الأصل السادس
التحري في حال الشخص المعين، المرتكب لموجب الكفر أو الفسق، قبل تكفيره أو تفسيقه، بحيث لا يكفر ولا يفسق أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه
نبه ابن تيمية إلى عظم مسألتي التكفير والتفسيق عموما، فقال: (اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هـي من مسائل الأسماء والأحكام، التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة، والقتل والعصمة، وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين) [1] .
ولعظم المسألتين وخطرهما، فإن إطلاق الكفر أو الفسق على أحد لا يكون إلا بموجب قطعي، ولا سيما الكفر فإنه يكون (بمثل تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم) [2] ، ويتعلق بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق بالكتاب والسنة، وهما متضادان، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع تصديقـه وطاعتـه، وحكمـه [ ص: 91 ] لا يتبين إلا عن طريق الشرع [3] ، فليس لأحد أن يكفر أحدا بهواه؛ لأن التكفير حق لله تعالى، والذين يكفرون بهواهم هـم المبتدعة، كالروافض الذين كفروا أبا بكر [4] ، وعمر [5] رضي الله عنهما ، والخوارج الحرورية [6] الذين كفروا عليا رضي الله عنه وقاتلوا الناس على الدين، (حتى يرجعـوا عمـا ثبت بالكتـاب والسنـة وإجمـاع الصحابـة، إلى ما ابتدعه هـؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن.. ومع هـذا، فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون، ليسوا كفارا ولا منافقين، وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس، كأبي إسحاق الإسفراييني [7] ومن اتبعه، يقولون: لا نكفر إلا من يكفرنا، فإن الكفر ليس حقا لهم بل هـو حق لله، وليس للإنسـان أن يكذب على مـن يكـذب عليـه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك؛ لأن هـذا حرام، لحق الله) [8] . [ ص: 92 ]
ويصرح في موضع آخر بأن هـذا المسلك هـو مسلك أهل العلم والسنة، فيقول: (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله) [9] .
كما أن أهل السنة لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب والمعصية، وإنما ذلك من فعل الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب [10] ، وفي هـذا يقول رحمه الله: (من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفرون من خالفهم فيها ويستحلون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم.. وأهل السنة لا يبتدعون قولا، ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفا لهم، مكفرا لهم، مستحلا لدمائهم، كما لم تكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان [11] وعلي رضي الله عنهما ، ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم) [12] . . [ ص: 93 ]
بل يقرر شيخ الإسلام (أنه لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبـه، ولا ببدعة ابتدعها، ولو دعا الناس إليها، كافرا في الباطن إلا إذا كان منافقا، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلا، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، ولا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين) [13] ويعلل ابن تيمية منع إطلاق الكفر على المعين، أن له شروطا وموانع تقتضي انتفاء العذر، كالجهل بالحكم وثبوت الحكم بالعلم، (فلا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه... وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا، لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين) [14] .
ذلك أن الكفر حكم شرعي، لا يحكم به على أحد بمجرد الخطأ والغلط، بل لا بد من إقامة الحجة على المحكوم عليه، وفي هـذا الشأن يقول رحمه الله: (ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل [ ص: 94 ] ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) [15] .
وقد حذر الشيخ من تكفير أو تفسيق أو نسبة معصية إلى مجتهد معين، أخطأ فيما يسوغ الاجتهاد فيه من المسائل العقدية والعملية، فيقول: (إن من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، ومازال السلف يتنازعون في كثير من هـذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفـر ولا بفسق ولا معصية، كما أنكر شريح [16] قراءة من قرأ ( بل عجبت ويسخرون ) (الصافات: 12) ، وقـال: إن الله لا يعجب، فبلـغ ذلك إبراهيم النخعـي [17] ، فقال: إنما شريـح شاعـر يعجبه علمـه، كـان عبد الله [18] أعلم منه، وكان يقرأ: (بل عجبت) [19] .. [ ص: 95 ] وكما نازعت عائشة [20] رضي الله عنها ، وغيرها من الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، وقالت: " من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية " [21] ، ومع هـذا لا تقول لابن عباس رضي الله عنهما ، ونحوه من المنازعين لها: إنه مفتر على الله.. وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك.. وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال، مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعا مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغيا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق) [22] .
ويفرق الشيخ بين التكفير العام والتكفير المعين، فهو يرى (أن التكفير العام كالوعيد العام، يجب القول بإطلاقه وعمومه) [23] ، وفق الموجب، بغض النظر عن حال متلبسه، أما الكفر المعين فلا يحكم به على أحد إلا إذا توافرت فيه شروط الكفر، وانتفت عنه موانعه، دون تفريق بين المسائل العقدية والعملية.. وتقريرا لهذا المعنـى يقـول رحمه الله: (وحقيقة الأمر في ذلك، أن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص [ ص: 96 ] المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) (النساء: 10) . فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هـذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة المسلمين) [24] .
بل يرى الشيخ أن التحري في حال المتأول المخطئ في مسائل الاعتقاد، أولى من المخطئ في المسائل العملية، لخفاء الأولى وظهور الثانية، وفي هـذا يقول: (التحقيق في هـذا: إن القول قد يكون كفرا، [ ص: 97 ] كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة، واستحل الخمر والزنا وتأول، فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هـذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته، كما فعل الصحابة [25] .
رضي الله عنهم ، في الطائفة الذين استحلوا الخمر، ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هـذا يخرج الحديث الصحيح ( في الذي قال: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين... ) [26] وقد غفر الله لهذا، مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه) [27] .
ويشهد لهذا المنهج فعل الإمام أحمد رحمه الله، الذي تعرض لفتنة خلق القرآن من قبل الجهمية نفاة الصفات، فامتحنوه وضربوه [ ص: 98 ] وحبسوه بأمر من الخليفة المأمون [28] ، الذي وافقهم على التجهم، ومع ذلك فإن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هـو كفر. ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز، بالكتاب [29] والسنة [30] والإجماع، وهذا يدل على أنه لم يكفر المعين من الجهمية لجهلهم بالحكم أو غيره [31] ، هـذا مع أن الجهمية أشد المبتدعة ضلالا، بل المشهور عن الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفيرهم، قال فيهم (عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وقال غير واحد من الأئمة: إنهم أكفر من اليهود والنصارى) [32] .
أما غيرهم من أهل البدع، فإنهم لا يكفرون، مثل الشيعة المفضلة لعلي على أبي بكر رضي الله عنهما ، وكذلك المرجئة ، فإن بدعتهم من [ ص: 99 ] جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، أما القدرية المقـرون بالعلم [33] ، والروافض الذين ليسوا من الغالية [34] ، والخوارج ، فهم محل خلاف بين أهل العلم، وقد أثر عن الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج، مع قوله: ما أعلم قوما شرا من الخـوارج، ونقل أبو نصر السجزي [35] عن أئمة السنة، قولين في نوع كفر الجهمية : الأول أنه كفر ينقل عن الملة، هـو قول الأكثر، والثاني كفر لا ينقل عن الملة.. وذكر الخطابي [36] : إن تكفير أهل السنة لهم، على سبيل التغليظ [37] . [ ص: 100 ]