال: والله لئن بقيت لأوتين الراعي بجبل صنعاء , حظه من مال بيت المسلمين, وهو يرعى مكانه " (مسند الإمام أحمد ) .

وخلاصة قولنا: أن الاقتصاد الذي اعتبره الجاهلون حجة علينا, إنما هـو حجة لنا, وإن البرامج الاقتصادية التي يدعي أعداؤنا افتقادنا لها, إنما هـي ميراثنا من الحضارة الإسلامية, بفضله انتشرت رسالة الإسلام, وستزداد انتشارا. كل القضية أننا شربنا من غير حياضنا, وأننا وردنا من غير نهرنا, فحسبنا أن قدرنا -الاقتصادي- هـو أن نبقى تابعين خانعين, في حين أن في أيدينا مفاتيح نهضتنا, وأسرار تقدمنا, ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 114 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية