الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب

          الدكتور / سالم أحمد محل

          مؤرخو السيرة والمغازي إن استقراء حركة التأليف في السيرة والمغازي، تكشف عن وجود ثلاث طبقات من المؤلفين في هـذا الحقل، كان لكل طبقة سماتها الخاصة التي أملتها حركة التطور على كل طبقة.

          الطبقة الأولى مثل هـذه الطبقة ثلاثة من أبناء الصحابة، عنوا عناية كبيرة بالحديث والمغازي، وكان جميعهم من المدنيين، مما شكل نواة مدرسة المدينة التى عنيت بالحديث والمغازي [1] ، وهم:

          1- أبان بن عثمان بن عفان ، الذي روى عن أبيه عثمان ، وزيد ابن ثابت ، وأسامة بن زيد ، رضي الله عنهم وكان ثقة في الحديث [2]

          2- عروة بن الزبير بن العوام [ت: 94هـ]: وينتمي عروة إلى أسرة مرموقة في مكانتها في الإسلام، الأمر الذي أتاح لعروة الحصول على معلومات مهمة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما جعل البلاط الأموي يوجه إليه [ ص: 110 ] بعض الأسئلة التي تتعلق بجوانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويجد عنده الأجوبة المطلوبة [3] .

          3- شرحبيل بن سعد [ت: 123هـ]: كان معاصرا لعروة، روى رواياته نزعتها الاجتماعية المبكرة، فقد اهتم بتقديم قوائم بأسماء الصحابة الذين شاركوا في معركة بدر وأحد ، وأسماء الذين هـاجروا إلى الحبشة ، وأسماء الذين هـاجروا إلى المدينة [4] .

          وقد شارك هـؤلاء الثلاثة اهتمامهم بالسيرة والمغازي رجل لم يكن من أهل المدينة، بل من اليمن ، وهو وهب بن منبه [ت: 110هـ]، وهو فارسي، وكان فقيها من القراء، عرف باطلاعه على الكتب القديمة [5] ، ألف في ملوك اليمن القدماء، عني بأخبار أهل الكتاب، وألف كتاب مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وألف كتاب " المبتدأ " الذي بدأ فيه بالتاريخ منذ الخليقة، ثم تدرج به إلى تاريخ العهد القديم ثم الجديد، مارا بالأنبياء كافة مما يعتبر أول محاولة لكتابة تاريخ للرسالات السماوية [6] . [ ص: 111 ]

          الطبقة الثانية ثم جاءت الثانية التي اهتمت كسابقتها بالمغازي، وأشهر علمائها:

          1- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري

          [ ت: 135هـ]، ينتمي إلى أسرة عريقة في الإسلام، فجدها الأعلى عمرو ابن حزم كان من كبار الصحابة، وهو موفد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن [7] .

          عني عبد الله بالحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد نقلت عنه روايات ذكرها ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري ، روى أخبارا تتعلق بالردة، وأخرى تتعلق بالفتنة، مما يظهر اهتمامه المبكر بالأحداث التي مرت بها الأمة.. استخدم الإسناد في رواياته، وجمع قائمة بغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم مرتبة على السنين [8] .

          2- عاصم بن عمر بن قتادة [ت: 120هـ]: مدني من الأنصار، كان جده قتادة صحابيا جليلا. يعد عاصم من الرواد الذين نالوا ثقة المؤلفين في التاريخ العربي الإسلامي، يقول عنه ابن حجر : " كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي " [9] . لم يؤلف عاصم في المغازي، ولكنه ترك روايات تناقلها عنه الرواة، حتى حفظت في كتب الواقدي وابن سعد وابن إسحاق والطبري. [ ص: 112 ]

          3- محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري [ت: 124هـ] قرشي من بني زهرة، نال شهرة كبيرة في حياته حتى عرف بعالم الحجاز والشام [10] .. للزهري تأثير مزدوج في الثقافة الإسلامية: أولهما تدوين السنة بتكليف من الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه [ 99-101هـ]، وثانيهما أثره في المغازي، إذ يعد الزهري أشهر مؤرخي هـذه الطبقة.

          أرخ الزهري لفترتين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فترة ما قبل البعثة النبوية ، وفترة ما بعدها.. وقد صارت مروياته في الحديث أساسا لكتب صنفت في المغازي من قبل ثلاثة من تلاميذه هـم: موسى بن عقبة ، ومعمر بن راشد ، ومحمد بن إسحاق [11] .

          الطبقة الثالثة

          عاش أصحاب هـذه الطبقة في العصر العباسي، وهم:

          1- موسى بن عقبة [ت: 141هـ]: وقد ألف موسى في المغازي وعثر على قطعة من مغازيه في المكتبة البروسية ونشرت عام 1904م، ومع ذلك فهو لم يقتصر على العناية بالمغازي، فقد أبدى اهتماما بالسيرة [ ص: 113 ] النبوية، ونظم موسى قوائم بأسماء المشتركين في بيعي العقبة الأولى والثانية ، وقائمة ضمت من اشترك في معركة بدر [12] .

          2- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي [ ت: 151هـ أو 152هـ]: يعد محمد بن إسحاق عمود مدرسة المدينة ، وككل رجال هـذه المدرسة قد اهتم ابن إسحاق بجمع الحديث، مع ولع خاص بالأحاديث المتعلقة بالمغازي التي اشتهر بها [13] .. كان شيوخه يعدونه من أعلم علماء عصره في السيرة والمغازي، مثل: عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ، وهشام ويحيى ابني عروة بن الزبير رضي الله عنه ، وعاصم بن عمر بن قتادة رضي الله عنه [14] .

          ألف محمد بن إسحاق كتاب المغازي، فغطى به على جميع المؤرخين السابقين له، وقد قام منهجه في الكتاب على تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: المبتدأ، حيث يتناول فيه تاريخ الأنبياء منذ الخليقة حتى يصل إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد عبر بذلك عن فكرة تاريخية، وهي كتابة تاريخ عالمي.. أما المبعث فقد خصصه لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مولده وحياته في مكة ، ثم الوحي، ومراحل الدعوة، والهجرة إلى يثرب [15] . [ ص: 114 ]

          أما القسم الثالث فهو المغازي، وفي هـذا القسم يعرض ابن إسحاق لنشأة الدولة العربية الإسلامية في المدينة ، وانتقال الدعوة من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم [16] .

          3- معمر بن راشد [ت: 153هـ]: ألف كتابا في المغازي روى فيه عن الزهري ، حتى قال يحيى بن معين : " هـو من أثبت الناس في المغازي " [17] .

          أفاد من مغازي معمر، الواقدي والبلاذري وابن سعد والطبري ، واتبع معمر في مغازيه الترتيب الموضوعي على غرار ما فعله في ترتيب الأحاديث، حيث رتبها على أساس الموضوع، فكان من أوائل المحدثين الذين رتبوا الأحاديث في أبواب ومواضيع[18] .

          4- الواقدي [ت: 207هـ]: أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد ، كان من أهل المدينة، وهو من أبرز العلماء الذي خلفوا ابن إسحاق وكتبوا في المغازي، الذي كان عالما بها، بل هـو رأس في المغازي والسير، كما يقول الذهبي [19] .

          وكتاب الواقدي " المغازي " ، أو " غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وسرياه " ، يقتصر على الفترة المدنية.. وكان على اطلاع واسع بالتاريخ الإسلامي، [ ص: 115 ] ولهذا فلم يعر اهتماما لتاريخ ما قبل الإسلام [20] .

          5- محمد بن سعد بن منيع [ت: 230هـ]: مولى بني هـاشم، كاتب الواقدي وصحبه زمانا كتب له، صنف كتاب " الطبقات الكبير والصغير " ، وصنف التاريخ [21] .

          اقتصر القسم الأول من كتاب ابن سعد " الطبقات الكبرى " على أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بهذا " يضع الخطوط الأخيرة لهيكل السيرة " [22] .

          تميز ابن سعد بترتيب وتنظيم مادته وتبويبها، وحشده لعدد أكبر من الوثائق، وإعطاء سفارات الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية كبيرة، وقدم للسيرة بمقدمة عن فترة ما قبل الإسلام، وخاصة عن الأنبياء الذين لهم صلة برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما توسع في الحديث عن فضائله وشمائله، وعن دلائل النبوة، حتى صارت مثالا يحتذى لأدب " الشمائل " و " الدلائل " [23] .

          هؤلاء هـم أشهر مؤرخي السيرة والمغازي، الذين حفظوا بمروياتهم ومدوناتهم سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ومغازيه. [ ص: 116 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية