الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب

          الدكتور / سالم أحمد محل

          ثانيا: الطبقات والتراجم.

          كانت السيرة النبوية التي عني بجمعها وتدوينها فقهاء ومحدثون كعروة بن الزبير وشرحبيل بن سعد وأبان بن عثمان ، مثالا يحتذى لدى [ ص: 127 ] المؤرخين، نسجوا على منوالها سير الخلفاء فيما بعد، وإن كانت كتاباتهم قد تضمنت قيما ومثلا جديدة، كسيرة الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز .. كما كانت الحروب الصليبية والنجاحات التي تمخضت عنها، حافزا لكتابة سير بعض السلاطين والزعماء الذين تصدوا لهذا الخطر، فالذين كتبوا سير مودود وعماد الدين زنكي ، و نور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي ، إنما انطلقوا من دور هـؤلاء البارز في التصدي للعدوان الصليبي، ولهذا ظهرت ما يمكن تسميته (بالسير الملكية) [1] .. أما الطبقات والتراجم فقد ظهرت منذ زمن مبكر في الأدب العربي، وتعتبر من إبداعات الحضارة العربية الإسلامية، كما وتعد فنا فريدا من فنون التاريخ لا نجد لها شبيها في آداب أية أمة من الأمم الأخرى إلا في عصرنا الراهن [2] .. ظهر فن التأليف في الطبقات والتراجم ، نتيجة لحاجة العلماء المعنيين بتدوين الحديث -معرفة سير رجال الأسانيد أو رواة الحديث-، بهدف التحقق من صدقهم طبقا لمنهج ( الجرح والتعديل ) ، الذي اتبعه المحدثون، فظهرت في البداية طبقات المحدثين [3] .

          بعد ذلك تنبه بعض العلماء إلى وضع تراجم أخرى لطبقات الرجال الذين تتفق توجهاتهم وتخصصاتهم، فتتوحد في لون واحد من العلم، [ ص: 128 ] فظهرت كتب طبقات الصحابة ، وطبقات المفسرين ، وطبقات القراء ، وطبقات النحاة ، وطبقات الشعراء ، وطبقات الأطباء ، وغيرهم [4] .

          ولا بد من الإشارة إلى اختلاف غايات أصحاب كتب الطبقات والتراجم ، فبعضهم كما سنرى ألف تبعا لغاية دينية، وآخرون من وجهة نظر دنيوية، بينما نرى عند آخرين أن تآليفهم تجئ تحت إلحاح غايات مذهبية.. وأقدم كتب الطبقات هـي:

          كتاب " الطبقات " لخليفة بن خياط (ت: 240هـ) ، الذي وضع فيه ابن خياط الصحابي كبطل صانع لحوادث التاريخ، وهذا هـو منطلق خليفة الحضاري [5] .. أما ابن سعد (ت: 230هـ) ، فقد جعل السابقة في الإسلام أساس التمايز بين الصحابة، ففي كتابه (الطبقات الكبرى) جعل البدريين الطبقة الأولى، ومن له إسلام قديم وهاجر إلى الحبشة أو شهد أحدا ، ومن أسلم قبل فتح مكة جعلهم الطبقة الثانية، وهكذا [6] .

          هـذا وقد أصبحت طبقات خليفة بن خياط وطبقات ابن سعد، أنموذجا سار على منواله واعتمد عليه البخاري (ت: 256هـ) في كتابه (التاريخ الكبير) ، وابن عبد البر (ت: 463هـ) في كتابه (الاستيعاب لمعرفة الأصحاب) ، وأبو نعيم (ت: 430هـ) في كتابه (حلية الأولياء) ، [ ص: 129 ] وقد بقي هـذا التقليد شائعا حتى منتصف القرن الثامن الهجري، حيث يمثل الذهبي (ت: 748هـ) أبرز من اهتم بنظام الطبقات وخاصة في كتابه (المجرد في أسماء رجال كتاب ابن ماجه ) [7] .

          كذلك فإن هـذا التقليد في ترتيب الصحابة والمحدثين إلى طبقات قد امتد إلى كتب التراجم الأخرى، كطبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي (ت: 232هـ) ، وطبقات القراء لخليفة بن خياط (ت: 240هـ) ، وطبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (412هـ) ، وطبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي (ت: 476هـ) وغيرهم [8] .

          ومما تجدر ملاحظته أن المنظور الحضاري لمعظم مؤلفي كتب الطبقات والتراجم، قد انطلق من منطلقات دينية أو ثقافية.

          فالسلمي (ت : 412 هـ) في كتابه (طبقات الصوفية) يعكس منظوره الحضاري النظرة الدينية؛ لأن المتصوفة في نظره هـم (أرباب حقائق التوحيد) [9] ، كذلك نجد هـذه النظرة الدينية في منظور أبي نعيم الأصبهاني (ت: 430هـ) في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) [10] . [ ص: 130 ]

          ويستمر المنظور الحضاري في منطلقاته الدينية في بعض التراجم، التي قد تبدو لنا لأول وهلة أن صلتها بالناحية الدنيوية الاجتماعية أكثر من صلتها بالدين، كالأنساب مثلا، في حين نجد أنه حتى في مثل هـذه التآليف، فإن منطلقات مؤلفيها دينية، فمثلا نلاحظ في كتاب (جمهرة أنساب العرب) أن ابن حزم (ت: 456هـ) ، عني بالأنساب؛ لأنه يرى أن دراسة الأنساب فرض كفاية أيضا: (فأما الغرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرء أن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى إلى الجن والإنس بدين الإسلام، هـو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة ورحل إلى المدينة ) [11] .

          وهكذا يكتسب النسب في منظور ابن حزم قيمته الدينية التي تفوق قيمته الاجتماعية.. كذلك نجد هـذا المنظور الديني واضحا لدى ابن عبد البر (ت: 463هـ) ، في كتابه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) [12] ، حيث يعتبر الصحابة هـم أولى الناس بالمعرفة، لأنهم هـم الذين نقلوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووعوها، وهي الركن الثاني بعد كتاب الله في قيمتها التشريعية والدينية [13] .

          أما ياقوت الحموي (ت: 626هـ) فعلى الرغم مما يوحي به كتابه [ ص: 131 ] (معجم الأدباء) [14] ، من نزعة ثقافية دنيوية، فإن ياقوت يغوص في أبعاد العلم، ليجد فيه الجانب الديني قائما واضحا، فيقول عن كتابه إنه جمع فيه: " أخبار قوم عنهم أخذ علم القرآن المجيد، والحديث المفيد، وبصناعتهم تنال الإمارة.. وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام " [15] .

          وما وجدنا عند ياقوت وجدناه عند ابن أبي أصيبعة (ت : 868 هـ) في مصنفه عيون الأنباء في طبقات الأطباء [16] ، فهو أيضا أسير النظرة الدينية، فصناعة الطب في نظره (من أشرف الصنائع وأربح البضائع، وقد ورد تفصيلها في الكتب الإلهية والأوامر الشرعية، حتى جعل علم الأبدان قريبا لعلم الأديان) [17] .

          ويقدم ابن خلكان (ت: 681هـ) رأيا آخر في عنايته بالسير، ولا يرجع ذلك إلى أية نظرة دينية، بل مرد اهتمامه بسير بعض المتقدمين هـو ولعه الشخصي بالاطلاع على أخبار النابهين، فالنباهة والذكاء والفطنة التي تميز بها بعض الناس، هـي التي جعلت ابن خلكان يضع مصنفه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) [18] .. كذلك تقوم نظرة [ ص: 132 ] السبكي (ت: 771هـ) في كتابه (طبقات الشافعية الكبرى) [19] ، إذ أصبح العالم في نظره يحتل مكانة أرفع وأعلى من مكانة أصحاب التيجان.

          وعلى منوال السبكي سار كل من محمد بن شاكر الكتبي (ت: 764هـ) في كتابه فوات الوفيات، وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت: 764هـ) في كتابه (الوافي بالوفيات) [20] .

          وإذا كان ابن خلكان قد ترجم للنابهين، وتابعه في ذلك إلى حد ما الكتبي، الذي أضاف على تراجم ابن خلكان بعض التراجم للخلفاء والمميزين الذي أغفلهم ابن خلكان، غير أن هـذه النظرة الشمولية استمرت في تراجم بعض المؤلفين اللاحقين، كالسخاوي [21] .

          والسيوطي [22] ، فصارت تشمل المشهورين من الناس إلى جانب آخرين لم يكونوا على حظ وافر من الشهرة في التاريخ، استنادا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنزلوا الناس منازلهم ) [23] . [ ص: 133 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية