ظهور المصطلح
أما عن ظهور مصطلح التاريخ في ثقافتنا العربية الإسلامية، فقد نسب " إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وضع التاريخ، فقد رفع إليه أبو موسى الأشعري : " أنه تأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيها يعمل، قد قرأنا صكا محله شعبان، فما ندري أي الشعبانين، الماضي أم الآتي... " [1] هـذا النص يشير إلى أن التاريخ، بمعنى الوقت، كان معروفا ومعمولا به أيام عمر رضي الله عنه ، ولكنه يقصر على الشهر دون السنة التي هـي المعلم أو البداية في التاريخ، لعدم وجود بداية متفق عليها، فاقتصر التاريخ على الشهر فقط (شعبان) ، كما ورد في رسالة أبي موسى لعمر رضي الله عنهما .
ويذكر السخاوي في موضوع وضع عمر للتاريخ: أن أبا يعلى ابن أمية هـو أول من أرخ، وكان عاملا لعمر على اليمن ، فكانت كتبه ترد [ ص: 80 ] إلى عمر في المدينة ، فاستحسن عمر هـذا واستشار أصحابه في وضع التاريخ، ولكن ينبغي الاتفاق على اختيار البداية أو المناسبة، فاقترح بعضهم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، واقترح آخرون سنة وفاته، غير أن الآراء اجتمعت أخيرا على سنة هـجرته، لما فتح الله على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من خير، فقامت الدولة الإسلامية وأعز الله الإسلام وأهله، ودخلت الجزيرة العربية جميعا في الإسلام.. واستبعدت سنة مولده عليه السلام ، لعدم وجود اتفاق على تحدد مولده بدقة، كما استبعدت سنة وفاته؛ لأنها مناسبة غير سارة في نفوس المسلمين [2] .
من هـذا يتبين لنا أن كلمة تاريخ، بدأت حياتها كتعبير فني، بعد ظهور التاريخ الهجري الذي وضعه عمر رضي الله عنه ، أما قبل ذلك فاستخدموا العد في معنى التاريخ، فقد روى البخاري في صحيحه " قول الصحابي سعد بن سهل في التقويم الهجري : " ما عدوا من بعث النبي ولا من وفاته.. ما عدوا إلا من مقدمه المدينة " " [3] .
مرت كلمة التاريخ بتطورات عديدة في ثقافتنا، فقد بدأت بمعنى التقويم والتوقيت في صدر الإسلام، واستعملت فترة بهذا المعنى، ثم صارت بمعنى آخر وهو تسجيل الأحداث على أساس الزمن، وكان الخبر يقوم مقامها في معنى هـذه العملية التاريخية، ثم أخذت كلمة التاريخ [ ص: 81 ] تحل محل الخبر تدريجيا، وصارت تطلق على عملية التدوين التاريخي ، وعلى حفظ الأخبار، بشكل متسلسل، متصل الزمن والموضوع، للدلالة على هـذا النوع الجديد من التطور في الخبر والعملية الإخبارية، منذ منتصف القرن الثاني الهجري.. ومنذ ابتداء القرن الثالث الهجري، صارت كلمة التاريخ تطلق على العلم بأحداث التاريخ وأخباره، وأخبار الرجال، والكتب التي تحوي ذلك، وحلت كلمة التاريخ محل كلمة الخبر والأخباري، اللتين انحطت قيمتيهما العلمية قبل أن تختفيا من الاستعمال في القرن الرابع الهجري [4] .
أصبحت كلمة (تاريخ في العربية) ، تحمل خمسة معاني [5] .
* سير الزمن والأحداث، أي التطور التاريخي ، كالتاريخ الإسلامي، وتاريخ اليونان.. إلخ.. The History of.
* تاريخ الرجال.. The Biography.
* عملية التدوين التاريخي، أو التاريخ، مع وصف لعملية التطور وتحليله وتقابل: istoriography.
* علم التاريخ والمعرفة به، وكتب التاريخ، ويقابل: History.
* تحديد زمن الواقعة أو الحادثة، باليوم والشهر والسنة: Date. [ ص: 82 ]
والخلاصة، فإننا نتفق مع القائلين بأن كلمة تاريخ كلمة عربية، دخلت الثقافة الإسلامية من اليمن ، للصلات الثقافية والحضارية والتاريخية بين اليمن والحجاز ، ونستبعد صحة تلك الروايات التي ترجعها إلى أصول غير عربية، بحيث يبدو التعسف واضحا للعيان في محاولة اشتقاقها ثم في تعريبها بعد ذلك.
التاريخ اصطلاحا
أما التاريخ اصطلاحا فقد تنوعت تعاريفه وتعددت، بتنوع ثقافات ومشارب وأهواء وانتماءات ومذاهب الذين ولجوا موضوعه، فتراءت لهم تعاريفه من طبيعة مهمته، ومن دوره الذي يقوم به ضمن إطار الثقافة العربية الإسلامية، على ضوء المنظور الثقافي والفكري والمذهبي لكل مؤرخ.. فالتاريخ يعني (الوقت) ، يقول خليفة بن خياط : " وبالتاريخ عرف الناس أمر حجهم وصومهم وانقضاء عدد نسائهم ومحل ديونهم، يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( يسألونك عن الأهلة قل هـي مواقيت للناس والحج ) (البقرة: 189) " [6] .
والكافيجي يعرفه بأنه: " هو تعيين الوقت لينسب إليه زمان مطلقا، سواء كان قد مضى أو كان حاضرا أو سيأتي.. " [7] ، ثم يعطي [ ص: 83 ] الكافيجي بعدا حضاريا للتاريخ ضمن استطراده لتعريف التاريخ، فيقول: " وقيل: التاريخ تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع، كظهور ملة، أو وقوع حادثة هـائلة، من طوفان أو زلزلة عظيمة " [8] .
وإذا كان في تعريف الكافيجي شيء من البعد الاجتماعي (كظهور ملة) ، فإن في تعريف السخاوي للتاريخ مسحة ثقافية واجتماعية واضحة، فهو يقول: " وفي الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة، وعقل وبدن، ورحلة وحج، وحفظ وضبط، وتوثيق وتجريح، وما أشبه هـذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم... ) [9] .
وتتسع هـذه المسحة الثقافية والحضارية عند ابن خلدون ، عندما يتحول التاريخ إلى الإخبار عن كل ما يتعلق بجيل من الأجيال، فيقول عن التاريخ بأنه: ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل ) [10] .
ويبدو أنه كلما تقدمنا باتجاه الحاضر، فإن تعاريف التاريخ تقترب أكثر فأكثر من الجوانب الاجتماعية والحضارية، ففي تعريف حاجي خليفة [11] ، وطاش كبرى زاده [12] ، يكاد التاريخ يتحول إلى ما يمكن نعته [ ص: 84 ] ( بالتاريخ الحضاري ) ، ويتبين هـذا من خلال التعريف التالي لكليهما؛ للتاريخ: (هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم، وعاداتهم وصنائع أشخاصهم، وأنسابهم، ووفياتهم، إلى غير ذلك..) أفليس تغطية الجوانب المتعلقة بالمجتمعات (الطوائف) ، وبلدانها وعاداتها ورسومها (نظمها) وصنائعها، إلا أبرز الجوانب التي يعكف على دراستها علماء تاريخ الحضارات؟
وفي تحديد موضوع التاريخ، فإن السخاوي يحدد الموضوع الذي يتناوله التاريخ، على أنه الإنسان والزمان [13] ، وبهذه الدقة والشمولية في تحديد موضوع التاريخ كما يراها السخاوي، فإن الحضارة هـي الموضوع الرئيس للتاريخ؛ لأن الإنسان بفطرته التي فطره الله تعالى عليها كائن حضاري، مبدع، صانع، مفكر، متغير ومتحول، وهو بهذا تميز على الحيوان.
ولا يفوتنا الوقوف على تحديد طاش كبرى زاده لموضوع التاريخ؛ لأن موضوعه، من وجهة نظره، ينطق بالمفردات الحضارية من خلال العينات التي يحددها موضوعا للتاريخ، فيقول: " وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية، من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء " [14] .
هو إذن يدرس النبوات والأولياء والعلوم ورجالاتها، والفلاسفة في محاوراتهم ومطارحاتهم، والفنانين وفنونهم، والأدباء والشعراء، [ ص: 85 ] ونتاجهم، وليس تاريخ ملوك وساسة وقادة يلهون ويتحاربون، كما يشاع عند بعض الناس.
إن موضوع التاريخ كما نراه عند السخاوي وعند طاش كبرى زاده ، هـو تاريخ أمة أو مجتمع، بكل ما في الأمة من أفكار وعقائد وعلماء وفلاسفة وشعراء، فهو دراسة للعناصر الحركية في حياة المجتمع: النبي، والحكيم، والعالم، والفيلسوف، والشاعر، والصانع.