في البدء كان فجر الإسلام
وإنك إذا قرأت الأغلبية من كتابات المستشرقين ، أو تلاميذهم العرب، لوجدت تسليط الأضواء على الفتنة وتبعاتها، أي على التاريخ الأصغر، وذلك لإثارة النقع على التاريخ الأكبر: تاريخ الفتوحات الزكية، والبطولات الجبارة.
يعدد الدكتور شعبان محمد إسماعيل الخلافات بين الأشخاص في فجر الإسلام، كما يلي:
أول خلاف: لم يتفق المهاجرون والأنصار على منصب الخلافة في سقيفة بني ساعدة ، بعد التحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى.
ثاني خلاف: اعتزال على رضي الله عنه وبعض الصحابة وأهل البيت، الدخول في البيعة.
ثالث خلاف: تفرق الكلمة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حول المرتدين ومانعي الزكاة.
رابع خلاف: تغلب الرحمة على الحزم، واللين على الشدة، في عهد عثمان رضي الله عنه ، مما أعان على استرسال الغواية.
خامس خلاف: مبايعة على رضي الله عنه في غمرة مقتل عثمان رضي الله عنه . [ ص: 77 ]
سادس خلاف: قضية التحكيم الشهيرة بين علي رضي الله عنه ومعاوية .
سابع خلاف: ظهور الفرق الثلاث نتيجة للفتنة:
(أ) جمهور الأمة، الذي يرون وجوب الطاعة لولي الأمر.
(ب) أنصار علي رضي الله عنه وأهل البيت، القائلون بأحقية علي في الخلافة.
(ج) الخوارج ، الذين عارضوا هـؤلاء وأولئك.
في البدء إذن كان فجر الإسلام متفجرا بهذه الخلافات، لكن القراءة المنصفة للفتنة الكبرى لا تختزل فجر الإسلام في أحداثها، بل تحاول أن تستخلص عبرها السياسية والفكرية التي ساعدت على انتشار الإسلام.
وهذه القراءة لا تتاح إلا متى جردنا الأحداث عن رداء التزوير والتهويل الذي ألبسته كتب الأدب المتعاقبة للتاريخ المحض، فأضفت عليه صفات أسطورية تراكمت مع مر القرون، حتى خبا وهج اللهب الإسلامي، تحت أكوام الرماد الخرافي.
وإنك لو حللت كل خلاف من الخلافات المذكورة، لوجدته منطلقا لمدرسة فقهية أو شرعية، كان لهما فضل فيما بعد في تجسيم الفكر الإسلامي الخصب الممتد عبر خمسة عشر قرنا من مجد الإسلام إلى يوم الناس هـذا.
فالخلاف الأول: وقع والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يزل مسجى في بيته لم يوار الثرى بعد، وهو خلاف يدل على حيوية المسلمين الأقدمين، وميلهم إلى استعمال عقولهم، في أشق فترات التوهج العاطفي، وإنك إذا راجعت وقائع حوار السقيفة لأيقنت أنك بإزاء مجلس شورى حقيقي، حر ذي صلاحيات [ ص: 78 ] نسميها اليوم دستورية ، أين منه أغلب المجالس الراهنة. فالخلاف بين المهاجرين والأنصار كان في الحقيقة شعورا حادا بالمسئولية، لدى أوائل المسلمين، نظرا لثقل الأمانة وأهمية قضية الاستخلاف. فالسقيفة ليست شقاقا بقدر ما هـي مرجع للشورى الخالصة المتميزة في الإسلام. ثم إن هـذا الخلاف انتهى بإجماع. والإجماع هـو الأصل الإسلامي لحكم الأغلبية، دون قهر الأقلية. وهي ميزة يختص بها تاريخ الإسلام دون غيره من الحضارات.
أما ثاني خلاف: أي اعتزال علي رضي الله عنه البيعة ، فإنه يضع أسس التوازن في الحكم، وهو مصدر أصلي من مصادر الفكر السياسي الإسلامي . ألم يصفق المثقفون المعاصرون اليوم لثنائية المسئولية، بين أهل الحكم، وأهل المعارضة في نطاق سنة الحوار والتداول. كان ذلك هـو جوهر اعتزال علي رضي الله عنه : منع الانفراد بالسلطة، وإيجاد توازن حي، بين صاحب الأمر، وصاحب الرأي، والحفاظ على إمكانية التداول. وهكذا يجب أن نقرأ هـذا الخلاف.
ويأتي الخلاف الثالث: ليكرس الشورى في أروع معانيها، إذ تعتمد على تفسير ثاني مصادر التشريع أي السنة، ولا تعتمد على الهوى. فقد حدث في عهد الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه ، أول نكوص عن الالتزام بأحد ثوابت المجتمع الإسلامي، وهو الزكاة ، مما أذن ببداية زعزعة ذلك البناء الجديد، في زخم تحديات داخلية وخارجية متراكمة. فالزكاة إحدى قواعد الإسلام الخمس، كما أنها ركيزة الدولة الإسلامية الناشئة، والمساس بها يعد بالطبع ردة عن الدين، وتدميرا للمجتمع الفتي.
لكن الذي وقع، كان حوارا فقهيا وسياسيا، بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فكان الخليفة الأول يرى وجوب قتال مانعي الزكاة، بينما يرى عمر [ ص: 79 ] ألا يحاربوا، متمسكا ( بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ) [1] فبين أبو بكر لعمر ، أن الزكاة من حق لا إله إلا الله، " قائلا: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه " . " فقال عمر: فوالله ما هـو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق " [2] وأجمع القوم على رأي واحد، وتمت محاربة مانعي الزكاة، ونجا الإسلام في صدره من فتنة محققة.
إنها تجليات أخرى مرجعية لسماحة الحوار وآدابه، وانطلاق الخلاف الفقهي من نص القرآن أو السنة المطهرة، كمصدرين للتشريع قبل الإجماع.
ونأتي إلى الخلاف الرابع، حول أهم وأخطر مسألة من مسائل الحكم ألا وهي حدود صلاحيات الحاكم، وضوابط المسئولية، ووضع الفواصل الشرعية والقانونية بين المصالح الشخصية والأسرية، ومصالح عامة المسلمين. وهذا الصنف من الخلاف نراه مؤسسا للفقه السياسي في الحضارة الإسلامية، نعتز بسبقنا فيه على الحضارات كافة، حتى وإن كان عنيفا بالدرجة التي جرت ضمنها الأحداث. وإننا لسنا بصدد إفراد حادثة اغتيال عثمان رضي الله عنه ، بالحديث المطول، فالكتب التي خصصت للفتنة الكبرى كثيرة ومتنوعة [3] بل [ ص: 80 ] تكفي إشارتنا لعمق الجدل الفقهي السياسي ، الذي دار على ألسنة أسيادنا الصحابة الأجلاء في ذلك العهد، قبل وأثناء وبعد حادثة اغتيال ثالث الخلفاء رضي الله عنه . فقد أثيرت في ذلك الجدل أدق قضايا الفكر الاجتماعي والاقتصادي، وأكثر مشكلات الحكم تعقيدا وتشعبا، إن في تقويم تصرف ذي النورين عثمان رضي الله عنه ، وإن في الحكم على تصرف مغتاليه. وإنك لظافر في هـذا الجدل، بأبرز أسس علم الاجتماع والفلسفة السياسية، وفقه المعاملات، وحتى القانون الدستوري ، مما لا شك، هـيأ فكريا لقيام الدولة الإسلامية واستنادها إلى ثوابت قارة من المباديء والمثل.
ويجيء الخلاف الفلسفي المتمثل في تباين الآراء والمصالح حول مبايعة الإمام علي رضي الله عنه ، في غمرة الضجة الكبرى، الي أحاطت باغتيال عثمان رضي الله عنه ، وهذا الخلاف مهما كان تأثيره، لم يخرج عن كونه يشتمل على جوانب شخصية وفقهية، أما الجوانب الشخصية فتتعلق مثلا بحديث الإفك وما روي " عن علي من أنه قـال للنبي صلى الله عليه وسلم : النساء سواها كثير، فشق ذلك على عائشة " حسبما يذكره القرطبي في تفسيره [4] أما الجوانب الفقهية، فكتب التراجم والتفسير تزخر بها، وهي تطوف حول منزلة علي من الرسول صلى الله عليه وسلم ، والأحاديث المتواترة الواردة في هـذا المعنى كثيرة، ومنها:
( من كنت مولاه فعلي مولاه ) [5] ، ( وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هـارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي ) [6] [ ص: 81 ]
وأن ما يهمنا استخلاصه من هـذا الخلاف، هـو أنه كان المنطلق الحقيقي الأول لمعالجة المسلمين لمسألة الإمامة، والقيادة، والزعامة، وقد نشأ عن ذلك الاختلاف المبارك شعور بمسئولية المجتمع الإسلامي في اختيار الخليفة، وطرحت مشكلة الشرعية لأول مرة، حينما تم الاتفاق على وجود خمسة مناهج متباينة في اكتساب الشرعية:
(أ) ترك الأمر للأمة كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سكت عن التعيين.
(ب) ممارسة الشورى بعد الجدل والاختلاف ثم الاتفاق، كما تم في السقيفة حين تعيين أبي بكر الصديق .
(ج) التعيين الصريح مثلما فعل أبو بكر حين أوكل بالخلافة لعمر رضي الله عنهما .
(د) اصطفاء ما سمي من بعد بأهل الحل والعقد ، يتولون اختيار الخليفة، نيابة عن المسلمين مثلما وقع عشرات المرات في التاريخ الإسلامي.
(ه) أخذ الإمامة بالقهر والغلبة، وهو أمر تم كذلك في فترات متعددة ومتباعدة من الحضارة الإسلامية، وقد أطنب فيه سهل بن عبد الله التستري وابن خويز منداد [7] .
ثم نأتي إلى الخلاف السادس، الأخطر والأكثر تأثيرا في مجرى الحضارة الإسلامية، على مدى قرون، وهو تأسيس الدولة الأموية، وتعويض الأساليب [ ص: 82 ] التي ذكرناها، بأسلوب التوريث، ورغم ما قيل في التوريث من اعتماد مناهج الساسانيين والبيزنطيين ، فإن له أصولا في التنظيم الجاهلي العربي لا يمكن نكرانها، بفضل الارتباط الوثيق بين صلات الدم وصلات القوة لدى القبائل العربية الكبرى، وهو ما عبر عنه فيما بعد عبد الرحمن بن خلدون، بالعصبية. ونحن نميل للاعتقاد بأن التوريث ليس هـو الخطر الذي هـدد الحضارة الإسلامية بل إن الخطر الفادح جاء من أن صاحب الأمر، أصبح هـو صاحب الرأي، وتمت ازدواجية كاملة بين من بيده السيف، ومن بيده الفكر.
ثم نخلص للخلاف السابع: انقسام المسلمين الأوائل، قبيل وأثناء وعلى إثر انتصار معاوية ، إلى ثلاث فرق كبرى، دون الجماعات الصغرى التي لا تحصى:
(1) فرقة المنتصرين لمعاوية، والذين بدأوا - فيما ذهبت إليه بعض الروايات - برفع المصاحف على الرماح، في موقعة صفين ، مطالبين بالتحكيم، وانتهوا بعد مقتل على رضي الله عنه ، إلى بناة الدولة الإسلامية الجديدة، فانتقلت الخلافة، على أيديهم إلى ملك.
(2) فرقة شيعة علي وآل البيت، التي تأسس معها المذهب الشيعي، فرافق كل تقلبات التاريخ الإسلامي ومنعرجاته، وتضاريسه، من سنة 40 هـ (661م) سنة مقتل علي رضي الله عنه ، بيد عبد الرحمن بن ملجم الخارجي ، إلى يوم الناس هـذا، بدون انقطاع.
(3) فرقة الخوارج ، التي تأسست على رفض التحكيم، ثم استحلت قتال علي، لقبوله بالتحكيم.
وهكذا فإن الخلاف السابع، كان هـو الخلاف الأكبر، ومنه انبثق شيء [ ص: 83 ] جديد كان مجهولا في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، وهذا الأمر الجديد هـو (السياسة) بالمعنى الذي أقره فلاسفة الإغريق القدامى، وخصوصا أفلاطون وأرسطو وسقراط ، وبالمعنى الذي نعرفه اليوم، أي أن الحضارة الإسلامية دخلت مرحلة بناء مؤسسة الدولة، بما فيها من خير وشر، فأما الخير العميم فكان بالطبع سرعة استشراء الإسلام في العالم الذي ما كان لينجز لولا قوة السلطان الرافعة لواء القرآن، وأما الشر الوخيم فكان الانشطار بين المؤسسة الرسمية، والصفوة الفكرية، وما نتج عنه من ضياع الحق بالقمع والتدجين، وشراء الضمائر، بالرغم من أن منارات فكرية عديدة سلمت من الغرق، واستقلت بحريتها، ونالها الاضطهاد، فلم يطفيء لها نورا. ( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) (الصف: 8)