2- العـالـم 
كان عمرو، عالما من علماء الدين الحنيف، قدمه في العلم -على الرغم من تأخر إسلامه- ذكاؤه، وحرصه على التعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه العلماء، وإتقانه القراءة والكتابة، وكان إتقانهما في أيامه نادرا في أمة تفشت فيها الأمية، فقد كان عمرو أحد كتاب النبي صلى الله عليه وسلم [1]   .   [ ص: 150 ] 
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثين حديثا [2] ، أو سبعة وثلاثين حديثا [3] ، اتفق البخاري  ومسلم  على ثلاثة أحاديث، ولمسلم حديثان، وللبخاري بعض حديث [4] ، وروى عنه أبو عثمان النهدي  ، وقيس بن أبي حازم  ، وعروة بن الزبير  ، وعبد الرحمن بن شماسة    (بفتح الشين وضمها) [5] ، كما روى عنه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص  [6] ، ومولاه أبو قيس  ، وعلي بن رباح اللخمي  ، ومحمد بن كعب القرظي  ، وعمارة بن خزيمة بن ثابت  ، وغيرهم، وروى عن عائشة أم المؤمنين  ، رضي الله عنها [7]   . 
وكان متفقها في الدين، يدل على ذلك معاملته للأسرى والسبايا، وفرضه الجزية والخراج ، كما تدل على ذلك نصوص العهود، التي عقدها مع أهل البلاد المفتوحة، وبخاصة في مصر  ، ومعاملته أهل الذمة، وعرضه تعاليم الفتح في الإسلام: الإسلام، أو الجزية، أو القتال. 
وكان مجتهدا في الدين; اجتهد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، واجتهد بعد التحاق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى.   [ ص: 151 ] 
ومن اجتهاده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ما رواه الإمام أحمد بن حنبل  في مسنده،  ( قال عمرو    : احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكرت ذلك له، فقال: ياعمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب فقلت: نعم يا رسول الله! إني احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل :   ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )    (النساء:29) ، فتيممت ثم صليت! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل شيئا ) [8] ، وكان ذلك في سرية ذات السلاسل ، التي كان من جنودها أبو بكر الصديق  ، وعمر بن الخطاب  ، وأبو عبيدة بن الجراح  ، رضي الله عنهم [9]   . 
 " وكان عمرو يقول: (عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل " [10]   . 
أما اجتهاد عمرو بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، ففي سنة ثماني عشرة الهجرية، كان طاعـون عمواس ، فلما اشتعل قام أبو عبيدة في الناس خطيبا، فقال:   " أيها الناس إن هـذا الوجع رحمة ربكم،   [ ص: 152 ] ودعوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة  ، يسأل الله أن يقسم له منه حظه " ، فطعن، فمات. واستخلف على الناس معاذ بن جبل  [11] بعده، فقام خطيبا، فقال:   " أيها الناس! إن هـذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم " ، فطعـن ابنه عبد الرحمن ابن معاذ  ، فمات، ثم قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها، ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيـا) ، فلما مـات، استخـلف على الناس   " عمـرو ابن العاص  ، فقام خطيبا في الناس فقال: (أيها الناس! إن هـذا الوجع إذا وقع، فإنما يشتعـل اشتعال النـار، فتجبلوا [12] منه في الجبـال) ، فقـال أبو وائلة الهذلي  [13]   : (كذبت، والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت شر من حماري هـذا [14]   ) ، قال عمرو: (والله ما أرد عليك ما تقـول! وأيم الله لا نقيم عليه " ، ثم خرج، وخرج الناس فتفرقوا، ورفعه الله عنهم، فبلغ ذلك عمـر بن الخطاب من رأي عمـرو بن العـاص، فـوالله ما كرهه [15]   .   [ ص: 153 ] 
وقد اختلف هـؤلاء الصحابة الكرام في اجتهادهم، ولكن عمر بن الخطاب  أقر عمرا على اجتهاده. 
  ( وقد كان عمرو  يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم واجتهد، ثم أخطأ، فله أجر ) [16]   . 
  ( وعن عمرو بن العاص، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان يختصمان، فقال لعمرو: اقض بينهما يا عمرو! فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله! قال: وإن كان. قال: فإذا قضيت بينهما فما لي؟ قال: إن أنت قضيت بينهما، فأصبت القضاء، فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت، فلك حسنة ) [17]   . وتكليفه بالقضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ، دليل على متانته في الفقه، وذكائه، وحصافته. 
وكان عمرو من أصحاب الفتيا من الصحابة [18] ، وكفى بذلك دليلا على علمه. 
وقد وصفه رجل فقال: (صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلا أبين قرآنا، ولا أكرم خلقا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه) [19]   .   [ ص: 154 ] 
لقد كان عمرو عالما من علماء الدين، تلقى علمه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قارئا للقرآن الكريم، محدثا، فقيها، مجتهدا في الدين، من أصحاب الفتيا من الصحابة، ومن قضاة المسلمين الأولين. 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					