المبحث الثاني: المدرس الحاذق القدوة
الأصل في تكوين الملكة الفقهية أن تتم تحت إشراف أساتذة متمكنين في علمهم، وقدوة في سلوكهم، لأن من شأن الأستاذ المرشد الأمين الناصح أن يقوم ببناء شخصية الطالب، ويعمل على تنمية عقله وتهذيب سلوكه وإعداده للتفاعل مع المجتمع وقضاياه الحية، وأن يراعي في تدريسه مرحلة الطالب، فيقصد إفهام المبتدئ تصـور المسـائل وأحكـامها فقط، وأن يثـبتها بالأدلة إن كان العلم مما يحتج له عند من يستحضر المقدمات. وأما إيراد الشبه إن كانت، وحلها فإلى المتوسطين والمحققين [1] . ويعتبر ابن خلدون حصول الملكات عن طريق التلقين والمشافهة والمباشرة أشد استحكاما وأقوى رسوخا من التلقي من الكتب; وذلك لأن التعليم صناعة، والصناعة لا بد لها من صانع ماهر، والصانع الماهر في ميدان العلم والتعلم هـو المدرس الحاذق، ولذلك يقول ابن خلدون: (إن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها، والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة [ ص: 95 ] على المتعـلم، حتى لقـد يظـن كثـير منـهم أنها جـزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين، فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز المصطلحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها، ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، ويصحح معارفه وغيرها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتها من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم) [2] . كما يعتبر ابن خلدون اتصال السند في التعليم من أهم الأمور التي تعين على حذق المدرس ومهارته في التعليم لأنه تجتمع فيه خبرات السابقين، فهو يقول: (كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبر عند كل أهل أفق وجيل... ثم اعلم أن سند التعليم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه، وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر، وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستجر عمرانها، وكان فيها للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة، ورسخ فيها التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيها من الحضارة، فلما خربتا انقطع التعليم من [ ص: 96 ] الغرب إلا قليلا...) [3] . ومما يعين على تكوين الملكة الفقهية عند طالب الفقه أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة وعرف بالستر والصيانة، بأن يكون قدوة لغيره. فقد روي عن محمد بن سيرين أنه قال: (إنما العلم دين فانظروا عمن تأخذون) [4] .. والمدرس القدوة هـو الذي رسم نفسه بآداب العلم، من استعمال الصبر والحلم، والتواضع للطالبين، والرفق بالمتعلمين، ولين الجانب، ومداراة الصاحب، وقول الحق، والنصيحة للخلق، وغير ذلك من الأوصاف [5] . وبالرغم من اتفاق العلماء على أن العلم الشرعي لا بد له من التلقي عن الشيوخ، إلا أننا وجدنا أن مثل علي بن رضوان المصري (453هـ) الذي اشتغل بالأخذ عن الكتب مباشرة، يدعو إلى تحصيل العلم عن الكتب مباشرة، وأنها أوفق من التلقي عن الشيوخ، وألف في ذلك كتابا [6] . ولا يسلم لابن رضوان هـذا الادعاء، وقد رد عليه كثير من [ ص: 97 ] العلماء مثل: الذهبي في سير أعلام النبلاء، والصفدي في الوافي، والزبيدي في شرح الإحياء.. ويمكن تلخيص ردودهم فيما يلي:
1- إن الذي يعتمد على الكتاب لم يسلم من التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ. فهذا أبو علي ابن سينا مـع حـدة ذهـنه وما كـان علـيه من الذكـاء المفـرط والحـذق البـالغ، لما اتكل على نفسه وثوقا بذهنه، لم يسلم من التصحيفات. ومن الأمثلة على التصـحيف ما ذكره الحاكم ، قال: (حدثـنا أبو بكر بن إسحاق الإمام ، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد ابن الوليد قال: حدثـنا صفـوان بن صـالح ، قـال: حدثـنا الوليـد بن مسلم قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج ( عن أبي هـريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن لله تسعا وتسعين اسما... ) وذكر فيه الأسامي وفيه: الحفيظ والمقيت ) . وقال أبو عبد الله: وهكذا أخرجه أبو بكر بن خزيمة في المأثور (المقيت) ، فحدثنا أبو زكريا العنبري قال: حدثنا أبو عبد الله البوشنجي قال: حدثنا موسى بن أيوب النصيبي ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم ذكر الحديث بنحوه وقال: (الحفيظ المغيث ) ومن قال: (المقيت ) فقد صحف [7] . [ ص: 98 ]
وقد اتخذ العلماء موقفا من الفقهاء الذين يأخـذون علمهم من الكتب لا من الشيوخ. فقال أبو زرعة : (لا يفـتي الناس صحـفي، ولا يقرئـهم مصحفي) [8] ، وكان ثور بن يزيد يقـول: (لا يفتي الناس الصحفيون) [9] .
2- إن الذي يقتصر في علمه على الكتب يفتقد عنصر الاقتداء والتأثر بأخلاق العلماء وآدابهم، وبالتالي لا يتورع عن القدح في العلماء والطعن فيهم، فقد قيل في سبب سلاطة لسان ابن حزم : إنه لا يلازم الأخذ من الشيوخ ولم يتأدب بآدابهم [10] ، حتى قيل في لسانه: (كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين) [11] .
3- ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ. وهذا دليل مادي ملموس يدل على بطلان ادعاء ابن رضوان . والحقيقة أن الاعتماد الكلي في تلقي العـلم على الشيوخ لا يصح، كما أن الاعتمـاد الكلي في تلقي العـلم عـلى الكتب [ ص: 99 ] لا يصح، ولكن ينبغي لطالب العلم أن يبدأ تلقيه عن الشيوخ إلى أن يصل مرحلة الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، ومن ثم فلا مانع بعد ذلك من الاطلاع بنفسه على كتب العلم; لأنه مهما اتسع وقت الشيخ لتلميذه فلن يحـيط معـه بأكثر من أجـزاء معـدودة. وقد كان ذلك شأن كثـير من العلمـاء مثل الجـويني حينما درس علم الأصـول على شيخه أبي القاسم الإسفراييني حيث قال: (كنت قد علقت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلدة) [12] .
لكن يظل تلقي العلم عن الشيوخ الحاذقين في مراحل التحصيل الأولى ضروريا للتأسيس وتكوين الملكة الفقهية.. والمتتبع للفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة يجد أنهم تتلمذوا في مراحل تأسيسهم على شيوخ حاذقين، من هـؤلاء التلاميذ: أبو حامد الغزالي ، تتلمذ على إمام الحرمين الجويني، والقرافي تتلمذ على العز بن عبد السلام ، وابن القيم تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية ... وهكذا.
فعلى طلبة علم الفقه أن يتتلمذوا على فقهاء عصرهم الموثوقين، ويطلعوا على الكتب الفقهية الموثوقة. وبذلك يكونون قد جمعوا بين الحسنين، وكان علمهم أتم وأكمل. [ ص: 100 ]