(ب) المرحلة المنبرية
(المنبرية) نسبة إلى المنبر، وهي إشارة إلى ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من تربية للصحابة من على المنبر، الذي لم يظهر في حياة الدعوة الإنسانية.. وخطبة الجمعة لم تشرع إلا بعد الهجرة كما هـو معلوم.
فالتربية المنبرية، توحيدية في الجوهر، لأنها تقوم على اعتماد النص القرآني أساسا، وما يفسره ويبينه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بيد أنها لا تقوم على [ ص: 92 ] نظام الجلسة،ولا تتعامل مع قوم أسلموا، فردا فردا، وانتقوا لهذا الأمر انتقاء، وإنما فيهم من أسلم نفاقا، ومن أسلم خوفا، كالأعراب. ولكن فيهم من أسلم إيمانا، وصدقا.
وبما أن الجلسة الأرقمية، لا يمكن أن تستوعب هـذا العدد الضخم من المسلمين بالمدينة، من ناحية، وبما أن ما يتطلبه المجتمع من العقليات القيادية، قد تخرج منهم الكثير بمكة، وبعض الأنصار ممن تربوا على يد مصعب بن عمير قبيل الهجرة، من ناحية أخرى، فقد اتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى تشكيل الرأي العام الشعبي، تشكيلا إسلاميا،من أجل صناعة عقلية جندية فاعلة، مبادرة، ومطيعة، فلم يعد خطابه التربوي صلى الله عليه وسلم متوجها إلى كل فرد، ومقتصرا عليه،وإنما صار متوجها إلى عموم الناس،من خلال خطبة الجمعة وغيرها، فكان يربي بقوله مثلا : ( ما بال قوم ) ، أو (ما بال أقوام ) ، و (يا أيها الناس ) ... إلى غير ذلك من العبارات،التي اشتهرت عنه صلى الله عليه وسلم ، والتي هـي من تقنيات الأسلوب الخطابي.
وبقي المنهج الأرقمي من حظ القلائل، الذين تبينت ملامحهم القيادية، من أهل المدينة وغيرهم، ولكن الخطبة أو (المنبرية) ، كانت هـي تربية العموم من أهل المدينة، وما حولها، فهي خطاب عام مطلق، يهدف إلى تصحيح الخطأ، أو إبلاغ المفهوم الصحيح، إلى عموم الناس، لتصحيح السلوك الاجتماعي العام. من ذلك، على سبيل المثال، ما أخرجه البخاري ، من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت: [ ص: 93 ]
( جاءت بريرة ، فقالت إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك، فعلت، فيكون ولاؤك لي. فذهبت إلى أهلها، فأبوا ذلك عليها. فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا، إلا أن يكون الولاء لهم.. فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألني، فأخبرته، فقال: خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق. قالت عائشة: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فما بال رجال منكم يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ فأيما شرط كان ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق يا فلان ولي الولاء؟ وإنما الولاء لمن أعتق ) [1] فواضح من النص، أن الرسول صلى الله عليه وسلم مارس التربية العامة، ووجه الرأي العام، بإطلاق الخطاب، وعدم تقييده، ومعالجة السلوك الخاطئ بأسلوب الخطبة، لا بأسلوب الجلسة، المتتبع لكل الجزئيات، المكونة للشخصية،كما هـو الحال في الأسلوب الأرقمي، ولكن الخطبة إنما هـي توجيه عام، كلما ظهرت ثغرة ما، أو انحراف ما، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خطيبا.. هـكذا كانت التربية المنبرية إذن، عامة مطلقة، تقصد إلى توجيه السلوك الاجتماعي العام، وتربية المجتمع،من حيث هـو كل، لا من حيث هـو أفراد، [ ص: 94 ] ولذلك لم يكن القصد، الاقتصار، على إنتاج القيادات، كما ذكرنا،ولكن إنتاج الجندية المطيعة المؤمنة أيضا.
كما يتضح من النص، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يخطب يوم الجمعة فقط بل كلما دعت الحاجة التربوية لذلك، ويؤكده ما رواه مسلم عن أنس حينما،أكثر الناس سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما لا ينفعهم.. وللبخاري ، ( عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ قال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حيث زاغت الشمس، صلى بهم صلاة الظهر، فلما سلم، قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن قبلها أمورا عظاما، ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء، فليسألني عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء، إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هـذا.. قال أنس بن مالك : فأكثر الناس البكاء، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول: (سلوني) ، فقام عبد الله بن حذافة ، فقال: من أبي يا رسول الله ؟ قال (أبوك حذافة ) .. فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول: (سلوني ) ، برك عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا.. قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أولى، والذي نفس محمد بيده، لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا، في عرض الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر ) [2] . [ ص: 95 ]
وفي رواية أخرى ( عن أنس قال : فخطب :فقال: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، قال فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم أشد منه! قال: غطوا رءوسهم، ولهم خنين [3] ... فنزلت: ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) (المائدة: 101 ) [4] هـكذا إذن يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان يعتمد على الخطبة، ولو في غير الجمعة، كما في النص، لتصحيح المفاهيم، وتربية السلوك الجماعي للأمة، وتلك منهجية المرحلة المدنية أساسا.. وقد كانت خطبه صلى الله عليه وسلم نصوصا من القرآن، ونصوصا من حديثه صلى الله عليه وسلم ، وربما كانت أغلبها قرآنا ( فعن أخت عمرة بنت عبد الرحمن قالت: أخذت ( ق والقرآن المجيد ) من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر، في كل جمعة ) [5] .
( وعن صفوان بن يعلى ، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: ( ونادوا يا مالك ) (الزخرف: 77 ) [6] .
وربما كانت التربية المنبرية أحيانا، عبارة عن إشارات خطابية من غير خطبة، أي كلمات من جوامعه صلى الله عليه وسلم ، ذات ومضات خالدة، [ ص: 96 ] يلقيها الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس، فتتلقاها قلوبهم، حتى إذا تفرقوا، كانت لها مواجد تبعث على التأمل والتفكير، مما ينمي التكوين التربوي للفرد بصورة ذاتية، وذلك نحو ( ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هـذه فإن على رأس مائة سنة منها، لا يبقى ممن هـو على ظهر الأرض أحد ) [7] .
فهذه الإشارة النبوية المختصرة، خطبة مصغرة جدا، فهي كلمة ألقاها صلى الله عليه وسلم ، وهو واقف، لفظها قليل، متناه جدا، غير أن معناها عظيم ورهيب، ينبه إلى إحدى الحقائق الكبيرة، من حقائق الحياة البشرية، في هـذا العالم وهي حقيقة الموت على كل نفس، لكن الأسلوب الذي عرضت به أسلوب منبري خطابي، يقربها من الشعور تقريا حسابيا، حتى تكون رأي العين، فيكون لها من الأثر التربوي على السامعين، ما لا تنتهي تداعياته، إلا بانتهاء حياتهم.
ومن هـنا كان ارتباط الأنصار، أو أبناء المدرسة المنبرية، بنصوص القرآن والسنة، هـو كارتباط المهاجرين، وذلك بسبب توحيدية المنهج المنبري، أي اعتماده على النص القرآني أولا، والنص الحديثي ثانيا.
وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، دال على هـذا الارتباط، ( قال: كان لي جار من الأنصار، فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 97 ] فينزل يوما، وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي، وغيره، وآتيه بمثل ذلك ) [8] . وقد سبق بيان سياق هـذا الحديث، حيث كان الرجلان مرابطين بضاحية المدينة.
ولقد كان القرآن متتبعا لأحوال الأنصار، كما كان متتبعا لأحوال المهاجرين قبل هـجرتهم، ونزلت نصوص خاصة، تعالج واقعهم، وتصحح ما اعوج من تصرفاتهم، فيقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم ، مربيا إياهم عبر المنهج المنبري غالبا .. أخرج مسلم ، " من طريق أسلم بن عمران ، قال: كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم، حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلا، فصاح الناس: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقال أبو أيوب الأنصاري ، رضي الله عنه : أيها الناس! إنكم تئولون هـذه الآية على هـذا التأويل - يعني قوله تعالى: ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (البقرة: 195) - وإنما نزلت هـذه الآية فينا معشر الأنصار: أنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه، قلنا بيننا سرا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أن أقمنا فيها، وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هـذه الآية، فكانت التهلكة: الإقامة التي أردناها " [9] .
وهكذا تخرج الأنصار من مدرسة توحيدية نبوية، فارتبطوا بالله عز وجل [ ص: 98 ] صادقين موقنين، واستوعبوا مذهبية الإسلام جيدا،من خلال القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وكان للمنبر أثره التربوي العظيم، في حياتهم الإيمانية، فكانوا جنودا مطيعين، وحماة للإسلام، ولرسوله الكريم، مبادرين إلى خير، فاعلين، فهم طليعة القتال في كل مكان، وهم الذين حينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس، قبيل معركة بدر، قال قائلهم سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وعنهم أجمعين: فقد آمنا بك فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هـو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا، على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله [10] فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وبشرهم بالنصر.
وهم الذين استشهدوا تواترا في معركة أحد، بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال صفي الرحمن المباركفوري : ( اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلا... وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط) [11] [ ص: 99 ]
ولما يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من إخلاصهم، وجنديتهم المتيقظة الفاعلة، وربما أيضا لما يعلمه من تبعية أغلبهم للمهاجرين، من الناحية القيادية، والسياسية العامة، فقد أوصى بهم خاصة، وذلك في مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم ، إذ خرج عاصبا رأسه،حتى جلس على المنبر، فكان مما ( قال صلى الله عليه وسلم : أيها الناس .. إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا، أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم ) [12] .
وفي رواية أخرى: ( أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي [13] وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم ) [14] وهكذا كان للتربية المنبرية التوحيدية، أثرها التاريخي في تخريج أعظم جندية إسلامية في التاريخ، جاهدت تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في كل الغزوات، وتحت ألوية الخلفاء الراشدين، في حروب الردة والقادسية وغيرها، وبقوا على حالهم حتى فيما بعد، إلى أن انقرض جيلهم، رضوان الله عليهم. [ ص: 100 ]
فهذا أبو أيوب الأنصاري ، رضي الله عنه يخرج جنديا عاديا، في آخر حياته، على جلالة قدره، في جيش قائده يزيد بن معاوية ، لما خرج المسلمون لفتح القسطنطينية فيصاب رضي الله عنه في المعركة، ويطلب من المسلمين إذا مات أن يحملوا جثته على فرسه،ويغوصوا به ما استطاعوا في أرض العدو، حتى إذا أوغلوا جيدا، دفنوه هـناك.. وما زال قبره رضي الله عنه في استامبول شاهدا إلى اليوم [15]