رابعا: الاجتهاد الجماعي ينظم الاجتهاد ويمنع توقفه
الاجتهاد أصل من أصول التشريع الإسلامي، وهو الأساس لحيوية التشريع ونمائه، واستمرار عطائه في تعريف الأمة بأحكام الله في كل نازلة، ولهذا فقد بدأ الاجتهاد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم على يد الصحابة، ثم من بعدهم التابعون وتابعوهم، ثم استمر في عطائه حتى منتصف القرن الرابع الهجري، حيث نودي بتوقيف الاجتهاد وإغلاق بابه [1] . وكان من أبرز [ ص: 83 ] الأسباب لهذه الدعوة هـي تلك الفوضى والأخطاء والاختراقات، التي جاءت نتيجة الأدعياء من أصحاب الاجتهاد الفردي، ولغياب الاجتهاد الجماعي.. ولذلك كان ينبغي للحريصين على استمرار الاجتهاد، أن يدعوا إلى حمايته، عبر تنظيمه بأسلوب الاجتهاد الجماعي، حتى تدرأ تلك الأخطاء النابعة من بعض أدعياء الاجتهاد [2] . فمن المعلوم أن الاجتهاد في عهد الصحابة كان يغلب عليه خصوصا في القضايا العامة أو المعقدة الطابع الجماعي [3] .
ثم أصبح الاجتهاد في العصور التالية يتسم بالطابع الفردي، فكان كل مجتهد يستقل برأيه وفهمه في اجتهاده، وتبارى المجتهدون في استنباط القواعد، وتأسيس أصول بعض النظريات، فازدهر الفقه وأثرى، إلا أنه عندما ضعفت الدولة الإسلامية وفقدت سيطرتها، واضطرب الاجتهاد الفقهي، دخل في صفوف المجتهدين من ليس منهم، ووجدت بعض الفتاوى عن طريق الفرض والتشهي [4] ، وقلت الكفايات والورع، فتخوف العلماء، فأفتوا بإغلاق باب الاجتهاد [5] ، حتى يقطعوا الطريق على الفرق والمذاهب المنحرفة، ويحموا الأمة من الانقسام الديني. ولكن هـذا المسلك أدى إلى شيوع التقليد وانتشار التعصب، وجمود الاجتهاد [6] ، حتى كاد الاجتهاد أن يخلو زمنا طويلا، باستثناء ما كان يجري بين الحين والآخر من ظهور أئمة مجتهدين [7] . [ ص: 84 ]
وإذا كانت الفتوى بإغلاق باب الاجتهاد قد قصد بها في بداية الأمر منع الاجتهاد الفردي، لإبعاد من ليسوا أهلا للاجتهاد، فإن الأمر قد أسيء فهمه وروج أن المقصود منع الاجتهاد مطلقا [8] ، وكان الواجب أن تعالج الفوضى في الاجتهاد بتنظيمه، وجعله في يد جماعة لا يد الأفراد، بدلا من أن يعالج بإغلاق باب الاجتهاد [9] .
( وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك عندما سأله علي رضي الله عنه ، إذا نزل بهم أمر لا يجدون له نصا في القرآن، ولم تمض فيه سنة، فقال صلى الله عليه وسلم : اجمعوا له العالمين - أو قال: العابدين من المؤمنين- فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد ) [10] .