هذا الأسلوب القتالي المتميز الفريد، الذي اختص به عمرو دون سواه، أو ركز عليه في عملياته الحربية كافة أكثر من غيره من القادة، حتى يمكن أن نطلق عليه: الأسلوب العمري في القتال، يتلخص في: استعمال سلاح العقل أولا، واستعمال السلاح ثانيا، بمعنى: أن سلاح العقل يجب أن يعمل عمله في العدو أولا، فإذا انتصر هـذا السلاح بدون الأسلحة الأخرى، فذلك هـو المطلوب، وإلا أكملت الأسلحة الحربية عمل سلاح العقل لإحراز النصر بالسلاحين معا، سلاح العقل أولا، والسلاح التقليدي ثانيا.
وكان عمرو، يصـول بسـلاح العقـل، في كل معركـة خاضهـا، بما يناسبها من تعبية، تفيد رجاله وتوحدهم، وتضاعف من قوتهم، وترفع من معنوياتهم، وتضر عدوه، وتفرقهم، وتقلل من قوتهم، وتزعزع معنوياتهم، فيكون لرجاله بفضل سلاح العقل الغنم دوما، ويقع على عدوه -بتأثير هـذا السلاح فيه- الغرم أبدا.
وكان عمرو، أدهى من أن يستخدم سلاح العقل في فراغ، بل كان [ ص: 90 ] يستخدمه في إيجاد حقيقة راهنة، واستغلالها، وتعميق أثرها وتأثيرها، ثم توجيهها الوجهة التي يريد لمصلحة المسلمين ومصلحة الفتوح، ومصلحة فئته أيضا، كما فعل في استعمال سلاح العقل لمصلحة فئته في الفتنة الكبرى.
قبل سرية ذات السلاسل ، استغل عمرو قرابته لبني بلي ، إحدى القبائل المستهدفة، لأنهم تجمعوا وقضاعة، يريدون أن يدنوا إلى أطراف النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت أم العاص والد عمرو من بلي، فكان بنو بلي من أخوال عمرو، واتصل ببني بلي، واستثار فيهم حميتهم القبلية، وصلة القرابة به، واستفاد من المعلومات التي نقلوها له عن تجمعات قضاعة قبل نشوب القتال، فعلم أنه لا يقدر عليهم بقواته الراهنة، فاستمد النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاءه المدد، تعرض بقضاعة في الوقت والمكان المناسبين، فأدى ذلك إلى انتصاره.. وكان من أسباب النصر: حصوله على المعلومات المبكرة عن عدوه، وحرص بلي على معاونته ونصره، وعدم حرصها على معاونة قضاعة ونصرها، وكان لسلاح العقل، الذي سخره عمرو قبل نشوب القتال، وفي أثنائه، أثر حاسم في تسخير بلي، لمعاونته ماديا ومعنويا.
وفي حرب الردة، كان ميدان عمليات عمرو قضاعة وبلي أيضا، وهو ميدان عمليات سرية ذات السلاسل، فاستغل عمرو بسلاح العقل، [ ص: 91 ] الذين بقوا على إسلامهم في المنطقة، كما استغل المترددين، الذين حاروا بين الإسلام والردة، كما استغل المتفرجين، الذي لا يهمهم من أمر الحرب شيء، هـذا بالإضافة إلى استغلاله أخواله بني بلي ، واستفادته من تجربته المستفيضة في سرية ذات السلاسل ، فقد عرف تلك المنطقة معرفة تفصيلية دقيقة، وسخر تلك التجرية الثمينة في حربه الجديدة.
استغل الذين ثبتوا على الإسلام، فضمهم إلى صفوف رجاله، واستفاد من خبرتهم المفصلة بالمنطقة والمرتدين.
واستغل المترددين الحائرين بين الإسلام والردة، فأقنعهم بالثبات على الإسلام لمصلحتهم الدنيوية والأخروية، وخوفهم من نتائج ردتهم على مصيرهم، ومصير ما يملكون، فاستمال المترددين وضمهم إلى صفوف رجاله، واستفاد من خبرتهم العملية المفصلة بالمنطقة والمرتدين.
واستغل المتفرجين، وأقنعهم بفوائد انحيازهم إلى المسلمين لحاضرهم ومستقبلهم، ودينهم ودنياهم، فانحاز أكثرهم إلى صفوف رجاله، واستفاد من معلوماتهم المفصلة عن الأرض والعدو.
وكان له بنو بلي أخواله، كما كانوا له في سرية ذات السلاسل ، فما قصروا في إعانته وعونه في شيء، وكانوا عند حسن ظنه بهم. [ ص: 92 ]
وهكذا ربح بسلاح العقل نصف المعركة، قبل أن ينشب القتال، فلما نشب أحرز النصر بسهولة ويسر، لأنه فرق عدوه وأضعفه، ووحد رجاله وقواهم.
وفي معارك فتوح الشام ، استفاد عمرو من خبرته بطبيعة أرض الشام، وبقسم من الرهبان، والتجار، والعرب الغساسنة من سكانها، نتيجة لرحلاته المتكررة إلى بلاد الشام في تجارته.
واستغل خبرته بطبيعة أرض الشام، بمشورته لاجتماع المسلمين باليرموك ، كما استغل خبرته بطبيعة الأرض في معاركه الأخرى في فتوح الشام.
واستغل معرفته بقسم من الرهبان، والتجار، والعرب الغساسنة في الحصول على المعلومات منهم عن الروم: قيادتهم، ونياتهم، وعددهم...الخ.
ولكن استغلاله للعرب الغساسنة من أهل الشام، كان أكثر أثرا، وأبعد تأثيرا، فقد ذكرهم أن عز الإسلام عز للعرب كافة في كل مكان، وأنهم إذا أسلموا كان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، أما إذا بقوا على دينهم، فلأهل الذمة في الإسلام مكان عظيم، ولأهل الكتاب مكانة عظيمة، ولا إكراه في الدين. [ ص: 93 ]
وأشاع ما جاء به الإسلام من العدل المطلق، والمسلمون والروم ليسوا في العدل سواء، فلا ظلم في الإسلام.
وقارن بين الضرائب التي يتقاضاها الروم، والجزية التي يتقاضاها المسلمون من الذين يحافظون على دينهم، ولا يعتنقون الإسلام، والفرق المادي بين الضرائب الرومية والجزية الإسلامية فرق جسيم.
وقد أدى قبول المسلمين خوض المعركة في أرض تناسبهم -هي أرض اليرموك- ولا تناسب عدوهم، إلى تهيئة سبب مهم جدا من أسباب إحراز النصر.
وأدى اجتماع المسلمين في مكان واحد، بقيادة واحدة في اليرموك ، إلى حشد قوتهم، وحرمان عدوهم من ضرب جيوشهم على انفراد، ليسهل عليه التغلب عليها واحدة بعد أخرى، ويزدردها لقمة بعد لقمة.
وأدى حصوله على المعلومات المفصلة عن العدو والأرض، إلى وضع خطة متكاملة لهزيمة العدو في المكان والزمان المناسبين.
وأدى استثارته الرحم العربي بين العرب المسلمين القادمين من الصحراء، والعرب غير المسلمين في بلاد الشام، إلى أن عرب الشام، لم يقاتلوا عرب الجزيرة، كما ينبغي، ولم يؤيدوا حلفاءهم الروم كما يجب، وقاتل من قاتل منهم خوفا من العقاب، لا قياما بالواجب، [ ص: 94 ] وشتان بين من يقاتل خوفا من العقاب، ومن يقاتل للقيام بالواجب.
وأدى تطلع المسحوقين من أهل البلاد إلى عدل المسلمين، إلى عدم تعاونهم مع الروم، أو وقوفهم على الحياد، وكانوا على كل حال، قلوبهم مع المسلمين، يتمنون أن ينقذوهم من ظلم الروم إلى عدل المسلمين.
وأدى تطلع أهل البلاد المحكومين بالاستعباد الرومي إلى تخفيف الضرائب الثقيلة عن كاهلهم بالفتح الإسلامي، إلى اعتبار الفتح إنقاذا، واعتبار المسلمين منقذين.. والناحية المادية تؤثر في المحكومين، وتجعلهم يميلون ميلا كاسحا إلى من يفيدهم ماديا، بتخفيف الضرائب عن كواهلهم.
ذلك بعض ثمرات سلاح العقل، الذي كان يشهره عمرو قائدا في فتح أرض الشام.
وفي معارك فتوح مصر وليبيا ، كانت خبرة عمرو بقتال الروم، قد تضاعفت بعد انتصاره عليهم في معارك عدة من معارك فتوح الشام ، فاستغل هـذه الخبرة، في معاركه الجديدة، في فتوح مصر بخاصة، وفتوح ليبيا بعامة.
وكان عمرو قد زار مصر في الجاهلية تاجرا، فتعرف على طبيعتها، وقسم من أهلها، كما لمس تذمر القبط من حكامهم الروم لفداحة [ ص: 95 ] ضرائبهم المفروضة على المصريين أولا، ولتردي الروم المستعبدين، بظلم المصريين المستعبدين، وتذمر المصريين من هـذا الظلم ثانيا، والتناقض المذهبي بين الروم من جهة، والقبط من جهة أخرى ثالثا وأخيرا، لذلك استقر في ذهن عمرو أن بالإمكان فتح مصر بسهولة ويسر نسبيا.
واستغل عمرو خبرته القديمة بطبيعة مصر، ومواقعها، ومواطن قوتها، ومواطن ضعفها، فكانت لهذه الخبرة فوائد لا تقدر بثمن في حربه للروم على أرض مصر الطيبة.
واستغل معرفته لقسم من سكان مصر من التجار وغيرهم، فحصل منهم على معلومات تفصيلية عن الروم عدو المسلمين، وعدو المصريين المشترك.
وقارن بين الجزية التي يفرضها المسلمون على المصريين، الذين يبقون على دينهم، وبين ضرائب الروم المختلفة على المصريين، فأظهرت تلك المقارنة أن ضرائب الروم أضعاف جزية المسلمين.
ولا جزية على الذين يعتنقون الإسلام، بل يصبحون جزءا من مجتمع الأخوة الإسلامي، لا فرق بين مسلم وآخر في الواجبات والحقوق.
وأبرز عمرو عدل الإسلام، فهو يأمر بالعدل، وينهى عن الظلم، ولا يرضى في حال من الأحوال عن الظلم والظالمين. [ ص: 96 ]
وعمق التناقض المذهبي بين الروم من جهة، والأقباط من جهة أخرى، ومنح الحرية المطلقة لرئيس القبط الديني، الذي كان مطاردا من الروم، ومختفيا عن الأنظار، كما منح المصريين الحرية الدينية المطلقة أيضا.
وأصبح المصريون يعللون أنفسهم بالتخلص من ضرائب الروم الفادحة، التي أثقلت كواهلهم، ويعللون أنفسهم بالتخلص من ظلم الروم، الذي شمل السكان جميعا بدون استثناء، ويعللون أنفسهم بالتخلص من الإكراه الديني، والتمتع بالحرية الدينية المطلقة، فاعتبر القبط قدوم المسلمين لفتح مصر إنقاذا لهم، واعتبروا المسلمين بحق لهم منقذين، لذلك كانوا مع المسلمين الفاتحين بقلوبهم وعاطفتهم، وعاونوهم في الفتح وتعاونـوا معهم، ولم يعـاونوا الـروم إلا مكـرهين لا راغبين، ومضطرين لا مختارين، وموظفين لا متطوعين.
لقد استعمل عمرو أسلوب سلاح العقل قبل معاركه وفي أثنائها، فكان من ثمراته انتصاراته العظيمة.
وما يقال عن فتوح مصر ، يقال عن فتوح ليبيا تقريبا.
وقد اقتصرنا على دور سلاح العقل في معارك عمرو، ولم نتطرق إلى نشاط عمرو في استخدام هـذا السلاح في مناحي الحياة الأخرى، فقد كان يستخدمه في السلام، كما كان يستخدمه في الحرب، [ ص: 97 ] وكان هـذا السلاح ملازما له، ملازمة الظل لصاحبه، لا ينفك عنه ولا يستغني، فيتخلص به من مآزق السلام -وما أكثرها- كما يتخلص به من مآزق الحرب، وينال به النصر في السلام، كما ينال به النصـر في الحرب، سواء بسواء.
وإذا كان للأسلحة التقليدية لغير عمرو من القادة، الأسبقية المطلقة في المعارك على سلاح العقل، فإن الأسبقية المطلقة بالنسبة لعمرو هـي لسلاح العقل، فهو أولا، والأسلحة التقليدية لها المكان الثاني، فالرأي قبل شجاعة الشجعان، كما قال أحد الشعراء القدامى، فهو أول ولها المحل الثاني!
وسلاح العقل الذي استخدمه عمرو في معاركه كافة، ميز حربه على حرب غيره من القادة، " فقال عمر بن الخطاب عن حرب عمرو: والله! إن حربه للينة، ما لها سطوة، ولا سورة، كسطوات الحروب من غيره " [1] .
وصدق عمر في وصف حرب عمرو، فما لها سطوة، ولا سورة، ولكن لها ثمرات يانعة، كأحسن ما تكون ثمرات الحروب من غيره ذات السطوة والسورة: النصر المبين.
وهنا لا ينبغي أن يظن أحد أن عمرا وحده من القادة كان يستعمل سلاح العقل، ويجعل له الأسبقية على السلاح التقليدي، [ ص: 98 ] والواقع أن هـناك كثيرا من القادة يستعملون سلاح العقل، ويجعلون له الأسبقية على السلاح التقليدي، من العرب ومن غير العرب، ولكن عمرا يبز أكثر هـؤلاء في اتكاله على سلاح العقل أولا، وعلى السلاح التقليدي بعد استنفاد سلاح العقل كل جهوده، وكل أغراضه، ومختلف طرقه وأساليبه.
واستعمال سلاح العقل أولا، إن دل على شيء، فإنما يدل على اعتماد القائد المطلق على نفسه، وقابليته العقلية المتميزة بالدرجة الأولى. فهو واثق بالنصر، فلا بأس أن يحرزه بأقل ما يمكن من الخسائر في الأروح، والأموال، والعرق، والدماء، والدموع.
كما أنه لا يوجد قائد لا يستعمل سلاح العقل، ولكن استعمال هـذا السلاح يكون بدرجات بالنسبة للقادة، فمنهم من يجعله في المقام الأول، ويكون السلاح الاعتيادي في المقام الثاني، ومنهم من يجعله في المقام الثاني، ويكون للسلاح الاعتيادي المقام الأول، وأكثر القادة من الصنف الثاني، أي من الذين يجعلون للسلاح الاعتيادي المقام الأول، وأقلهم من الصنف الأول، أي من الذين يجعلون لسلاح العقل المقام الأول، فما كل قائد يثق بأنه سيحرز النصر، إن لم يكن بالعقل فبالسيف، وآخر الدواء الكي.. وما دامت الحرب تجر بالويلات على الغالب، والمغلوب، وتكلف غاليا في خسائر الأرواح والأموال، والممتلكات بالنسبة للمنتصر والمندحر، فهي شر لا مراء فيه، [ ص: 99 ] وأمر ينبغي تجنبه بالعقل إن استطاع القائد تجنبه بالعقل، وتفاديه بغير الخسائر والأضرار إن استطاع القائد تفادي الخسائر والأضرار بالتي هـي أحسـن، وإلا
فـإذا لـم يكـن إلا الأسنة مركب فمـا حيلـة المضطـر إلا ركوبها
كما يقول الشاعر العربي القديم.