تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أنزل القرآن تبيانا لكل شيء، فقال تعالى: ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) (النحل: 89) .
وجعله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، قال تعالى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) (المائدة: 48) .
وبذلك يمكننا القول: بأن القرآن الكريم والسنة الصحيحة المبينة له، وضعا القيم الضابطة لمسيرة الحياة على أصعدتها المتعددة، وشرعا المبادئ العامة لكل شيء، وتركا أمر وضع الخطط والبرامج للعقل البشري المتخصص في شعب المعرفة المتعددة، شريطة أن يتحقق [ ص: 9 ] بالمرجعية الشرعية في الكتاب والسنة، ويهتدي في أنشطته المتعددة بهدايات الوحي، بقيم الكتاب والسنة، بحيث تكون هـذه القيم أيضا هـي معيار التقويم والتصويب والتسديد والمراجعة لكل فعل ونشاط، مادي أو معنوي، ليجيء مؤسسا على الرؤية الإسلامية.
ولعل من عظيم فضل الله الأكرم الذي علم بالقلم، أنه ترك -تكريما للإنسان- مساحات للاجتهاد فيما يتطور ويتغير على الزمن، في ضوء القيم الضابطة في القرآن والبيان، الأمر الذي يعني فيما يعني: الاجتهاد في التنزيل العملي لأحكام الدين وقيمه على الواقع، بمقدار استطاعته.
وبالإمكان القول أيضا بأن من أبرز خصائص هـذا النص السماوي الخالد، الذي نزل تبيانا لكل شيء، الهيمنة على الرسالات السابقة في كل شيء، ابتداء من نقد ونقض النص الديني المعمول به، وانتهاء بكل الإنتاج الثقافي والاقتصادي والمعرفي والفكري والسياسي والاجتماعي والحضاري، الذي جاء استجابة له أو خروجا عليه، بشكل أعم.
فالتبيان لكل شيء، يقتضي الهيمنة على كل شيء، وبهذا نقول بأن الهيمنة تعني من بعض الوجوه امتلاك صفة القيم المعيارية، [ ص: 10 ] التي يناط بها الرقابة والتصويب لكل الإنتاج الإنساني، المادي والمعنوي.. فهي تصويب للتاريخ، ومعايرة للحاضر، ورسم لمعالم المستقبل، هـذا ما نلمحه من قوله تعالى: ( تبيانا لكل شيء ) ،
وقوله: ( ومهيمنا عليه )
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي جسد عملية البيان لكل شيء، بقوله وفعله وتقريره، ليكون دليلا للاجتهاد وتنزيل القيم على الواقع، حتى لا تتيه الأفكار، وتضل الأفهام، ويمارس التأويل الجاهل، والانتحال الباطل، والمغالاة الضالة المنحرفة، عندما لا تتحقق بالمرجعية الشرعية، ليس على مستوى القيم والأفكار وهذا ما حفظه القرآن، وإنما أيضا على مستوى التطبيق والتنزيل على واقع الناس، وهذا ما حققه البيان النبوي أيضا.
وبعد: فهذا كتاب الأمة الثامن والخمسون: "تخطيط وعمارة المدن الإسلامية" للأستاذ خالد محمد مصطفى عزب ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة التشكيل الثقافي والبناء الحضاري، في ضوء المرجعية الشرعية، وإعادة الانفعال والاستبصار بالقيم المعيارية في الكتاب والسنة، [ ص: 11 ] لضبط مسيرة الحياة، واستلهام الرؤية الشاملة المتوازنة، التي تكمن وراء حركة الفعل التاريخي، والإنتاج والإنجاز الثقافي والحضاري، أو بتعبير أخص "الفقه الحضاري"، أو بناء العمران البشري بكل مدلولاته المادية والروحية، وإحياء التكليف الشرعي لفرض الكفاية ، أو ما يمكن أن نطلق عليه الفرض الحضاري، وبدء عملية السير في الأرض، والتعرف على الممارسات والعواقب والمآلات، واكتشاف سنن الله في السقوط والنهوض، ذلك أن التاريخ هـو مختبر ودليل صدقية هـذه السنن، ومن أهم مصادر التعرف عليها، كما أرشدنا لذلك الكتاب والسنة.
ولعل في النماذج التاريخية التي عرض لها القرآن فيما اصطلح على تسميتها ب "القصص القرآني"، وطلب إلينا النظر فيها، واستقراء الأسباب والسنن التي حكمت نهوض وسقوط الأمم السابقة، معوانا لنا للتعرف على هـذه السنن الجارية وأخذ العبرة والدرس، حتى تكون الأمة الخاتمة على بينة من الأمر وهدى، فلا تنتقل إليها علل الأمم السابقة وأسباب انقراضها.
وإضافة إلى ذلك، لم يرد لنا القرآن الاقتصار على ما ذكر من القصص القرآني كنماذج، وإنما حض على السير في الأرض، الذي [ ص: 12 ] يعني التوغل في التاريخ، والتعرف على القوانين التي حكمت حركته، ليكون ذلك دليلا كافيا على أن التاريخ هـو من أهم مصادر المعرفة لهذه السنن، بدليل من الوحي وإرشاده، لأن هـذا السير مصدره الأمر القرآني والهدي النبوي.
لذلك يمكن القول: إن هـذا السير المطلوب، أو هـذه الدراسة المشروعة لحركة التاريخ، أو التحليل والتعليل للفعل التاريخي، ليس أمرا مبتدعا أو مقابلا لمعرفة الوحي، وإنما هـو من لوازم وثمرات معرفة الوحي، التي أشارت وأكدت في أكثر من موقع على ثبات السنن واطرادها، وعدم تبدلها وتغيرها في السقوط والنهوض الحضاري.
وبهذا نقول: بأن القرآن لم يقتصر على رصد التجربة الإسلامية، وإنما طلب تجاوزها إلى السير في الأرض، والتوغل في تاريخ الحضارات التي سادت ثم بادت، على الرغم من إمكاناتها المادية وبنائها العمراني،
قال تعالى: ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ) (الروم: 9) .
وقال: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) (الأحزاب: 62) . [ ص: 13 ]
إن هـذا السير في الأرض، يعتبر -كما أسلفنا- من فروض الكفاية، أو من الفروض الحضارية -إن صح التعبير- التي أمر بها القرآن، لاكتشاف السنن الفاعلة، والتعرف إلى كيفية التعامل معها وحسن تسخيرها، ومدافعة القدر بقدر أحب منه إلى الله.
والأمر الذي نعاود التأكيد عليه، أن هـذا السير لا بد أن يكون مستصحبا القيم في الكتاب والسنة، مستهديا بها، ومتحققا بالمناهج والنماذج التي طرحها القرآن في القصص القرآني.
لأن التوغل في التاريخ بدون هـذه الرؤية الموحى بها، أو هـذه البوصلة المرشدة والمبينة للجهات، سوف يقود إلى الضلال والتضليل والتفسير القاصر والعاجز للتاريخ، ويؤدي في معظم الأحيان إلى اختلال ضبط النسب، والسقوط في تضخيم أحد العوامل على حساب العوامل الأخرى للفعل التاريخي، كما حصل للفكر والتطبيق الماركسي، وسيحصل للفكر والتطبيق الليبرالي، إن عاجلا أو آجلا، اللذين حاولا التفسير والتحليل للتاريخ بدون رؤية سليمة ومتكاملة، وأداة ومناهج بحث سليمة، فألغوا إرادة الفرد، وحولوا البشر إلى مجموعة أرقام في الإنتاج والبناء، فانقلب الإنسان من مسخر للآلة، فاعل في الحياة، صانع للتاريخ، إلى مخلوق مسلوب الإرادة والحرية، عبد للآلة، وسيلة للإنتاج. [ ص: 14 ]
ولا بد أن نوضح ابتداء: أن استشراف التاريخ أو علم التاريخ والعمران البشري بشكل عام، على أهميته وضرورته لمعرفة الحاضر ورؤية المستقبل، واكتشاف السنن والقوانين الفاعلة في العمران البشري، لم يأخذ البعد المطلوب من العقل المسلم، على الرغم من الأمر الإلهي للسير في الأرض، وتعليل هـذا السير بهدفه الذي يحقق التبين والاهتداء، والاتعاظ بالأحوال، وأخذ العبرة والدرس، وتحقيق الوقاية الحضارية:
( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138) .
ومع الأسف فقد سبقنا إلى الكثير من القراءات والتفسيرات والتحليلات التي يمكن وصفها بالمذهبية، وليست المنهجية على كل حال، إلى درجة أصبحت هـذه التفسيرات أو التحليلات تشكل للكثير من المسلمين مصادر للمعرفة، بينما التفسير الإسلامي للتاريخ وحركة العمران البشري بشكل عام، وإيجاد التخصصات العلمية المتحققة بالمرجعية الشرعية، بالقدر المطلوب، لا تزال غائبة بالأقدار المناسبة، شأنها شأن سائر الفروض الكفائية الأخرى، على الرغم من ادعائنا أننا أصحاب منهج النقل، وأصحاب هـذا الرصيد [ ص: 15 ] الهائل من الآليات المنهجية المتقدمة، فيما يطلق عليه "علم مصطلح الحديث".. ولعله من المؤسف حقا القول: بأن هـذه الآليات المنهجية فقدت الكثير من روحها وأهدافها، وتحولت دراستها من كونها وسائل وأدوات، لتصبح أهدافا بحد ذاتها، وتوقف تفعيلها إلى درجة أن الكثير من الذين يدرسونها، يرددون الأمثلة التي أوردها السابقون، دون أن تكون عندهم المقدرة لتعدية هـذه المناهج إلى الواقع، والاستدلال عليها بمثال جديد أو معاصر.
والناظر في حال أمتنا الثقافي، وفيما تمتلك من قيم معيارية لتقويم الفعل التاريخي، ومن رصيد لمناهج نقد الخبر وتقويمه، لا يصدق ما يرى من العجز والتخاذل المعرفي والثقافي، ولولا رحمة الله بنا بسبب ما تمنحه لنا معرفة الوحي في القصص القرآني من البصارة والوقاية الحضارية، لدخل علينا أكثر فأكثر، ولكان الحال أشد إيلاما وإحزانا.
ولعل السبب في ذلك ما يمكن أن نسميه: عقدة الخوف من الخطأ والاجتهاد الفكري، وسيطرة فكرة التقديس لكل التاريخ والعمران البشري الإسلامي، مع أنه فعل بشري يجري عليه الخطأ والصواب، الأمر الذي تركنا في فضاء من الفراغ والركود الفكري [ ص: 16 ] والتقليد الجماعي، سمح لتمدد الآخر برؤاه وأفكاره وأنظمته المعرفية وأفكاره المذهبية، وأنماطه المعمارية، وحاجاته المادية، التي تحمل عقله وعقيدته وثقافته، وتشكل وعاء حياته، وامتداد تاريخه، وفلسفة مجتمعه.
والقضية التي نرى أهمية لفت النظر إليها، أن مصطلح العمارة أو العمران البشري، لا يقتصر على فن البناء بأنماطه وأشكاله وهندسته، أو إقامة البنيان بشكل عام، وإنما يعني بالمفهوم القرآني أو الإسلامي القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله سبحانه وتعالى على مختلف الأصعدة.. أي أنه يشمل النشاط البشري في المجالات المتعددة، المادية والفكرية الثقافية على حد سواء، وهو بهذا المعنى قد يرادف مفهوم أو مدلول الحضارة، الذي يعني عند بعض العلماء: اجتماع عنصري الثقافة "الإنتاج الفكري والروحي، أي الارتقاء بخصائص الإنسان"، والمدنية "الإنتاج المادي، الذي يعني الارتقاء والإبداع في وسائل الإنسان"، وإن شئت فقل: اجتماع الثقافة التي تعني عالم الأفكار وما يقع في إطارها، والمدنية التي تعني عالم الأشياء.. وبذلك تكون الحضارة هـي العمران بشكل عام، أو النشاط البشري في مجالي الأفكار والأشياء. [ ص: 17 ]
وهذا التقسيم قد يكون فنيا من بعض الوجوه، لأنه لا يمكن أن يتصور، لا عقلا ولا واقعا، أن يتم إنتاج أي شيء حتى في إطار الماديات، أو في إطار الأشياء، ما لم يسبق بفكرة تدرك أهميته ووظيفته وهدفه، ومن ثم يسبق بتصميم أيضا لشكله الذي يخدم فكرته ويحقق هـدفه، لذلك يأتي هـذا المنتج المادي إلى حد بعيد أشبه بشواهد مادية ولوحات إرشادية، ترى من ورائها الثقافة والاتجاهات التي يحملها هـذا المنتج إلى المتعاملين معه.
فهذه المنتجات المادية هـي في الحقيقة مشبعة بأفكار وثقافات منتجيها، وتشكل بوجه أو بآخر أحد المعابر أو الجسور التي تتسلل من خلالها ثقافة منتجيها إلى الآخرين، وتطبعهم بطابعها، وتطوعهم لها من خلال استخدامها، وكيفية التعامل معها ضمن الأنساق المعرفية والحضارية التي أنتجتها، والأفكار التي جاء تشربها ثمرة للاهتمام بها، واستئثارها باهتمام المتعاملين معها، وتوجيههم صوبها، استعمالا واستهلاكا، وما يتبع ذلك من تغيير للطبائع والعادات، إضافة إلى ما يترتب على استيرادها وتكديسها من تكريس التخلف، وإصابة الأمة بالعجز والتخاذل، والمعاناة من عقدة مركب النقص أمام هـذه المنتجات المادية، التي لا يرى فيها الكثير ممن [ ص: 18 ] لا يبصرون إلا الصورة ويعجزون عن إدراك الحقيقة، إلا أنها وسائل مادية محايدة وبريئة من أي ترافق ثقافي.
فإذا كانت التقنيات الحديثة -وفي مقدمتها تقنيات الإعلام والاتصال، التي تساهم في تسيير وإنشاء العمران الإنساني بشكل عام- لها من المخاطر ما لم تدرك آثاره المتراكمة بعد،، فإننا نرى أن الأثر الأخطر إنما يكون في أنماط البنيان التي تحتضن الإنسان، ونظام العمارة وتخطيط المدن، والشوارع والمرتفقات العامة، والفنادق وأماكن السياحة، بما تحمل من المبادئ والأفكار والقناعات التي تحكم وظيفتها وهدفها، ومن ثم خضوع تخطيطها لهذه الفلسفة، وبذلك يصير الحجر، والجدار، والشارع، والبيت، والتقسيمات في داخل البيت، وإزالة الحواجز بين الغرف، كلها أدوات صامتة في الغزو الفكري والتمكين للارتهان الثقافي.
هـذا النمط العمراني الذي يتحكم بمسالك الإنسان، يوجه حركته، ويفرض عليه ضروبا من المعيشة والحياة تنسجم مع طبيعة أنماطه وأشكاله وأهدافه، قادر على أن يحطم بصمت وهدوء القيم والضوابط الشرعية، ويشجع على الانكشاف، ويمارس إلغاء العورات الثلاث، والأكثر والأقل، ويلغي الاستئذان، ويمكن للحياة البوهيمية المنفلتة، [ ص: 19 ] ويدفع بالسكان إلى الخروج من المنازل إلى أماكن اللهو والعبث، المهيأة مسبقا، كجزء من النمط والتخطيط العمراني ولا يمكن إدراك مخاطر ذلك، ومدلولاته الثقافية، وأبعاده الاجتماعية، إلا بعد فهم فلسفة الحياة التي تكمن وراءه، والرؤية الحضارية التي أثمرته.
فهو علاوة على ما يحدث من القطيعة التاريخية والتراثية في مسيرة الأمة الحضارية، ويطمس على وجه شخصيتها، ويخرجها عن دينها وتقاليدها وموازينها الشرعية، فإنه نمطا من المعيشة والحضارة يؤدي شيئا فشيئا إلى إلغاء الخصوصيات الثقافية، ويصنع القابلية للتلقي الحضاري والثقافي عن "الآخر".. وبذلك يمتلك القدرة على التحكم بالمستقبل أو بأجيال المستقبل، التي تنشأ في رحم النمط الحضاري غير الإسلامي، لأنه يصوغها ويقولبها طبقا لرؤيته.. هـذا إضافة إلى الضخ الإعلامي والثقافي، وجميع أنواع الإنتاج المادي لفلسفة الحياة نفسها، الذي احتل المساحات الكبرى من حياتنا اليومية، ولم يبق لخصوصيتنا الثقافية والدينية إلا هـوامش بسيطة، تتراجع شيئا فشيئا أمام هـذا الإغراق الحضاري على مختلف المستويات، لأن الرؤية الحضارية شاملة متكاملة، لها نظام معرفي، [ ص: 20 ] وسياسي، واجتماعي، واقتصادي، وإعلامي، وعمراني واحد.
وهذه الأنظمة التي تفرزها الرؤية الحضارية، هـي أشبه بفرق الجيش الواحد ذي الهدف الواحد، لكنها ذات أسلحة متعددة، وتدخل من جبهات متعددة، وقد تتأخر بعض الجبهات، وتتمنع عن الاختراق، لكنها جميعا تنطلق من موقع واحد، وتصب في غاية واحدة.. وبالتالي فالتخلف والتخاذل، الذي يؤهل للتلقي الثقافي والحضاري، هـو أيضا ذو نسق واحد، حيث لا يمكن أن يكون التخلف في جانب دون غيره، لأن السلوك والعزمة الحضارية لا تتجزأ، لأنها منظومة متماسكة، يستدعي بعضها بعضا، ويقوي بعضها بعضا أيضا.
والناظر في أشيائنا: أجهزتنا، وسائلنا في النقل والاتصال، عمائرنا، مفروشاتنا، ألبستنا، مصادرنا الدوائية، وموادنا الغذائية والاستهلاكية، يجد أنها كلها من إنتاج حضاري آخر، وما شعار مثل: "ذبحت على الطريقة الإسلامية" للكثير منها، إلا بطاقة مرور لها، وتأهيل لنا لقبولها، لتستمر وتمتد حقبة التخلف، ونستمر في حالة الاستهلاك لمنتجات الآخرين، بكل ما تحمل معها من بصمات ثقافية وحضارية، ولعل في مقدمتها أنماط العمارة والبناء التي تحكم [ ص: 21 ] الولادة والنشأة والنمو في إطارها، وتزرع في وجدان الطفل أنه لا عورة ولا حرمة لشيء، ولا خصوصية حضارية أو دينية لغير السيد الغالب المسيطر.
والأمر المحزن حقا، هـو العجز عن إدراك ثقافة المنتجات المادية، وغياب فلسفة العلوم والإبداعات المادية وأهدافها، والوهم أو التوهم المصنوع من الآخرين بأنها محايدة، وأن الخطورة تكمن فقط في الإنتاج الثقافي والفكري، ويقودهم الأمر إلى ألوان من سخرية العاجز، غائب الوعي بالتداعيات والآثار، فاقد الإحساس والإدراك معا، بأنه لا يمكن أن تكون هـناك عمارة إسلامية وعمارة غير إسلامية، وعلوم إسلامية وعلوم غير إسلامية، وهندسة إسلامية وهندسة نصرانية أو هـندوسية، وفيزياء إسلامية وفيزياء غير إسلامية، وخرسانة إسلامية وخرسانة غير إسلامية، هـكذا وبكل سذاجة وسطحية يتم الخلط بين الوسائل والغايات، وبين العلوم وأهدافها وفلسفاتها، دون إدراك للمخاطر الثقافية المترتبة على هـذه المنتجات المادية المشبعة بثقافة أصحابها.. الأمر الذي يقود -لو تحقق- إلى التفكير بكيفية التعامل معها، والتخفيف من آثارها، أو التفكير بالبدائل، واستنباتها في إطار الرؤية الإسلامية. [ ص: 22 ]
فالعمارة كفن هـندسي على الأخص وسائر الفنون الأخرى، لا بد أن تتوافق مع العقيدة، والمستلزمات والروابط الاجتماعية والضوابط الشرعية، والدواعي الفطرية المرافقة لهذا الفن.. فالفن المعماري والنسق التنظيمي في تخطيط المدن والشوارع والمرتفقات العامة، وأماكن النفع العام، له كبير الأثر في بناء العلاقات الإنسانية، ومتانة النسيج الاجتماعي، وإشاعة التوحد، وتعميق الأصول النفسية للتكامل الاجتماعي، من مثل التعاون، والتراحم، وحسن التجاور، والإيثار، والإحسان، وما إلى ذلك، تلك المعاني التي بدأت تموت في أحشاء المدن الحديثة.
ولعل من أبرز ما يميز الأنماط المعمارية الإسلامية، أنها تتمحور في بنائها وواجهاتها وهندستها ومرتفقاتها حول وجهة، أو بتعبير أدق نحو القبلة "المسجد الحرام"، أما في الأنماط العمرانية المعاصرة، أو في عمران المدن الحديثة، فلا وجهة ولا قبلة، ويصعب على الإنسان المسلم، وقد يجد عناء شديدا في تحديد القبلة، إذا خرج من المسجد وعبر الشارع، ودخل المباني المعاصرة.
كما أن الطراز الإسلامي في العمران كان مفتوحا إلى الأعلى، ليمكن المسلم من النظر إلى السماء.. هـذه الفسحة السماوية، [ ص: 23 ] لها مدلولات وإيحاءات في حس المسلم، وتوجهه في الدعاء، أو في التوجه إلى الله، لطلب الغوث والخير، حيث الماء مصدر الحياة، والغيث المدرار النازل من السماء مرهون بصلاح الناس واستغفارهم والتجائهم إلى الله، والتزام منهجه في العمران بمعناه الأعم.
قال تعالى: ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) (نوح: 10 -12)
وقال تعالى: ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (الأعراف: 74) .
وقال تعالى: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه ) (هود: 61) .
أما في الأنماط العمرانية في المدن الحديثة والمعاصرة، فالسماء محجوبة تماما، وكأنها صممت لتشكل قطيعة بين ساكنيها والسماء، وتغلق نافذة التفكر في الكون، فقد يعيش الإنسان ويموت [ ص: 24 ] في قوالب من البناء لا تمكنه من النظر في الكون، بآفاقه وكواكبه، وانتظامه وعبرته، ودلالته على الخالق.
نعود إلى القول: بأن نمط البناء وصورة المدينة الحديثة، يقوم على تقطيع الأوصال، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتحويل الإنسان إلى قطعة من الآلة العمرانية الرهيبة، بكل مستلزماتها، فقد يعيش في مبان وطوابق لا يعرف فيها الجار جاره، وقد لا يرى وجهه، إضافة إلى ما يكون في أحشائها من الفواحش التي يستدعيها انكماش الحس بالعورات، حيث نمط البناء، الذي جاء في الغالب ثمرة لرؤية وعقيدة غير إسلامية، لا يبالي بالعورات، بل يلغيها ولا يقيم لها وللخصوصيات وزنا، وإنما يسهل اقتراف الجرائم الأخلاقية، ويوفر أسبابها، من تيسير أسباب الانكشاف، والنظر، وتغييب الفاحشة والتستر عليها، حيث يبعدها عن الرقابة الاجتماعية، بطبيعة البناء نفسه.
ولا شك عندي أن بعض دواعي أنظمة الاستبداد السياسي والتجسس الأمني، أو الخوفي بالتعبير الأدق، كان السبب الأساس وراء بعثرة التماسك السكاني في أماكن كثيرة من العالم، باسم إعادة تخطيط المدن، وشيوع ما يسمى بالاشتراك بالجمعيات التعاونية للبناء، [ ص: 25 ] لتستلب من الإنسان جاره وقريبه وصديقه، وتدعه في مجتمع سكاني هـجين مختلف، يعاني من التفكك والتوجس والتجسس، وأزمة الثقة، والتناكر، فقد يعيش الإنسان عمره كله لا يرى جاره إلا بالمصادفة -كما أسلفنا- ولا يدري شيئا عن حاله، ولولا المساجد التي رحمنا الله بها، والتي تحاول إعادة تماسك اللحمة الاجتماعية، وتعيد التذكير بحقوق الأخوة التي بدأ النمط العمراني الوافد يغيبها شيئا فشيئا، لأصبحت الحال لا نحسد عليها.
كما لا يمكن أن يغيب أو يخفى الهدف الذي يقصد إليه إيضا المستعمر والمحتل، الذي يمثل صورة أخرى من صور الاستبداد السياسي، عندما يشق شارعا، أو يهدم بناء، أو يغير نمطا معماريا، ذلك أن هـذه الأعمال العمرانية أو التغييرية لهوية المدن وملامحها، التي تهدف إلى العدوان على شخصيتها التاريخية، تحمل الكثير من المغازي السياسية والثقافية والتراثية والتربوية، إضافة إلى ما يمكن أن يكون من القطيعة المخيفة التي تحدثها بين الأجيال وجذورها وقد تكون الممارسة الأخطر اليوم، تلك الأعمال العدوانية على مدينة القدس ، والمسجد الأقصى ، وحارة المغاربة ، التي تسعى إلى تغيير ملامح المدينة، وتعبث في عمرانها وبنيانها، وتطمس وجهها، في محاولة لتهويدها، ومحوها من ذاكرة الأجيال. [ ص: 26 ]
لقد غيبت الأنماط العمرانية الحديثة مسألة الضبط الاجتماعي، التي لا ينكر أثرها في التوارث الاجتماعي، وبناء سلوك الأفراد، ومراعاة العيب العام، وبناء السمعة الاجتماعية، أو بعبارة أدق صياغة وإشاعة الموازين الاجتماعية الدقيقة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأمر الذي لا يكاد ينكر، أن كثيرا ما يتجرأ الإنسان على كسر الموازين الاجتماعية عندما يسافر، أو يغيب عمن يعرفه، أو يكون في مجتمع غير مجتمعه، حيث يغيب الضبط الاجتماعي، كما أنه كثيرا ما يمتنع عن أنماط من السلوك في حضرة من يعرفه من أب أو جد، أو جار أو صاحب، أو حي أو قبيلة، أو أسرة ممتدة.
والأمر الذي لا بد من إيضاحه فيما نرى، أن العولمة كما هـو معروف، لم تعد تقتصر على جانب من جوانب الحياة دون آخر، وإنما تحاول أن تمحو الفوارق وتطبع العالم بطابع الغالب، على مستوى الإنتاج البشري، المادي والثقافي.. وقد نقول: إن نظام العولمة هـذا، سوف يحول العالم إلى قوي منتج للأشياء والأفكار، وفق عقيدته ومنظومته المعرفية وقضاياه الاجتماعية، وإلى مستهلك ضعيف واقع في منطقة التخلف، تكرس العولمة تخلفه وتحول دون نهوضه، [ ص: 27 ] لأنه سيبقى عاجزا يلهث وراءها، متابعة واستهلاكا.
والحقيقة أن ظهور أنماط العولمة في العمران، لم يعد بحاجة إلى دليل، فالمدن الحديثة في عالمنا الإسلامي بتنظيمها وشوارعها، ومرتفقاتها، وفنادقها، وشوارعها، وأنديتها وأماكن ترفيهها، يزداد تقاربها يوميا، ذلك أن نظام العمران "غير الإسلامي" بدأ بمساحات صغيرة كالفنادق، والنوادي، والأبنية التي تنتسب لحضارات وثقافات أخرى، ومن ثم بدأ بالاتساع والإغراق العمراني، بينما بدأ العمران الإسلامي، بأنماطه، وأشكاله، وهندسته، ومرتفقاته، بالانحسار.. بدأ العمران الغربي، إن صح التعبير، وكأنه جزر معزولة في الوسط العمراني الإسلامي، ومن ثم أخذ يتمدد ويلتهم ما حوله من العمران لصالحه.. ولهذا أسبابه طبعا، ولعل الكثير من المتخصصين بهندسة العمارة من أبناء العالم الإسلامي، ساهموا بذلك مساهمة سلبية، لأنهم بطبيعة دراستهم وتدريباتهم، وأساتذتهم وكتبهم، مرتهنون لنمط العمران غير الإسلامي.
وقد نقول: إن نظام العولمة اليوم، يجتاح أشياء العالم الإسلامي بسرعة مذهلة، وإن كان هـذا النظام ما يزال ولا يزال يصطدم بأفكار وعقيدة المسلمين، ويجد صعوبة في اجتياحها. [ ص: 28 ]
وقد تكون المشكلة، أو إن شئت فقل أحد وجوه المشكلة، في النمط العمراني الممتد، هـي في الانشطار الثقافي الذي يشكل أخطر إصابة لعالم الأفكار ابتداء، الأمر الذي يستتبع الإصابات الكثيرة في عالم الأشياء، بحيث يجيء الإنتاج المادي بعيدا عن قيم الأمة المسلمة.
فالعلماء والمهندسون الذين تخرجوا في معاهد الغرب، أو الذين درسوا في جامعات العالم الإسلامي المرتهنة للمناهج الغربية أو المسكونة بالمناهج الغربية، يعانون من فقدان المرجعية الشرعية بشكل عام، وفقه الأحكام الشرعية المتعلقة بعمارة الأرض، ليأتي إنتاجهم محكوما بالضوابط الشرعية، ومتجها لتحقيق المقاصد الشرعية.. والذين يفقهون الأحكام الشرعية المتعلقة بالعمارة ومرتفقاته، لا إلمام لهم بالتقنيات الهندسية كما هـي في الواقع.
لذلك يمكن أن نلخص مشكلة العالم الإسلامي اليوم، بوجود متخصصين لا فقه لهم، وفقهاء بالأحكام الشرعية لا تخصص لهم في شعب المعرفة المتعددة بينما لو نظرنا في تاريخنا الثقافي، لوجدنا أن التكامل كان موفورا، فالكثير من العلماء في شعب المعرفة المختلفة كانوا فقهاء ومحدثين ومفسرين ... إلخ. [ ص: 29 ]
ولا مخرج اليوم -فيما نرى- بعد أن اتسعت دوائر المعرفة، وضاق العمر عن استيعاب حتى مجال التخصص الواحد، لا مخرج إلا بإقامة مراكز بحوث ودراسات تتعدد فيها الاختصاصات، ويتحقق فيها للمختصين قدر من المرجعية الشرعية، ومن ثم يتم بناء الفعل الميداني من خلال مساهمة تخصصات متعددة، تكون القيم الإسلامية والضوابط الشرعية والأحكام الفقهية فيها بمثابة العين الساهرة، التي تراقب الإنتاج، ولا تسمح بمرور إلا ما يوافق المواصفات، ويحقق الوظيفة الاجتماعية، وهذا لا يمكن أن يتوفر إلا بتحقيق قدر مطلوب لفقهاء الأحكام الشرعية من الثقافة العلمية عن المجالات التي يشاركون فيها، وتحقيق قدر من معرفة الأحكام الشرعية للمختصين في شعب المعرفة المتعددة.
فالرقابة الشرعية على البنوك الإسلامية مثلا، لا يمكن أن تؤدي دورها بشكل سليم بدون ثقافة مصرفية، ورجال المصارف لا يمكن أن يخططوا لأعمالهم وممارساتهم بدون قدر من المعرفة للأحكام المالية الشرعية.
وهنا قضية قد يكون من المفيد أن نشير إليها، ونتوقف عندها بعض الشيء، وهي أن الفن المعماري بدأ ينكمش مفهومه أكثر فأكثر، [ ص: 30 ] وغيبت وظيفته، حتى أصبح يقتصر على ما يسمى بالفنون الشعبية، وتتجه مناهجه إلى دراسة التذهيبات، والتفضيضات، والنقوش، والرسوم، والنحت، والزخرفة، وما إلى ذلك، الأمر الذي أتاح الفرصة لبعث الجاهليات، ونبش الوثنيات، وإعادتها لذاكرة الأمة، واحتجاز مساحات في مخزونها التراثي، وكم يتمنى الإنسان أن تتجاوز هـذه الدراسات -التي بدأت تقتصر على دراسة الأشكال، والمنحنيات، والمنمنمات، والأقواس، والتخشيبات، والمشربيات، وما إلى ذلك- إلى دراسة عقائد الأمم، وأثرها في عملية التعمير والأنشطة الإنسانية ككل وبخاصة في الفن المعماري الذي لا يمكن استيعاب نمطه ولا وظيفته، إلا بمعرفة الفلسفة التي تكمن وراءه، والخلوص إلى عوامل السقوط والانقراض، ليأخذ الناس درسا وعبرة، ويتحققوا بوقاية تحول دون هـلاكهم وبوارهم، ويحولون دون توارث الظلم والسكنى في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.
ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالسير في الأرض، ودراسة الآثار وما خلفه بنو الإنسان خلال رحلة الحياة الطويلة، والتعرف على السنن الكونية والاجتماعية، وكيف أن الأنماط العمرانية والتحصن بالأشكال، واتخاذ البيوت في الجبال، إذا افتقدت هـدفها الشرعي [ ص: 31 ] ورسالتها، وتحولت إلى مؤسسات للظلم والفساد والطغيان، لا تغني عن أصحابها شيئا، مهما عظم تشييدها.
ولقد قص القرآن الكثير من قصص الأمم السابقة، وفساد تعميرها للأرض، وأبنيتها التي دمرت ولم تغن عنها من الله شيئا.
قال تعالى: ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ) (الفجر: 6 -14) .
وقوله تعالى: ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) (يوسف: 105) .
وقوله تعالى: ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) (محمد: 10) .
وقوله تعالى: ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هـم قائلون ) (الأعراف: 4) . [ ص: 32 ]
وقوله تعالى: ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) (الحجر: 4)
وقوله: ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) (النحل: 112)
وقوله: ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ) (الأنبياء: 11)
وقوله: ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) (الحج: 45-46) .
وقوله: ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ) (القصص: 58)
وقوله: ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) (الشعراء: 128 -129) . [ ص: 33 ]
وقوله: ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) (الشعراء: 149) .
وهكذا يكون الانقراض الحضاري، بسبب فقدان العمران لأهدافه ووظيفته، وعتو أهله عن أمر الله، وكيف أنه لم يغن عن أصحابه من الله شيئا وأكثر من ذلك، فلقد حذر الله المؤمنين النزول في مساكن الذين ظلموا، وأمرهم بالابتعاد عن ديارهم، والسرعة عند المرور بها، والبكاء والتأثر عند معاينتها، خشية الافتتان وانتقال العدوى الحضارية، لأن تاريخ هـذه المواقع وممارساتها وإيحاءاتها، يتطلب بناء الحصانة، حتى لا نقع بما وقعوا فيه، لأن للعمران وظيفته الاجتماعية، وإيحاءاته الثقافية، وتوارثه الاجتماعي، أو مواريثه الثقافية، وأن أنماطه وطراز بنائه قد تحمل الناس المتعاملين معها على اعتناقها، أو على الأقل التأثر بها ثقافيا إلى حد بعيد، ومن هـنا ندرك لماذا حرم الإسلام الأصنام والأوثان والصور، وكل ما يشوب التوحيد ويعكر صفاءه؟ لأن لهذه الأمور آثارها في الحياة، وإيحاءاتها في النفوس
وقد يكون من المفيد في هـذا المجال أن نذكر بشجرة كانت للمشركين يقال لها ذات أنواط [ ص: 34 ] ( فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه ، أن رسول الله.. لما خرج إلى حنين ، مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم -وفي رواية لأحمد: يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم- فقالوا: يا رسول الله.. اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: سبحان الله.. هـذا كما قال قوم موسى: ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) والذي نفسي بيده، لتركبن سنة من كان قبلكم ) . رواه الترمذي وصححه.
وكلنا يذكر قضية بني إسرائيل التي أوردها القرآن للعبرة، عندما وجدوا قوما يعكفون على أصنام لهم، فطلبوا أن يكون لهم صنم كما لهؤلاء،
قال تعالى: ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هـؤلاء متبر ما هـم فيه وباطل ما كانوا يعملون ) (الأعراف: 138 -139) .
ومن هـنا ندرك المعنى الدقيق والدقيق جدا، كيف أن تغيير الأنماط العمرانية يؤدي إلى تغيير وظيفتها ورسالتها، ويؤدي إلى اختلال الموازين الاجتماعية، ويؤذن بخراب العمران واقتراب الساعة، فالتطاول في البنيان تغيير النمط والوظيفة، يترافق مع اختلال الموازين الاجتماعية أن تلد الأمة ربتها.
ولا شك عندي أن الدارس والمتأمل لمسار التغيير في الأنماط، [ ص: 35 ] العمرانية أو بتعبير أدق التطاول في البنيان وتغير الوظيفة الاجتماعية له، سوف يرى من أكثر من وجه، أن هـذا التطاول أو هـذا المسار العمراني، يخضع للدورات الحضارية نفسها التي يخضع لها البشر، ابتداء من النشوء والنهوض، وانتهاء بالسقوط والانقراض، مرورا بمرحلة الفكرة والعقيدة (التألق) ، ومن ثم مرحلة (الركود والتوقف) ، هـبوطا إلى مرحلة اللذة والإشباع الغريزي والاستهلاك المؤذن بالسقوط وخراب العمران.. ولا يجد الدارس والمتأمل كبير عناء في استقراء وتتبع الخط البياني صعودا وهبوطا لمسيرة الأمم من خلال عمرانها، ولو لم يقرأ التاريخ السياسي لها.
وأعتقد أن الكثير من الشواهد التاريخية يمكن اعتبارها خير دليل على الحالة التي وصلت إليها الدول، من شيوع مظاهر البذخ والزينة، وتوفير أسباب الدعة والرفه، المؤدي إلى السقوط.
وما قصر الحمراء في الأندلس ، وغيره من شواهد التعالي في البنيان، الذي يعتبره بعضهم مفخرة، إلا شواهد قبور حضارات، ترينا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وتحذرنا من عواقب التعالي في البنيان، بكل ما تحمل كلمة التعالي من أبعاد ثقافية ونفسية واجتماعية واقتصادية، أو بكلمة أدق حضارية [ ص: 36 ]
وبعد: فالكتاب الذي نقدمه يمكن أن يعتبر محاولة على الطريق الثقافي الطويل، وإن كانت متواضعة، إلا أنها ضرورية، لفتح بعض النوافذ، وتوجيه الأنظار صوب قضية العمارة الإسلامية، خصائصها العمرانية، ووظيفتها الاجتماعية، وأهدافها التربوية، ودورها في البناء الخلقي والتماسك الاجتماعي، ومنح الراحة والاطمئنان، وتحقيق الأنس النفسي، واحتضان قيم الخير والفضيلة، وممارسة الضبط الاجتماعي بما تؤصله من تقاليد وأعراف خيرة وكيف أن الأنماط العمرانية لا يمكن بحال أن تكون محايدة، وإنما هـي ثمرة لرؤية حضارية وثقافية، وفلسفة حياة تنبثق منها وكيف أن البناء لا بد أن يلبي الحاجة، ويحقق الهدف، ويأتي ثمرة للمستلزمات الاجتماعية.
وتبقى الحاجة ماسة للامتداد وتعميق مثل هـذه الدراسات، وإلقاء مزيد من الأضواء على الإيحاءات التي يحملها العمران، والتذكير ببعض ملامح وخصائص العمران الإسلامي، وشيء من الرؤية الإسلامية لقضية العمران، والمساحات التعبيرية التي أفردها القرآن لهلاك الأمم السابقة، وانقطاعها وانقراضها الحضاري، خاصة في حقبة العولمة، التي تحاول اجتياح عالمنا على الأصعدة المتعددة، [ ص: 37 ] وتغزونا بأنماطها الثقافية المختلفة الصور والأشكال، لتكرس تخلفنا، وتقطعنا عن ميراثنا الحضاري، فنعيش غربة المكان والعمران وأنماط البناء، إضافة إلى غربة الزمان والثقافة.. ليكون المسلم على بينة من أمره.
ولا نرى مخرجا من هـذا كله إلا بدراسة أسبابه، ومحاولة معالجتها، بإيجاد المتخصصين في شعب المعرفة المتعددة، الذين يمتلكون المرجعية الشرعية إلى جانب التخصصات العلمية، لفك المعادلة الصعبة التي نعاني منها، وهي فقه بأحكام الشرع وعدم تخصص بالتقنيات الهندسية المعاصرة، وتخصص بالتقنيات الهندسية مرتهن لرؤية الغالب الحضارية، وبعيد عن الفقه بأحكام الشرع.
والله الهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 38 ]