الخلاصـة
لقد حاولنا في فصول هـذا الكتاب، أن نتجنب الجدل مع صاحب نظرية صراع الحضارات (أو صدام الحضارات) تيمنا بالفقهاء المسلمين الأولين، الذين يتورعون عن الخوض في صراع شخصي، أو فكري، مع صاحب رأي، مفضلين على الصدام إقامة الحجة، وإصابة المعنى، وإيجاز اللفظ.
ولقد رد على صوميل هـنتينجتون ، مثقفون مسلمون كثر [1] جزاهم الله خيرا، كفونا مئونة المواجهة الفكرية. إننا أردنا هـذا العمل، بيانا لما يمكن للمسلم أن يتحصن به، من جليل المثل، وكريم المباديء، وقوي العتاد، وهو يسعى لحوار الحضارات، فلا يتأخر عن نداء المصير، متمسكا باحترام صادق لكل الحضارات، رافع الهامة بكبرياء مشروعة، معتزا بذلك الذخر النادر، والكنز الثمين: تراثه التشريعي، والسياسي، والاقتصادي، والثقافي الإسلامي.
ثم إننا لا بد أن نستخلص صفوة الاعتبار، من نظرية هـنتينجتون؛ لأنها ليست نتيجة اجتهاد ذاتي، لأحد الأساتذة الأمريكان، بل هـي أرضية لاستراتيجية السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية، بإزاء الأمة الإسلامية، حتى وإن لاحظنا اختلافا طفيفا حول الجزئيات، ثم أنها تترجم يوميا، في منطق النظام العالمي الجديد، إلى مواجهة معلنة، مع تطلعات المسلمين الشرعية، وحقوقهم الطبيعية، وتكفي الإشارة إلى مأساة الشعب البوسني المسلم، وهو يستشهد في قلب أوروبا ، ضحية صراع الحضارات، ويكفي النظر في فاجعة الشعب [ ص: 139 ] الفلسطيني المسلم، وهو يقاوم الهمجية الصهيونية، ويسقط شبابه بالعشرات كل يوم، وكذلك الحال بالنسبة للوجود المسلم في أوروبا ، حيث تعاني الأقليات المؤمنة بالله، اضطهاد اليمين المتطرف، والنزعات الصليبية المرخص لها بالعمل السياسي، والمشاركة في هـياكل الحكم، باسم الديمقراطية .. وتكفي الإشارة أيضا إلى التيه، في المجتمعات المسلمة، بين الحفاظ على الأصول، والهرولة وراء أوهام اللحاق بركب الشعوب الغربية.
هذه بعض مظاهر الصراع بين الحضارات، مما يدل دلالة قاطعة، على أن نظرية صمويل هـنتينجتون ، كما أسلفنا، ليست مجرد طرح شخصي، قابل للنقاش أو التفنيد، بل هـي تلخيص نظري سياسي، لمجمل العلاقات الدولية، بين الغرب والحضارة الإسلامية، كما يراها الغرب، ويخطط لتنفيذها.
لذلك وجب علينا اختزال مطالبها، والتعرف إلى ما تهيئه لنا النظرية، من سوء العاقبة، وبئس المصير.
يرى هـنتينجتون:
(1) أن الديمقراطية نعمة غربية، لا يمكن أن يتمتع بها المسلمون، لأنهم باسمها ينصبون في الحكم الاتجاهات المتطرفة.
(2) أن السلام الدولي، يجب أن يقتصر على الغرب؛ لأن انسحابه على العالم الإسلامي، يحرم الغرب من بيع السلاح، وشفط الاحتياطي من الثروات.
(3) أن تحديد النسل عملية استعجالية للعالم الإسلامي، نظرا لتزايد المسلمين، واختلال التوازن الديمغرافي مع العالم الغربي.
(4) من الحكمة أن يقع دعم وتأييد، الجماعات الموالية للمصالح والقيم الغربية، في العالم الإسلامي. [ ص: 140 ]
(5) تقوية المؤسسات الدولية، التي تعكس المصالح الغربية، وإعطاؤها الشرعية والعمل على دفع الدول غير الغربية، للانضواء تحت جناح هـذه المؤسسات.
(6) مزيد من تكريس الحضارة اليهودية المسيحية، ذات المباديء المشتركة، بإزاء الحضارة الإسلامية [2] .
هذه هـي أبرز عناصر نظرية صدام الحضارات ، باختصار مفيد؛ لأن مقالة هـنتينجتون الشهيرة، تمضي في تحليلها، وتفسيرها، بإعطائها أبعادا استراتيجية عديدة، ومن اليسير أن يفهم القاريء، أن إضافة الحضارة الكنفشيوسية ، بجانب الحضارة الإسلامية، في مواجهة الغرب، ما هـو إلا للتخفيف، من عنف ذلك الصدام المعلن، وإنما تفكير صاحب النظرية كله كان متجها للإسلام، وصحوته الجديدة، التي يصفها هـنتينجتون، بأنها (صحوة متوحشة مفترسة) ، بينما يصف الخطر الأصفر (الصيني اساسا) بأنه (خطر بطيء ومعتدل) .
ومن خلال الاستنتاجات الستة، التي يقترحها المقال، يمكن أن نستخلص نحن ست مناهج مضادة، تكون في مصلحة الإسلام، وتصب في خير المسلمين، وتجعل الحضارات المستكبرة، تقرأ لأمتنا حسابها، كلما سعت الإنسانية إلى تحقيق مصيرها المشترك، عوض محاولات تهميشنا خارج حركة التاريخ:
(1) إذ اعتبر هـنتينجتون الديمقراطية نعمة غربية، فإن علينا اعتبار الشورى نعمة إسلامية، وممارستها في كل مستويات مجتمعاتنا، حتى يقع حل المشكلة [ ص: 141 ] الكبرى المطروحة في عالمنا الإسلامي، ألا وهي مشكلة الشرعية، فنكون بذلك حققنا إنجازا سياسيا عملاقا، يتمثل في التوافق بين إرادة الحاكم، وإرادة المحكوم.
فالشرعية هـي مصدر قوة الشعوب، وانعدامها يجعل الراعي في واد، والرعية في واد، ولا يلتقيان، مما يصرف الأمة عن رفع تحدياتها، ويطلق العنان للاستبداد والضلال، ويفتح أبواب العنف، والعنف المضاد، ولما عناه عبد الرحمن بن خلدون حين قال: تصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات [3] .
(2) يقترح هـنتينجتون استثناء المسلمين من عملية السلام، ونرى نحن أن تسعى الشعوب المسلمة، أولا إلى إقرار السلام المدني، في داخلها، وبين أبنائها، ثم إقرار السلام ثانيا بين بعضها بعضا. فصراع الحضارات موجود داخل المجتمعات المسلمة كلها، ويكاد يكون محتدما، داخل معظم الأسر المسلمة، نظرا لاختلاط القيم، وامتزاج المفاهيم، بين الأصالة والمعاصرة. فالسلام مفقود في ذواتنا، وعلينا استحضاره بيننا، بعلم تربوي مؤصل، وحركة فكرية حرة، والدخول إلى العصر من مسالكنا الأصيلة. وإذا تحقق ذلك، يصبح السلام بيننا، وبين الشعوب الأخرى، ممكنا لأنه يعقد ميثاقا بين أمم نظيرة، منيعة، وإلا فهو سلام هـش، يقوم على الهيمنة والسلب والإخضاع.
(3) كان الموقف الإسلامي في المؤتمر العالمي للسكان والتنمية [4] موقفا متناسقا، ولا بد من عمل إسلامي، مكثف لإلغاء جرائم الإجهاض، التي ترتكب في بعض المجتمعات المسلمة، تحت ستار التنظيم العائلي، وتحرير المرأة، وهي جرائم رفضتها الضمائر الكتابية، في أمريكا وأوروبا ، فتنظيم العائلة المسلمة، له [ ص: 142 ] وسائل أخلاقية أخرى، غير هـذه العلميات الإبادية، الرامية إلى إعدام المسلمين في الأرحام، قبل إعدامهم في الانتفاضات، والمداهمات، والمصادمات.
(4) يدعو صمويل هـنتينجتون ، إلى دعم الجماعات الموالية للمصالح والقيم الغربية، في العالم الإسلامي، وهذا من حقه كمدافع عن حضارته، ولكن من واجبنا نحن، دعم الاتجاهات الموالية للمصالح والقيم الإسلامية، إذا ما تحلت بالفضيلة، والوسطية، والاعتدال.
(5) يطرح هـنتينجتون بوضوح مباشر، ما يومئ إليه غيره بتقية، وهو أن المؤسسات الدولية، من منظمة أممية، ومجلس أمن، ومصارف، ومنظمات مختصة تابعة لها، تعكس المصالح الغربية، وتعطيها الشرعية. وصاحب هـذا الاعتراف مشكور على تأكيد ما نعتقده نحن، وما أشرنا إليه منذ عقدين على الأقل. ولكننا مدعوون كأمة إسلامية، ذات وزن، ونمثل خمس الإنسانية، أن نعود بهذه المؤسسات الدولية، إلى احترام مواثيقها، والحرص على خدمة قضايا الحق والعدل والسلام، ونحن نسجل بأسف ومرارة، استعمال الأمم المتحدة، أداة لإضفاء الشرعية على عالم المظالم الدولية، الموجهة ضد المسلمين، في كل بقاع الدنيا، حتى أفرغت من محتواها، وسخرت لعكس ما وضعته لنفسها من رسالة. ولا بد كذلك من تفعيل أجهزة إسلامية، مثل منظمة المؤتمر الإسلامي، بعد فشل جامعة الدول العربية.
(6) يضيف صمويل هـنتينجتون لبنة أخرى إلى هـرم شامخ من البهتان التاريخي، والتزوير الحضاري، بإلحاحه على تكريس ما سماه: الحضارة اليهودية المسيحية. فاليهود شرقيون، وارتباطهم بالحضارة الإسلامية وثيق وقوي، ولم [ ص: 143 ] يحمهم من اضطهاد المسيحية، إلا المسلمون، في أحداث عظمى، معروفة مثل محاكم التفتيش في الأندلس (1492م) ، حيث التجأوا إلى الخلافة الإسلامية والمغرب الإسلامي، ثم عمليات إبادة النازية ( 1939 - 1945م ) ، حيث احتضنتهم الشعوب المسلمة، قبل أن يتحولوا إلى رأس حربة، للإمبراطوريات الاستخرابية ، عام 1948م، بتأسيس كيان عنصري، متوسع باستمرار، في فلسطين . إن علينا كمسلمين، اعتبار اليهود أصحاب دين سماوي كريم، لا يحق لهم العدوان على حقوقنا في القدس الشريف ، وفرض وضع مخز على ملايين المسلمين في فسلطين. فكل سلام لا يؤسس على الحق، والعدل، والقسطاس، سلام قصير هـش زائل، وليست هـناك مرجعية للقضية الفلسطينية، إلا المرجعية الإسلامية، من جهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى جهاد عز الدين القسام رحمه الله، مرورا بجهاد صلاح الدين أكرم الله مثواه.
اللهم اجعلنا من عداد (الذي استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) ، واجعل كتابي هـذا نصرا لأمتك، وتعزيزا لدينك، واغفر لي، واعف عني، إن قصرت، أو أخطأت، فغاية مناي أن أثير الأقلام الصادقة، وأستنفر النفوس المؤمنة، لتدارس أحوال المسلمين، ونحن في عصر الاتصالات الآنية، والثقافات الطاغية، والقوى المهيمنة، فعسى أن تكون لجيلنا أمانة يؤديها، ورسالة يبلغها، حتى يتبين لنا الرشد من الغي، والخير من الشر، والحق من الباطل.
سبحانك اللهم أنت مولانا، ونعم النصير. [ ص: 144 ]