( أ ) التربية الوساطية في فكر أبي حامد الغزالي
كانت الحركة التربوية في صورتها العلمية، تقوم بدورها التأطيري للمجتمع الإسلامي، طيلة القرون الثلاثة الأولى، كما تبين.. وخلال القرن الرابع بدأ العلم يجنح إلى فقدان حرارته التربوية، بسبب الانحراف الكلامي، والتقليد المذهبي، مما ولد اتجاها علميا آخر، خاليا من قصد التعبد.. فتطور العلم، نعم، وتضخم، ولكن دون الحفاظ على وظيفته التربوية، كما كان عند الأوائل، وهذا المعنى هـو الذي حرك الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري، وقد لا حظ اندراس علم التربية، أو قصد التربية في العلوم الشرعية، فظهر علماء السوء وكثروا، ولم يعد العلم يفيد عملا. [ ص: 64 ]
قال رحمه الله في (المنقذ من الضلال) ، يصف هـذه الحال: فنظرت إلى أسباب فتور الخلق، وضعف إيمانهم، فإذا هـي أربعة: سبب من الخائضين في علم الفلسفة، وسبب من الخائضين في طرق التصوف، وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم، وسبب من معاملة الموسومين بالعلم بين الناس... فقائل يقول: هـذا أمر لو وجبت المحافظة عليه، لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال اليتامى، وفلان يأكل إدرار السلطان، ولا يحترز عن الحرام، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة! وهلم جرا، إلى أمثاله [1] واختصر ذلك في كتاب الإحياء بقوله: " قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء " [2] إن هـذا الوضع الخطير الذي آلت إليه حال الأمة، من فقدان المنهج التعليمي -الذي أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسار عليه الصحابة والتابعون- لمحتواه التربوي، وسيرورته وسيلة لنيل مناصب دنيوية، من أعمال السلطان، وخضوع للأهواء مما يرضي الحكام والعوام على السواء، قلت: هـذا الوضع جعل الإمام الغزالي يستشعر مسئولية التغيير لحال المجتمع، والتجديد لأمر الدين، ولذلك فقد بدأ بالنظر في نفسه، وعمله، وقد وجد نفسه منخرطا في واقع الأمة المتردي، فقرر الانطلاق إلى تغيير الواقع، من نقطة تغيير الذات. [ ص: 65 ]
قال رحمه الله: " ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هـي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه، وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هـار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال " [3] وهكذا كان انطلاق الغزالي رحمه الله، إصلاحيا، تغييريا، فهو يمثل في هـذه المرحلة، رغبة الأمة في عودتها إلى أصولها التربوية، واستعادة صلاح حالها، كما كان أول الأمر، قبل حدوث الانحراف في المسلك العلمي، والتعليمي.. ونظرة عابرة إلى عناوين بعض أهم كتب الإمام الغزالي، تدل على هـذا القصد الإصلاحي الشامل، فقد سمى مشروع إصلاح السلوك التعبدي والاجتماعي للأمة، بـ: (إحياء علوم الدين) ، كما سمي مشروع إعادة تشكيل المنهج العقلي بـ : (المستصفى) .. فالمشروع الروحي كان يقوم عنده على (الإحياء) ، إحياء التدين والتعبد، وإحياء الأخلاق الإسلامية الفردية والجماعية. ويدخل تحت هـذا المعنى، ويرجع إليه، كل ما صنفه في مجال الأخلاق، والتصوف، كالمنقذ من الضلال، وكيمياء السعادة، والقواعد العشرة، والأدب في الدين، والرسالة الولدية، وهلم جرا ...
أما المشروع العقلي فقد قصد به إعادة تشكيل العقل المسلم، وذلك بنقض المناهج الفلسفية، والأفكار المادية الإلحادية، وإقرار المنهج الأصولي. [ ص: 66 ] فكتاب (المستصفى في علم أصول الفقه) ، هـو عنوان مشروع، حاول فيه الغزالي (تصفية المشارب المنهجية) ، بإرجاعها إلى أصل واحد ووحيد، هـو كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولذلك فكتبه العقلية الأخرى، هـي مكملة لهذا المشروع، سلبا، أو إيجابا. فمن الناحية السلبية، يعتبر كتاب (تهافت الفلاسفة) ، نقضا لما كان يراد له أن يكون بديلا عن المنهج العقلاني في الإسلام، وصدا للتأثير العقلي الإغريقي بصفة عامة، وكذلك كل كتبه في الرد على أهل الأفكار المنحرفة الأخرى.
أما من الناحية الإيجابية، فقد كانت كتب أخرى تكمل مشروع المستصفى، في بناء أصول المنهج العقلي في الإسلام، ككتاب المنخول، وكتاب شفاء العليل.. وقد حاول أن يستخلص ما رآه صالحا من علوم اليونان ، مثل علم المنطق، الذي جعله من العلوم الأساسية لميزان العقل. فصنف في ذلك (معيار العلم) ، وأدخل مقدمة منطقية إلى علم أصول الفقه، من خلال كتاب المستصفى.
والمقصود عندنا من خلال هـذا السرد لمختلف اهتمامات الغزالي، الإشارة إلى شمولية التوجه الإصلاحي الذي انخرط فيه، فكان بحق (حجة الإسلام) ، كما سماه كثير من المريدين، والمعجبين من العلماء، رغم ما سيق من انتقادات لمشروعه الشامل سواء في الجانب الروحي، أو الجانب العقلي. ولذلك عده بعض العلماء مجدد المائة الخامسة في الإسلام [4] . وهذا معنى، كان الغزالي نفسه يستشعره في حركته [ ص: 67 ] الإصلاحية، وذلك في قوله: " فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة، والخروج من الزاوية، وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة، متواترة، تشهد بأن هـذه الحركة مبدأ خير ورشد، قدر الله سبحانه على رأس هـذه المائة، وقد وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مائة، فاستحكم الرجاء، وغلب حسن الظن، بسبب هـذه الشهادات، ويسر الله الحركة إلى نيسابور ، للقيام بهذا المهم، في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة ... وهذه حركة قدرها الله تعالى، وهي من عجائب تقديراته... وأنا أعلم أني وإن رجعت إلى نشر العلم، فما رجعت، فإن الرجوع عود إلى ما كان، وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي يكسب الجاه، وأدعو إليه بقولي وعملي، وكان ذلك قصدي ونيتي.. وأما الآن، فأدعو إلى العلم الذي يترك الجاه، ويعرف به سقوط رتبة الجاه.. هـذا الآن هـو نيتي، وقصدي، وأمنيتي، يعلم الله ذلك مني، وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري " [5] .
ورغم شمولية المنهج الإصلاحي، الذي قام به الغزالي، ودعا إليه، إلا أنه كان غير متوازن من الناحية العملية، ولا التصورية، بسبب ترجيح كفة الجانب الروحي، على كفة الإصلاح العقلي، ترجيحا كبيرا، جعل التصوف هـو جوهر الإسلام، وغايته النهائية. فصحيح أنه دعا إلى إصلاح للعلوم الشرعية، ولكن من خلال المنهج الصوفي، إذ وسم الفقه الإسلامي [ ص: 68 ] بعلم الدنيا، والتصوف بعلم الآخرة، وكان هـذا التفريق، بداية فرض الوساطة المشيخية الصوفية ، على الفقه والفقهاء، قال رحمه الله، عن فروع علوم الشرع: " وهذا على ضربين: أحدهما يتعلق بمصالح الدنيا، ويحويه كتب الفقه، والمتكفل به الفقهاء، وهم علماء الدنيا، والثاني ما يتعلق بمصالح الآخرة، وهو علم أحوال القلب، وأخلاقه المحمودة، والمذمومة " [6] .
فكان طبيعيا أن يميل المريدون والأتباع إلى علم التصوف، ويزهدوا في الفقه، بل أن يسعى الفقهاء أنفسهم إلى وسائط التصوف، يأخذون عنهم الأوراد.. ومعلوم أن الصدر الأول من فقهاء الصحابة والتابعين، وأتباعهم، لم يكن لديهم هـذا التمييز، ولم يعترفوا به، بل حاربوا بوادره، إذ المفروض في الفقه أن يكون هـو مادة التربية، والمفروض في الفقيه أن يكون هـو المربي، وكذلك كان الأوائل فعلا، كما تبين.. ومن هـنا، حيث حصل التفريق والانفصام، صح كلام الحجوي رحمه الله كما أسلفناه: " أن حدوث التصوف وتطوراته، أدخل وهنا على الفقه كثيرا، بل وعلى الفقهاء " [7] .
وأعلى الغزالي من شأن التصوف، والمتصوفة ، إعلاء فيه من المبالغة، ما أثر سلبا على الأمة بعد، فلم يبق التدين مطلوبا إلا من بابهم، ولم يعد الارتقاء في مدارج الإيمان مسلوكا، إلا من مقاماتهم، ولم يصبح الاستدلال على رضى الله تعالى، إلا عبر أقطابهم وأبدالهم، وشيوخهم! [ ص: 69 ] قال رحمه الله: " وانكشف لي في أثناء هـذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاءها، واستقصاءها، والقدر الذي أذكره لينتفع به، أني علمت يقينا أن الصوفية هـم السابقون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عمل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء؛ ليغيروا شيئا من سيرهم، وأخلاقهم، ويبدلوه بما هـو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا " [8] ... فكان الغزالي بهذا، رحمه الله، وهو الذي خبر علوم النقل، وعلوم العقل، واستقصى مقاصد الملاحدة، والدهريين، والباطنية، والمتكلمين، والأصوليين، وغيرهم، يخط للأمة المحجة المنتقاة بعد التجربة والاختبار، لإصلاح تدينها، وسلوكها، وتربيتها، وحسن تطبيقها للإسلام عامة.. وسرعان ما تلقت الأمة اختياره بالقبول، فهي في عهده وبعده، أمة التقليد المحض، والارتباط بالأعلام، ممن برز في هـذا الاتجاه، أو ذاك.
والغزالي شخصية قوية جامعة، ذات جاذبية مؤثرة في أغلب الاختصاصات الرائجة في ذلك الزمان.. والناس بعد ذلك كانوا في حاجة إلى عودة، والقلوب في حاجة إلى إحياء، فقد أحدث جفاف العلوم العقلية، والفلسفية، التي طغت وانتشرت في القرن الرابع والخامس، عطشا إلى مناهل الروح، لكن العودة كانت رد فعل مفرط، فوقع الإفراط في مقدار، ومنهج العودة، والإحياء، مما أدى إلى القول بفردانية التصوف ، وأنه أصوب الطرق على الإطلاق، دون أن يفكر في [ ص: 70 ] إصلاح المنهج الفقهي ذاته، وربطه بالنصوص القرآنية والحديثية، لا بالوساطات، فيعود إلى وظيفته التربوية الجامعة، والمتوازنة في نفس الوقت، بل أعرض الناس عن الفقه جملة وتفصيلا، ورضوا في ذلك بأقوال المقلدة، ثم تهافتوا على أبدال التصوف ، ومشايخه، يبايعونهم كوسائل وساطية متفردة دون العالمين في هـذا الأمر، ليصلوا عبر ذواتهم إلى الله!.
وصحيح أن الغزالي لم يدع صراحة إلى التزام الوسيط، أو مبايعة الشيخ، بل صرح ببطلان ذلك، كما في قوله رحمه الله: " فكل من طلب هـذه الكيمياء، من غير حضرة النبوة، فقد أخطأ الطريق " [9] ...
إلا أنه رحمه الله، قد رسخ الوساطة في كثير من نصوص الإحياء، وغيره من مصنفاته الروحية، فقد كان تفضيله للمنهج الصوفي بإطلاق، كفيلا باعتماد الناس له، في عصر عرف بالتقليد المحض، ومن هـنا كان انتشار المنهج الصوفي في الأمة.. ومن أبرز خصائص سلبياته، القول بالوسيط.
ورغم أن الغزالي لم يقل بإلزامية الوسيط، إلا أنه أشار إلى أهميته، وقيمته الروحية التي لا يبلغها إلا الراسخون في السلوك، بل إن كثيرا من الخرافات التي عيبت على أبي حامد رحمه الله، إنما دخلت إلى كتاباته عبر إيمانه بخصوصية الأقطاب والأبدال. ففي الإحياء: " قيل لبعض العارفين: إنك محب، فقال: لست محبا، إنما أنا محبوب، والمحب متعوب. وقيل له أيضا: الناس يقولون إنك من السبعة، فقال أنا كل السبعة.. وكان يقول: إذا رأيتموني، فقد رأيتم أربعين بدلا!! قيل: [ ص: 71 ] وكيف وأنت شخص واحد؟ قال: لأني رأيت أربعين بدلا، وأخذت من كل بدل خلقا من أخلاقه. وقيل له: بلغنا أنك ترى الخضر عليه السلام ، فتبسم وقال: ليس العجب ممن يرى الخضر، ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه، فيحتجب عنه " [10] وهكذا فقد أعطى الغزالي المشروعية لنفسه، ولغيره لاتخاذ الوسائط مصادر للتدين، رغم تأكيده على ضرورة اعتماد الكتاب والسنة، ظنا منه أنهما غير متعارضين، باعتبار أن البدل لا يقول إلا حقا، من حيث إنه ملهم معصوم! فصار كلامه وتوجيهاته، ضربا من الوحي الذي على الأمة أن تعمل به، في تدينها وسلوكها. فما أكثر ما يروي تشريعات بدعية عن بعض الوسائط، على أنها حق، وعبادة مشروعة توصل إلى أعلى المقامات.. وأنت إذ تقرأ ذلك، تشم رائحة الوضع والتلفيق، بحسك النقدي، لكن من عطل الحواس، ما عساه أن ينتقد أو يراجع؟
قال رحمه الله في سياق تعليم المريد: " فإذا جلس في مكان خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وقال دائما: (الله، الله، الله) ، بقلبه دون لسانه، إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه، ولا من العالم، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى ، انفتحت تلك الطاقة، وأبصر في اليقظة، الذي يبصره في النوم، فتظهر له أرواح الملائكة، والأنبياء، والصور الحسنة الجميلة الجلية، وانكشف له ملكوت السماوات والأرض، ورأى ما لا [ ص: 72 ] يمكن شرحه، ولا وصفه، كما ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها ) ، وقال الله عز وجل : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) [الأنعام: 75]، لأن علوم الأنبياء عليهم السلام كلها، كانت من هـذا الطريق، لا من طريق الحواس ... وهو طريق الصوفية في هـذا الزمان.. وأما طريق التعليم فهو طريق العلماء، وهذه الدرجة الكبيرة، مختصرة من طريق النبوة، وكذلك علم الأولياء! " [11] فإذا سألنا الغزالي : من أين لك هـذا، وهو ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ أحالنا على الأبدال والأقطاب! فيعطيهم من المصدرية، ما يعطي لمصادر التشريع الحقيقية، فيقوم البدل، أو الوسيط، بإسناد علمه إلى إلهام لدني، أو رؤيا خاصة، أو إذا أعجزه الأمر قال: سمعت ذلك من الخضر عليه السلام ! فاقرأ قوله رحمه الله مثلا في ذكر عبادة غريبة، حيث قال: " قال كرز بن وبرة ، وهو من الأبدال، قلت للخضر عليه السلام ، علمني شيئا أعمله في كل ليلة، فقال: إذا صليت المغرب، فقم إلى وقت صلاة العشاء مصليا، من غير أن تكلم أحدا... واقرأ فاتحة الكتاب، و ( قل هـو الله أحد ) سبع مرات في كل ركعة، ثم اسجد بعد تسليمك، واستغفر الله تعالى سبع مرات، وقل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سبع مرات، ثم ارفع رأسك من السجود، واستو جالسا، وارفع يديك، وقل: يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا إله [ ص: 73 ] الأولين والآخرين، يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيمهما، يا رب، يا رب، يا الله، يا الله، يا الله، ثم قم وأنت رافع يديك، وادع بهذا الدعاء، ثم نم حيث شئت، مستقبل القبلة على يمينك، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأدم الصلاة عليه، حتى يذهب بك النوم.. فقلت له: أحب أن تعلمني ممن سمعت هـذا؟ فقال: إني حضرت محمدا صلى الله عليه وسلم ، حيث علم هـذا الدعاء، وأوحي إليه به، فكنت عنده " [12] !!! قال العراقي مخرج أحاديث الإحياء، في هـامشه: " وهذا باطل لا أصل له " .
ألا ترى إلى إغفال المنهج العلمي لدى الغزالي ، كيف أدى به إلى تصديق ونقل مثل هـذه الترهات، والأباطيل؟ وجعلها عبادة من العبادات المشروعة؟ ألا تحس بلمسات التكلف والوضع في سياق هـذا الخبر؟ إن العقلية النقدية، قد تعطلت تماما بتعطيل المنهج التعليمي ذي الأصول التوحيدية، وتعطيل الحواس العقلية، التي وهبنا الله إياها، لنستعملها في تبين الحق من الباطل، أو لنتحقق ونتبين الأقوال والأفعال، قبل الإقدام على تطبيقها.. ولكنها الوساطة المذمومة، قد أضفت العصمة على الوسائط، وأحلتهم محل التنزه على أي مواجهة، أو نقد من طرف المتلقين!
وقد أدى هـذا المنهج بالإمام الغزالي، إلى القول ببعض الأمور المنافية لنص الشارع، وقصده الحكيم صراحة، ولا مبرر له في ذلك، إلا أنها صدرت، أو وردت عن بدل، أو ولي من الأولياء، إن صح أنه كذلك.. جاء في الإحياء: " وعن بعضهم أنه قال: أقلقني الشوق إلى الخضر عليه السلام ، فسألت الله تعالى مرة، أن يريني إياه، ليعلمني شيئا كان أهم [ ص: 74 ] الأشياء علي، قال: فرأيته، فما غلب علي هـمي، ولا هـمتي إلا أن قلت له: يا أبا العباس ! علمني شيئا إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة، فلم يكن لي فيها قدر! " وعلمه دعاء طويلا، فلما صار يقوله، قال الغزالي : " إنه صار بحيث كان يستذل ويمتهن، حتى كان أهل الذمة يسخرون به، ويستسخرونه في الطرق، يحمل الأشياء لهم، لسقوطه عندهم، وكان الصبيان يلعبون به، فكانت راحته ركود قلبه، واستقامة حاله في ذله، وخموله! قال الغزالي، غفر الله له، معلقا: " فهكذا حال أولياء الله تعالى، ففي أمثال هـؤلاء ينبغي أن يطلبوا!! [13] "
عجبا! فيا ليت شعري، أين كان عقل الغزالي وهو يروي هـذا الكلام، ويعلق عليه؟ أين كان عقله الذي صنف به (المستصفى) ، و (المنخول) ، و (شفاء العليل) ، و (معيار العلم) ، و (مقاصد الفلاسفة) ، و (تهافتهم) ؟ طبعا، لقد اغتاله حينما سلمه للأبدال، والأشياخ! ولست أدري من كان من الأنبياء والمرسلين ذليلا خاملا؟ ومن كان من الصحابة يلعب به صبيان أهل الذمة؟ والله عز وجل يقول: ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [المنافقون: 8].
إن المرء حينما يقتل حاسة النقد في ذاته، ويؤمن بفكرة الشيخ الروحي، أو القطب، أو الغوث، أو البدل، بغض النظر عما يلابس ذلك من آثار عقدية، ونتائج شركية، فإنه حتما سيتلقى الزلات، والخرافات، والترهات، فيتدين بها لله رب العالمين، المنزل للقرآن الكريم، والملهم للسنة النبوية، شريعة غراء بيضاء، لا يزيغ عنها إلا هـالك.. إن آفة [ ص: 75 ] الوسائط خاصة في صورتها الصوفية، التي قدمت أردأ نموذج للوساطة، قد أدت إلى تعميق واقع الانحطاط في الأمة، وترسيخ نفسية الذلة والدروشة، التي مكنت للاستعمار في بلاد الإسلام، ليعيث فيها تخريبا وفسادا.
إن التصوف حينما تأسس كصناعة لها قواعدها، ومصطلحاتها، إنما قام على فكرة الوسيط، أو كما قال النشار : " بدأ التصوف باستنباط حياة زهدية من القرآن والسنة، ثم كان تصوفا، ثم أصبح التصوف علما يقابله قواعد علمية " [14] ، ومعلوم أن لبوسه لباس الاصطلاحات الخاصة، إنما كان في القرن الرابع الهجري حيث ظهرت فكرة القطبية، وهو العصر الذي ظهر فيه الحلاج بأفكاره الشاذة [15] .
وحينما جاء الغزالي في القرن الخامس، كانت القطبية قد ترسخت في إشارات المتصوفة ، ومقاماتهم، وكانت الوساطة، تشكل أغلب مادته، وسند مروياته.. أضف إلى ذلك، الاشتراط الصوفي لإلغاء الإحساس العقلي، وتعطيل التأصيل النقدي، والتمحيص الشرعي على كل مريد لطريقتهم، وإلا حجب عن الأنوار والمعارف الخاصة، التي عبر عنها الغزالي بقوله: " وكان ما كان، مما لست أذكره، فظن خيرا، ولا تسأل عن الخبر " [16] .
وهكذا توغلت الوساطة -مع الأسف- في أسوأ صورها، في أغوار تفكير الإمام الغزالي، إلى درجة ما يشبه القول بتأليه الأبدال، أو القول [ ص: 76 ] بالحلول، الذي ظهر عند سلفه، المقتول بسبب ذلك، الحسين بن منصور الحلاج ! فتأمل هـذه القصة الغريبة، التي يحكيها الغزالي رحمه الله، عن شخصية أبي يزيد البسطامي ، قال:
" حكى أن أبا تراب النخشبي ، كان معجبا ببعض المريدين، فكان يدنيه، ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته، ومواجدته، فقال له أبو تراب يوما: لو رأيت أبا يزيد؟ فقال: إني عنه مشغول. فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد، هـاج وجد المريد، فقال: ويحك، ما أصنع بأبي يزيد؟ قد رأيت الله تعالى، فأغناني عن أبي يزيد. قال أبو تراب: فهاج طبعي، ولم أملك نفسي، فقلت: ويلك تغتر بالله عز وجل لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة، كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة! (كذا!) ، قال: فبهت الفتى من قوله، وأنكره، فقال: وكيف ذلك؟ قال له: ويلك، أما ترى الله تعالى عندك، فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره!! فعرف ما قلت، فقال: احملني إليه!! فوقفنا على تل ننتظره، ليخرج إلينا من الغيضة، وكان يأوي إلى غيضة فيها سباع، قال: فمر بنا، وقد قلب فروة على ظهره، فقلت للفتى: هـذا أبو يزيد، فانظر إليه، فنظر إليه الفتى، فصعق، فحركناه، فإذا هـو ميت!! فتعاونا على دفنه، فقلت لأبي يزيد: يا سيدي، نظره إليك قتله! قال: لا، ولكن كان صاحبكم صادقا، واستكن في قلبه سر لم ينكشف له بوصفه فلما رآنا انكشف له سر قلبه فضاق عن حمله لأنه في مقام الضعفاء المريدين، فقتله ذلك " [17] . [ ص: 77 ]
فأحسن تأويل يمكن أن نئول به هـذه القصة، هـو أن نقول: إن مقدار التجلي الإلهي على أبي يزيد ، كان من العظمة، بحيث لم يطق النظر إليه مريد، لم يحصل له تجل بنفس الحجم، فلما نظر إلى الشيخ حصل له ذلك التجلي العظيم فلم يطقه فمات!! وهكذا يكون ذلك سببا في جعل رؤية الفتى لأبي يزيد، خيرا من رؤيته لله تعالى سبعين مرة! سبحان الله وتعالى عما يصفون! فأي وساطة عمياء هـذه، وأي انحراف؟
لقد تبنى الغزالي التصوف ، منهجا تربويا، فتبناه بكل علاته، ولم يستطع - رغم محاولاته - تخليصه من شوائبه الخطيرة [18] .. ولأنه جاء في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة: رأس المائة الخامسة، وقد اعترى المجتمع الإسلامي ما اعتراه من انحرافات، وقد تكالبت عليه الملل، والنحل، والأفكار الفلسفية، والباطنية، والزندقة، تخريبا، وتشكيككا، في عقيدة التوحيد، فانتصب الغزالي بكل قوة لرد هـذه الأمواج المدمرة، وكتب في كل الاختصاصات وكل المجالات، التي تسرب منها الفكر الهدام، حتى قيل إنه لم تقم للفلسفة قائمة بصورتها اليونانية المشائية ، في المجتمع الإسلامي بعد كتاب التهافت الذي نقض به الغزالي الفكر الفلسفي، بمقولاته المشائية الإغريقية، ورغم ما كتبه فيلسوف الأندلس أبو الوليد بن رشد ، بعد ذلك في (تهافت التهافت) ، ردا على الغزالي، إلا أن الأمة اختارت أن تسير وراء الغزالي في كل شيء، فتبنت عقيدته الأشعرية، كما أسلفنا، ومنهجه الصوفي، نظرا للظرف الدقيق الذي كانت تمر به في عصره. [ ص: 78 ]
قلت: كل ذلك جعل التصوف ، كأسلوب للتربية، وكمنهج للتدين، يسيطر على حياة الناس، عامتهم وخاصتهم. ثم تعددت طرائقه بعد الغزالي ، ودخلت إلى كل قرية، وكل مدينة، وكل أسرة، كما قال الحجوي فيما أسلفنا، ولكن مع الحفاظ على فكرة القطبية والبدلية ، التي تقبلها الغزالي، وكانت أحد مصادر المعرفة الروحية لديه.. بل لقد شاهت وتردت أكثر، وأكثر، نظرا لانحدار الأمة بعده باستمرار في دركات الانحطاط، وظهرت مقولات أخرى في الفكر الصوفي الطرقي، تعزز الوساطة، وترسخها، وأعطي الشيخ من السلطة على المريدين، ما لم يكن له من قبل. فصار أمر الناس، كل الناس، يرجع إليه وحده دون غيره، في اليسر والعسر، وماتت روح المبادرة في الأمة، وانعدمت الشخصية المستقلة القوية، إلا على الندور الشديد.
ويمكن إجمال تطور الوساطة الصوفية بعد الغزالي، فيما يلي: