لعل القرن الثامن الهجري، هـو أهم القرون من حيث التأصيل للتربية، والدعوة إلى تأسيسها على الأصول التوحيدية، ونبذ مختلف أشكال الوساطات، وذم التقليد، ثم الدخول في معركة شاملة مع المقلدة، ووسطاء المذاهب المتعصبين لمقولاتهم. وقد تميز القرن الثامن بكثرة الدعاة والمصلحين، الذين قاموا على نفس المنهج التوحيدي، فقد ظهر في النصف الأول منه الإمام تقي الدين ابن تيمية في المشرق ، وتلامذته الأعلام كابن القيم .
كما ظهر في الغرب الإسلامي، إمام غرناطة ، أبو إسحاق الشاطبي ، خلال النصف الثاني من القرن المذكور، وجاهد على غرار ابن تيمية، من أجل القضاء على الممارسات الوساطية في مجال التدين.
ونظرا لسعة الآثار التي تركها دعاة التوحيد في هـذا القرن، فقد عرف نهضة تدينية، وصحوة دينية متميزة، رغم الشدة التي قوبل بها العلماء المصلحون من نفي، وسجن، وتشريد، مما جعل القرن الثامن يتميز فعلا عن باقي القرون، بدءا بما بعد عصر الغزالي ، حتى مشارف العصر الحديث! بل ما زال تراث ابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، [ ص: 113 ] يشكل مادة مرجعية لكثير من الحركات الإصلاحية الحديثة والمعاصرة!
نعم تميز القرن السابع بوجود بعض الشخصيات التوحيدية، كالعز بن عبد السلام ، المتوفى سنة 660هـ، فقد قال عنه الأستاذ الحجوي : " مطلع على حقائق الشريعة ودقائقها، عارف بمقاصدها، آمر بالمعروف، نهاء عن المنكر، أزال كثيرا من البدع... ولما استعان سلطان وقته بالفرنج، وأعطاهم (صيدا) ، أسقطه من الخطبة... وقضيته في بيع المماليك، الذين كانوا ملوك مصر، غريبة! ولما امتنعوا، خرج من مصر يريد الشام فتبعه أهلها، وعلماءها، وكبارهم، وصغارهم، ونساءهم، حتى تبعه السلطان ورده، وباعهم، وفرق ثمنهم في وجوه الخير " [1] ... وقد أوردنا قبل جزءا من قصيدته في ذم الوساطة الصوفية ، التي منها قوله:
تركوا الشرائع والحقائق واقتدوا بطرائق الجهال والضلال
إلا أن تفرغ علماء القرن الثامن، للدعوة التوحيدية، وتصديهم للوساطة، وبثهم ذلك في أغلب مصنفاتهم جعل من حركتهم مشروعا متكاملا شكل خطوة هـامة في طريق إعادة تشكيل العقل المسلم، وتجربة رائدة، في مجال التربية، وتكوين الشخصية الإسلامية.. وسنقتصر على تقديم نموذجين اثنين فقط من هـذا القرن، هـما: ابن تيمية من المشرق ، والشاطبي من الأندلس بالغرب الإسلامي. [ ص: 114 ]