الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( ب ) مظاهر الوساطة في التربية الطرقية

تطور السلوك الصوفي ابتداء من القرن السادس، إلى ما يسمى بالتصوف الجمعي، أو الطرقي. حيث نشأت الطرق الصوفية المعروفة إلى زماننا هـذا، وتميزت كل طريقة عن الأخرى بخصوصيات في منهج الذكر، وأشكال السماع، والأوراد، ومواقيتها، كما حدث التميز بين الطرق، في اختلاف أسانيدها الروحية، واعترافها بهذا الشيخ دون ذاك. وحدثت مراسيم البيعة بصورة طقوسية ، تجعل في عنق المريدين، واجب خدمة الشيخ في كل أموره. فصار التصوف، الذي كان فرديا، مدارس جماعية، ذات نظام سلطوي هـرمي الشكل ابتداء من القطب، [ ص: 79 ] أو الغوث، ثم الأبدال، ثم الشيخ، فالمقدمين. أما القطب، أو الغوث، فلا يكون إلا واحدا، على صعيد جميع الطرق، وبالنسبة للجيل الواحد.. ولكل طريقة شيخ هـو المرجع الأعلى فيها. وقد يترقى فيكون من الأبدال، وهم خاصة الغوث من المشايخ.. وأما المقدمون، فهم نواب شيخ الطريقة بكل بلد.

ولعل القادرية هـي أقدم الطرق، وإن كنا لا نجزم أن الشيخ عبد القادر الجيلاني ، فعلا قد قصد إلى تأسيس طريقة ما لما اشتهر عنه من علم واعتدال، ولكن الأتباع هـم الذين اتخذوا من أقواله، وأوراده تشريعات تعبدية خاصة.. فكانت الطريقة القادرية، أو الجيلانية ، نسبة إلى اسمه أو نسبه.

يقول الأستاذ الحجوي رحمه الله، في سياق حديثه عن الشيخ عبد القادر الجيلاني، المتوفى سنة 561هـ: " وجميع الطرق الموجودة في وقتنا هـذا، ترجع إليه، أو إلى الشيخ الإمام أبي الحسن علي الشاذلي المغربي ، ثم المصري الإسكندري، الضرير، الزاهد الكبير ... المتوفى سنة 656هـ... أو إلى الشيخ خواجة بهاء الدين نقشبند محمد بن محمد البخاري... المتوفى سنة 791 " [1] .. فتكون القرون الثلاثة المذكورة، هـي التي شهدت ميلاد التصوف الطرقي في العالم الإسلامي، أي القرن السادس والسابع والثامن.. وشاع في هـذه المرحلة، وما بعدها الاعتقاد بخصوصية المتصوفة ، وتنزههم عن كل نقد، أو مراجعة، أو محاكمة إلى قواعد الشرع، ونصوصه، إلى درجة أن نجد شخصيات علمية، متميزة [ ص: 80 ] بالنقد في شتى المجالات العلمية، كعبد الرحمن بن خلدون ، المتوفى سنة 808هـ، يقف موقفا إرجائيا استسلاميا تجاه شطحات أقطابهم، وانحرافاتهم، رغم ما قدمه من نقد يسير، فيما يتعلق بالقطبية والبدلية.. قال رحمه الله:

" فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه! ومن رزقه الله فهم شيء من هـذه الكلمات، على الوجه الموافق لظاهر الشريعة، فأكرم بها سعادة، وأما الألفاظ الموهمة، التي يعبرون عنها بالشطحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم، أنهم أهل غيبة عن الحس.. والواردات تملكهم، حتى ينطقوا عنها، بما لا يقصدونه.. وصاحب الغيبة، غير مخاطب، والمجبور معذور! " [2] هكذا يحاول ابن خلدون الاعتذار عن الشيوخ فيما صدر عنهم من أقوال استحق بها بعضهم حد الشريعة، مما يدل على مدى الانقياد لإمامتهم الذي صارت إليه الأمة بعد الغزالي حتى يقول رجل نقادة كابن خلدون، مثل هـذا الكلام في الشطحات، إلا أن ذلك لا يعني خلو المرحلة من علماء توحيديين مجاهرين بالحق، منكرين للوساطة الصوفية الطرقية ، منذ بداية ظهورها في شكلها الجديد.. إذ عرف القرن السابع الهجري شخصية علمية متميزة اشتهرت بالنقد والإنكار على أهل الأهواء والبدع، في العبادات والسياسات وغيرها، ذلكم هـو سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام ، المتوفى سنة 660هـ، [ ص: 81 ] والذي نظم قصيدة مطولة، في إنكار الوساطة الطرقية ، وتسفيهها، نقتطف منها ما يلي:


ذهب الرجال وحال دون مجالهم زمر من الأوباش والأنذال     زعموا بأنهم على آثارهم
ساروا ولكن سيرة البطال     إن قلت: قال الله، قال رسوله
هـمزوك هـمز المنكر المتغالي     ويقول: قلبي قال لي، عن خاطري
عن سر سري، عن صفا أحوالي     عن حضرتي، عن فكرتي، عن خلوتي
عن جلوتي، عن شاهدي، عن     عن صفو وقتي، عن حقيقة حكمتي
عن ذات ذاتي، عن صفا أفعالي     دعوى إذا حققتها، ألفيتها
ألقاب زور لفقت بمحال     تركوا الشرائع والحقائق واقتدوا
بطرائق الجهال والضلال [3]

[ ص: 82 ]

كما نبغ من علماء التوحيد، في القرن الثامن، المنكرين للوساطات الطرقية ، بشتى صورها، الإمام تقي الدين ابن تيمية ، المتوفى سنة 728 هـ، الذي كانت فتاواه الشهيرة، مليئة بالنقد لشتى أنواع الوساطات، فكرية كانت أم روحية، كما اشتهر بدعوته إلى المصدرية الحقيقة للتدين: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم ظهر في القرن ذاته، الإمام أبو إسحاق الشاطبي ، المتوفى سنة 798هـ، الذي أنكر المشيخة الطرقية ، وصنف كتابه المشهور: (الاعتصام) ، في إبطال ودحض دعاوى المدارس الطرقية، وما تعتقده من وساطة روحية. قال رحمه الله، يصف حال عصره: " رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه. فالمقتصد منهم من يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان، أو ربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة، إلا هـذا المذكور... والمتوسط يزعم أنه مساو للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه لا يأتيه الوحي. بلغني هـذا عن طائفة من الغالين في شيخهم، الحاملين لطريقته، في زعمهم نظير ما ادعاه بعض تلامذة الحلاج ، في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه.. والغالي يزعم فيه أشنع من هـذا " [4] .

وازداد انحطاط مستوى المشيخة الطرقية بعد ذلك، كما ازداد تعمق الوساطة الصوفية في عقيدة الجماهير، بصورة أوسع وأبشع، إذ كثر الجهل، بل الأمية في أوساط كثير من المشايخ اعتقادا منهم بأن الأمية [ ص: 83 ] كرامة من الكرامات! حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أميا.. وظهرت المقاصد الاحترافية في المشيخة الطرقية ، فصارت وسيلة للكسب عن طريق الدجل ، والشعوذة ، والسحر ، والتمويه.. ويكفي أن تلقي نظرة على طبقات الشعراني لتعرف المدى الذي آلت إليه الطرقية في السلوك والأخلاق، والتمويه على الناس بأن ذلك من الكرامات، قصد استغلالهم واستنزافهم[5] ، وفي ذلك يقول الحجوي المتوفى سنة 1376هـ، رحمه الله، واصفا ما آلت إليه المشيخة الطرقية في العصر الحديث:

" إلا أن الذين أدركناهم، غالبهم لا يحسنون إلا شقاشق وألفاظا، نوعوها، وليس عندهم من الذوق إلا ذوق شيطاني ظلماني، أعماهم الجهل، ونصبوا الشباك بالدين، ليأكلوا أموال المغفلين، فصدق عليهم قوله تعالى: ( إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) [التوبة:34].. باعوا الملة والدين، ببخس والله يتولى الانتقام من كل دجال! " [6] .. فاتخذ الناس رءوسا جهالا، بل مشعوذين لهم الكلمة على أغلب قطاعات المجتمع، إلى حدود مرحلة بداية الاستقلال العسكري للبلاد الإسلامية عن الاستعمار الغربي، ونشأة الحركة الإسلامية، البديل المجدد.

لقد كان العلم تابعا -لا متبوعا- للوساطة الطرقية، فلم يكن يكتمل تدين العالم والمتعلم، إلا بعد مبايعة وسيط الطريقة، وإلا صار [ ص: 84 ] شاذا بين الناس، كما جاء في كلام الأستاذ الحجوي ، واصفا نفس المرحلة، قال رحمه الله: " والطامة الكبرى، هـي أن جل من ينتسب للعلم من أهل زماننا، يتسابقون للأخذ عن تلك الطرق البدعية، ويتحزبون لها، ويعضدونها... وذلك بسبب جهلهم بأصل الدين، وسنة سيد المرسلين.. ومن لم يأخذ عنهم، نظروا له شزرا " [7] .

والأستاذ الحجوي، رحمه الله، وإن كان يؤرخ في كتابه: (الفكر السامي) ، للحركة الفقهية والعلمية، والسلوكية في عموم العالم الإسلامي، إلا أنه في سياق هـذا النص يتحدث عن مشاهداته في الواقع الذي عايشه.

ولذلك فإننا سنختار نموذجا طرقيا من الفترة المتأخرة التي وصفها الحجوي؛ لبيان ما وصلت إليه الوساطة الصوفية ، مذ حصلت على المشروعية على يد الغزالي ، في القرن الخامس الهجري. وقد كانت منحصرة قبل في عدد من الشخصيات، حيث كان التصوف سلوكا فرديا، لا جماعيا، ثم تعمقت الأفكار الوساطية في الفكر الصوفي، إلى درجة أن صار الناس (يعبدون المشايخ) بصورة من الصور، حتى أواخر عصور الانحطاط، حيث صار العلم، كما ذكرنا، خادما للوساطة الطرقية، لا ناقدا لها وناقضا.. ففي كثير من بقاع العالم الإسلامي، يتصدر أميون لإمامة الناس، عامتهم وخاصتهم، باسم الولاية ، والقطبية .

وفيما يلي نورد بشيء من التفصيل، مدى الانحطاط الوساطي الذي مارسته الطرقية من خلال نموذج كتاب " الإبريز " : [ ص: 85 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية