(أ) المدرسة الكلامية، ونموذج الوساطة الفكرية
لم يكن الاعتقاد في زمن الصحابة والتابعين يمتد ويستمد أصوله من التأويل المعقد، وإنما كانوا يقفون على المقتضى البسيط للنصوص، دون تكلف ولا تعسف في الفهم، لكن ما أن انتشر (الكلام) في الأمة، حتى صار الاعتقاد يخضع للقناة المذهبية، ذات السلطة الوساطية التأويلية في هـذا الاتجاه، أو ذاك. فكانت الأصول الخمسة للمدرسة الاعتزالية [1] ، مقاييس لفهم العقيدة الإسلامية، فتؤول النصوص القرآنية على وفقها، وترد الأحاديث، أو تقبل، بناء على مناسبتها لها، أو عدم مناسبتها.. إلا أن المذهب الاعتزالي لم ينتشر في الأوساط الشعبية، وبقيت وساطته منحصرة تقريبا بين بعض العلماء لمخالفة أئمة السلف لهم، كما يقول ابن خلدون [2] .
ثم قام أبو الحسن الأشعري بوضع مذهبه في القرن الرابع الهجري، فتحالف معه كثير من الفقهاء، ضد المعتزلة ، فانتشرت بذلك العقيدة الأشعرية، [ ص: 33 ] وكانت عقيدة الجماهير في أرجاء العالم الإسلامي، لها الغلبة والسيطرة إلى يومنا هـذا، كما يقول على سامي النشار [3] .
فعلم الكلام إذن لم يكن علما شعبيا، طوال القرون الثلاثة الأولى لهيمنة الفكر الاعتزالي عليه، فسلم تدين الناس من وساطة الاعتقاد، في تلك الفترة على الأقل، يقول الدكتور أحمد صبحي : " تحمل المعتزلة وزر الخوض عما نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، ومن ثم لقوا إعراضا من التابعين، ومن الفقهاء وأهل الحديث... وهكذا نشأ علم الكلام غير معترف به، كعلم من علوم الدين لدى علماء المسلمين، طوال عصر المعتزلة ، أي القرنين الثاني، والثالث الهجري " [4] .
إلا أن ظهور أبي الحسن الأشعري ، على أنه يقدم عقيدة أهل السنة والجماعة بدأ يغير موقف بعض العلماء من علم الكلام ، من الرفض المطلق، إلى التبني المطلق، والسقوط في فخ الوساطة الاعتقادية.. فخروج الأشعري عن المذهب الاعتزالي لم يكن " على أنه مؤسس مذهب في الكلام جديد، ولا على أن له رأيا مستحدثا، وإنما حرص تمام الحرص، كما حرص أتباعه، على أن يظهروه أنه للصحابة والتابعين وللفقهاء ورجال الحديث - أو بالأحرى - لأهل السنة تابع، ليس له في كل ما قال به رأي مستحدث. فاستطاع بذلك أن يمهد للاعتراف بعلم الكلام " [5] . [ ص: 34 ]
واختلف المؤرخون للفكر الإسلامي، في أول من مكن للوساطة الكلامية الأشعرية ، في التدين الجماهيري، وجعل العقيدة الأشعرية، هـي ما يجب أن يعتقد شرعا، دون ما سواها.. فابن خلدون مثلا، يرى أن أبا المعالي الجويني ، هـو الذي أعطى المشروعية للعقيدة الأشعرية، لتصير (إماما) في الاعتقاد الشعبي، يقول: " ثم جاء... إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في هـذه الطريقة، كتاب الشامل، وأوسع القول فيه، ثم لخصه في كتاب الإرشاد، واتخذه الناس إماما لعقائدهم " [6] .. وذهب آخرون، كالدكتور أحمد صبحي ، إلى أن أبا حامد الغزالي ، هـو الذي أعطى للكلام مشروعيته، وصير العقيدة الأشعرية خاصة، هـي عقيدة التدين لدى كافة المسلمين، إذ " بفضله انتشر مذهب الأشاعرة، كعقيدة لأهل السنة والجماعة " [7] . وكيفما كان الأمر، فالمهم عندنا هـهنا، هـو أن العقيدة الأشعرية صارت إملاء قطعيا، غير قابل للطعن، يجب على كل مسلم التمسك به، والإيمان المطلق به، حيث " التزم جمهور أهل السنة من المسلمين بما ألزمهم متكلمو الأشاعرة من معتقدات " [8] .
فقدم لهم هـؤلاء آراءهم " على أنها معتقدات، لا يصح الخوض فيها، أو الشك في صدقها " [9] .. وهكذا تدخل الوساطة إلى عقيدة المسلمين، على المستوى الشعبي، مع المذهب الأشعري، بعدما كانت منحصرة في بعض العلماء، مع المذهب المعتزلي. [ ص: 35 ]
وقد كانت الأشعرية ، باعتبارها رد فعل تاريخي، على حركة الاعتزال، محكومة في كثير من مواقفها بحالة (رد الفعل) ، فحيث غالت المعتزلة في القول بالتحسين والتقبيح العقليين، نفت الأشاعرة ذلك بإطلاق، كما عمدت إلى تأويل الصفات الإلهية، وحملها على المجاز اللغوي، ردا على نفي المعتزلة لها بإطلاق.. وهكذا، فقد تصرفوا في تقديم العقيدة الإسلامية إلى الناس، ومع ذلك صارت تدينا، ومعتقدا، لدى غالب المسلمين، إليها يرد كل كلام في الاعتقاد، وعليها يحمل كل نص شرعي، فإن وافق تصورها فذاك، وإلا أول تأويلا.. ولذلك لم يقبل بعض العلماء من أهل السنة والجماعة، تبني العقيدة الأشعرية، قال أبو عبد الله محمد بن خويز أحمد منداد المصري المالكي : " كل متكلم، هـو من أهل الأهواء والبدع، أشعريا كان، أو غير أشعري " [10] .
قال أبو عمر بن عبد البر : " أجمع أهل الفقه، والآثار، من جميع الأمصار، أن أهل الكلام، أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع، في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر، والتفقه فيه "[11] .
وقد روي كلام كثير في ذم علم الكلام بإطلاق، عن الأئمة، والفقهاء الأربعة، وإن كان ذلك طبعا، قبل ظهور الأشاعرة، ولكنه كان حججا لبعض العلماء في ذم الكلام الأشعري، ووساطته الاعتقادية [12] ، [ ص: 36 ] التي صارت تدينا عاما، على غرار المذاهب الفقهية، في عصور التقليد، مما حدا بعالم المالكية عبد الواحد بن عاشر ، بعد ذلك، إلى نظم منظومة، تشتمل على أصول التدين، عبر الوساطة العقدية الأشعرية، ثم الفقهية المالكية، ثم الصوفية، لتكون متنا لجميع الناس.. قال في مقدمة منظومته المسماة: (المرشد المعين) :
وبعد فالعون من الله المجيد في نظم أبيات للأمي تفيد في عقد الأشعري وفقه مالك
وفي طريقة الجنيد السالك! [13]
والتقليد هـو عين الوساطة.. وسهل بعد ذلك، أن تدخل الخرافة إلى عقائد المسلمين، عن طريق القناة المذهبية الأشعرية، فيكفي أن يباركها أحد ممثليها، لتصير عقيدة شعبية، منتشرة. وقد صار الفكر الأشعري، [ ص: 37 ] في عصور الانحطاط، أقرب إلى الخرافية منه إلى الاعتقاد السليم، بسبب تعسفه في تفسير وتأويل أمور غيبية توقيفية، على نحو ما صنعه الباجوري في تفسير العرش، حيث قال: هـو " جسم نوراني، علوي، عظيم، قيل من نور، وقيل من زبرجد، وقيل من ياقوتة حمراء.. هـو قبة فوق العالم، ذات أعمدة أربعة، تحمله أربعة من الملائكة في الدنيا، وثمانية في الآخرة، لزيادة الجلال والعظمة، رءوسهم عند العرش في السماء السابع، وأقدامهم في الأرض السفلى، وقرونهم كقرون الوعل، ما بين أول قرن، ومنتهاه، مسيرة خمسمائة عام " [15] .
وقال عن الملائكة الكتبة: " يكتب الرقيب والعتيد أعمال الإنسان وأقواله من خير وشر، ومن مباح.. أما المباح فيلقي به في عرض البحر، في يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، فتلتهمه حيتان البحر، فتموت منه لنتنه، فيخرج منه دود يأكل الزرع " [16] .
كل ذلك إنما كان بسبب التلقين ، الذي طبع تقديم العقيدة الأشعرية للمسلمين.. التلقين، الذي يعني أن هـذه الأمور مسلمات، لها قداسة النص الشرعي، حيث صارت العقيدة الأشعرية متونا تحفظ، ومنظومات.
يقول الدكتور أحمد صبحي : " وعند الأيجي، كان معين الأصالة قد نضب، ليدخل الفكر الأشعري دور الشروح، والحواشي.
إن أهم معالم الكلام الأشعري، بعد الأيجي، تتمثل فيما يلي: [ ص: 38 ]
(1) المتون: قوالب مصبوبة صيغت فيها المعتقدات، كأنها القول الفصل، الذي ليس له مرد.
(2) الأراجيز: إذ صيغت العقائد في شكل أراجيز، حتى تكون عونا على الحفظ (الصم) ، أو الآلي، الذي يشل التفكير ... " [17]
ولقد كان لذلك دور في تشكيل العقل المسلم، تشكيلا يقوم على التسليم المطلق، لكل ما هـو أشعري، وكأنه صادر عن الله! واستمر بذلك التصور العقدي الإسلامي يتنزل في التدين الجماهيري، عبر الوساطة الأشعرية، وكان لذلك أثره على المجال التربوي، من حيث صناعة العقلية الاستهلاكية، لا على مستوى العامة فحسب، ولكن حتى على مستوى الخاصة، من العلماء، والفقهاء، أهل الحل والعقد، في الأمة! الذين صاروا يلخصون مقالات المؤسسين من الأشاعرة ، في المتون والأراجيز، على نحو ما فعل ابن عاشور كما رأينا، والشيخ إبراهيم اللقاني في جوهرة التوحيد، التي قال فيها عن صفات الله، مختزلا رأي الأشعري:
متكلم ثم صفات الذات ليست بغير أو بعين الذات [18]
وهذا الترسيخ التلقيني للعقيدة، عبر الوساطة الأشعرية ، جعل بعض مؤرخي علم الكلام ، يرون العقيدة الأشعرية، هـي نفس عقيدة السلف، [ ص: 39 ] أو بعبارة أخرى، هـي العقيدة الإسلامية، كما يصورها القرآن والسنة النبوية.. والحق، كما يقول الدكتور أبو ريان : " إن البون شاسع، بين موقف السلف، ومذهب الأشاعرة، من حيث إنه لم يثبت أن السلف قد استخدموا الكلام في شرح العقيدة، أو مالوا إلى التأويل في تفسيرها " [19] ، وإنما هـي وساطة في الاعتقاد، كما قلنا، تدخلت، لتحول بين الناس وبين التلقي المباشر للعقيدة الإسلامية في بساطتها، من مصادرها الشرعية: القرآن الكريم، والسنة النبوية.
لقد كان الأشاعرة الأوائل: أبو الحسن الأشعري ، والباقلاني ، والجويني ، والغزالي ، وغيرهم، بمثابة وسائط في المجال الكلامي، لكل واحد منهم سلطة الوسيط، كما بينا، من حيث التأثير الشخصاني على النص من جهة، بالتأويل، وعلى الناس من جهة أخرى، بالتلقين.. وكان لكتبهم، كما تبين من النصوص السالفة قداسة المصدر المطلقة؛ لا بشرية المرجع النسبية، حيث كانت (إماما) لجمهور المتدينين، كما عبر ابن خلدون بالنسبة لكتاب (الإرشاد) لإمام الحرمين، وقد سبق هـذا بنصه. واستهلك الناس العقيدة الأشعرية استهلاكا، من خلال العبارات الكلامية الجاهزة، والمركبة في المتون، والأراجيز، ونحوها. فكانت نصوصها هـي الشواهد، لا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.
كل ذلك، أدى إلى تعميق وترسيخ التربية الوساطية، فيما يتعلق بتصحيح التصور العقدي، كقضية من قضايا التدين الإسلامي الأساسية. [ ص: 40 ] كما أدى إلى مساعدة وسائط أخرى، في المجالات الدينية الأخرى، من حيث تهيئة النفوس، لتقبل التقليد المطلق، والتسليم لفهوم الرجال، على أنها أحسن ما يمكن أن يقال!