الفصل الثالث فقه عمارة المدن الإسلامية
اعتمد فقهاء المسلمين في تناولهم لأحكام البنيان، على آية في القرآن الكريم، وعلى حديث نبوي شريف.. أما الآية، فهي قول الله تعالى: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) (الأعراف: 199) .
ويفسرون العرف في هـذه الآية بالنسبة لأحكام البنيان، بما جرى عليه الناس وارتضوه، ولم يعترضوا عليه، طالما لا يتعارض ذلك مع القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف [1] .
والعرف يحتمل ثلاثة معان، بالنسبة للبيئة العمرانية الأول هـو ما يقصده الفقهاء من استنباط الأحكام في ما ليس فيه نص، من المسائل العامة التي قد تؤثر في البيئة العمرانية، كعادة أهل بلدة ما، [ ص: 81 ] فهذا أصل أخذ به بعض الفقهاء في المواضع التي لا نص فيها، وهو نابع من " حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. " [2] .
وقد بنيت القاعدة الفقهية: (العادة محكمة) على هـذا الأصل، ومعناها: أن العادة تعتبر وتحكم، إذا كانت غالبة أو مطردة [3] .
والمعنى الثاني للعرف، وهو أكثر تأثيرا من المعنى السابق على المدينة الإسلامية، فهو إقرار الشريعة لما هـو متعارف عليه بين الجيران لتحديد الأملاك والحقوق، فوضع اليد مثلا دليل على القرب والاتصال [4] .. ومن أمثلة ذلك، ما قاله ابن عابدين من أن الظاهر بيبرس عندما " أراد مطالبة ذوي العقارات بمستندات تشهد لهم بالملك، وإلا انتزعها من أيديهم.. قام عليه شيخ الإسلام الإمام النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله تعالى، [ ص: 82 ] وأعلمه بأن ذلك غاية الجهل والعناد، وأنه لا يحل عند أحد من علماء المسلمين، بل من في يده شيء فهو ملكه، لا يحل لأحد الاعتراض عليه، ولا يكلف إثباته ببينة.. وما زال النووي رحمه الله يشنع على السلطان، ويعظه إلى أن كف عن ذلك.. فهذا الخبر الذي اتفق علماء المذاهب على قبول نقله، والاعتراف بتحقيقه وفضله، نقل إجماع العلماء على عدم المطالبة بمستند عملا " بالعرف السائد [5] .
والاحتمال الثالث لمعنى العرف، هـو الأنماط البنائية، وهو أكثر الأنواع الثلاثة تأثيرا في البيئة العمرانية، فعندما يتصرف الناس في البناء بطريقة متشابهة نقول: بأن هـناك عرفا بنائيا، أو نمطا ما.
فسكان مدينة رشيد في العصر العثماني، على سبيل المثال، اعتادوا إذا كان للمنزل واجهتان على شارعين، أن يوضع باب المنزل في الشارع الأكثر خصوصية [6] ، وهو الشارع الجانبي الذي يرتاده مارة أقل عددا. [ ص: 83 ]
أما الحديث النبوي الشريف الذي يعتمد عليه الفقهاء في أحكام البنيان فهو: ( لا ضرر ولا ضرار. ) (رواه أحمد وابن ماجه ) ، الذي يعتبر أحد الأحاديث الخمسة التي يقوم عليها الفقه الإسلامي [7] .. واحتلت قاعدة " لا ضرر ولا ضرار " ، بابا واسعا في فقه العمارة الإسلامية، وعليها قامت أحكام لا حصر لها، وأثرت هـذه القاعدة على حركة العمران في المدن الإسلامية.
ولتوضيح تأثير هـذه القاعدة على حركة العمران، سنضرب مثلا بالضرر الناجم عن فتح كوة (نافذة) وتأثيرها على العلاقة بين جارين.
عند تطبيق مبدأ " إحياء الأرض " ، فإن الناس يتتابعون في البنيان فإذا أحدث أحدهم كوة تشرف على أرض فضاء، ثم أتى آخر وبنى على تلك الأرض، فأصبحت الكوة تكشف الدار المحدثة، [ ص: 84 ] فقد اتفق الفقهاء على أن لهذه الكوة حق البقاء والاستمرار، وعلى مالك الدار المحدثة أن يقي نفسه من ضرر تلك الكوة، كأن يرفع سور داره ففي المدونة الكبرى: (أرأيت إن كانت له على جاره كوة قديمة، أو باب قديم ليس فيه منفعة، وفيه مضرة على جاره، أيجبره أن يغلق ذلك عن جاره؟ قال: لا يجبره على ذلك، لأنه أمر لم يحدثه عليه) [8] .
أما بالنسبة للكوة المحدثة التي تضر بالجيران، فإن أغلب الآراء تنص على إزالة الضرر بسد الكوة، إذا احتج الفريق المتضرر، فقد سأل الإمام سحنون الإمام ابن القاسم : أرأيت الرجل يريد أن يفتح في جداره كوة أو بابا يشرف منهما على جاره، فيضر ذلك بجاره، والذي فتح إنما فتح في حائط نفسه، أيمنع من ذلك في قول مالك ؟ قال: بلغني عن مالك أنه قال: ليس له أن يحدث على جاره ما يضره، وإن كان الذي يحدث في ملكه. [9] .
لم تكن العلاقة بين المباني علاقة جامدة، بل دخلت أيضا في تحديد سلوك الساكنين للعقارات، وضرورة احترامهم الآداب العامة، [ ص: 85 ] وكان من حق الجيران إجبارهم على ذلك، عن طريق القضاء، وتزخر سجلات المحاكم الشرعية بالعديد من الوقائع التي تؤكد تضامن أهل الخطة أو الحارة ضد المخالفين من سكانها [10] وترتب على مبدأ " لا ضرر ولا ضرار " ، و " الأخذ بالعرف " ، في تقرير أحكام البناء، نشوء مبدأ: " حيازة الضرر " ، الذي صاغ المدينة الإسلامية صياغة شاملة. و " حيازة الضرر " تعني: أن من سبق في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب على جاره الذي يأتي بعده أن يحترمها، وأن يأخذها في اعتباره عند بنائه مسكنه، وبذلك يصيغ المنزل الأسبق المنزل اللاحق، من الناحية المعمارية، نتيجة لحيازته الضرر، ويسيطر العقار [11] الأسبق على حقوق عديدة يحترمها الآخرون عند بنائهم، فضلا عن الحقوق التي قررها الشرع الشريف في مجال التنظيم العمراني، وكلاهما معا أدى إلى وجود بيئة عمرانية مستقرة، حيث استقرت الفئة المستخدمة على شكل الشوارع التي تستخدمها، والتي يصعب التعدي عليها بالبناء. [ ص: 86 ]
ولتوضيح كيفية نشأة شبكة الطرق والشوارع بالمدن الإسلامية، ينبغي أن نذكر أن الطريق ملك لجماعة المسلمين، وبالتالي فالسيطرة عليه من حق المارة أو المستخدمين له، فشريعتنا جعلت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، واعتبرته من أدنى مراتب الإيمان، فما بالك بإزالة، أو منع من حاول البناء في الطريق؟
وحيث إن المارة هـم المستخدمون، فالطريق يقع تحت سيطرتهم، ولأن كل ساكن في المدينة يمر ببعض الطرق أكثر من غيرها، فهو بذلك عضو في الفريق المسيطر على الشوارع التي يمر بها، لذلك فإن عدد المسيطرين اختلف من طريق لآخر، لاختلاف عدد مرات ترددهم عليه، بناء على موقع الطريق واتجاهه.
فالفريق الذي يمر بالقصبة التي تخترق المدينة من شماليها إلى جنوبيها في مدينة رشيد مثلا، والتي يعرف جزء منها بمحجة السوق، وجزء آخر بالشارع الأعظم، لا بد وأن يختلف عن الفريق الذي يمر بطريق فرعي كعطفة المسك بالقاهرة ، المتفرعة عن قصبة رضوان.
وإذا نشأت مدينة جديدة، أو حي جديد، فإن البناء فيها يتم عن طريق تتابع البناء في أماكن هـذا الحي، فإذا كثر عدد المارة في مكان ما، [ ص: 87 ] فإن هـذا الطريق سيكون أكثر سعة، وسيمنع المارة فيه -بناء على حق الارتفاق
[12] ، وحق المرور [13] .
- أي بناء يضيق الطريق، وبذلك يزحف البناء، وتتجاور الوحدات المعمارية بجوار بعضها بعضا، إلى أن تستقر حدود الطرق تبعا لاستخدام المارة لها [ ص: 88 ] فالطريق يعكس رغبات وإمكانات وقيم الناس، فهو إنما نتج عن تراكم قرارات القاطنين فيه، وهذه القرارات بنيت على الأسبقية في التصرف كما رأينا، فمن فتح حانوتا قبل جاره المقابل فقد حاز الضرر، وبهذا فإن العلاقة بين الفرق الساكنة ترتبت واستقرت بحيازة الضرر، وكان الطريق وعاء لذلك الاستقرار.
وبذلك نستطيع أن نقدم تفسيرا واضحا عن كيفية نشأة شبكة الطرق في أحياء القاهرة، دون تخطيط مسبق من الدولة، فقد أملت حاجة السكان تشكيل هـذه الشبكة في بعض الأحياء، كالحسينية وبولاق .
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعين لمسألة تدرج طرق المدينة في الاتساع، طبقا لاستخدام الناس لها، فيحدثنا أبو يعلى الفراء عن تخطيط البصرة فيقول: وقد مصرت الصحابة البصرة على عهد عمر، وجعلوها خططا لقبائل أهلها، فجعلوا عرض شارعها الأعظم وهو مربدها ستين ذراعا، وجعلوا عرض ما سواه من الشوارع عشرين ذراعا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، وجعلوا وسط كل خطة رحبة فسيحة لمربط خيلهم وقبور موتاهم، وتلاصقوا في المنازل، [ ص: 89 ] ولم يفعلوا ذلك إلا عن رأي اتفقوا عليه، أو نص لا يجوز خلافه [14] .