المبحث الأول: تنمية الملكة الفقهية
إن تنمية الملكة الفقهية وحصولها على أتم وجه في النفس، يحتاج من الطالب والمدرس إلى تدريب عملي وممارسة دائمة للفقه.. فلا يكتفى في تحصيل الملكة الفقهية الراسخة على دراسة الفقه وأصوله دراسة نظرية، بل لا بد من الممارسة العملية في عدة مجالات: كالترجيح بين الآراء، والتخريج على مذاهب الفقهاء، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والاشتراك في المحاورات والمناظرات، والرحلة في طلب العلم. وفيما يلي بيان لهذه المجالات.
أولا: الترجيح بين الآراء الفقهية (الفقه المقارن)
إن دراسة المسائل المقارنة، وتكليف الطلاب ببحوث في مسائل [ ص: 139 ] فقهية من مسائل الخلاف، وذلك بالبحث عن آراء الفقهاء والوقوف على أسباب اختلافهم، وبيان الأدلة ووجه الاستدلال ومـآخذ الأئمة، ومناقشة الأدلة بقصد الوصول إلى الرأي الراجح، يقوي الملـكة وينمـيها عند الفـقيه. قال ابن خـلدون في بيـان أهمية علم الاختلاف: (وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرمون الاستدلال عليه) [1] .
وقال النووي : (اعلم أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه; لأن اختلافهم في الفروع رحمة، وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكن المذاهب على وجهها، والراجح من المرجوح، ويتضح له ولغيره المشكلات، وتظهر الفوائد النفيسات، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب، ويتفتح ذهنه، ويتميز عند ذوي البصائر والألباب، ويعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والدلائل الراجحة من المرجوحة، ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات والمعمول بظاهرها مـن المـؤولات، ولا يشكـل عليـه إلا أفراد من النادر) [2] . [ ص: 140 ]
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة مادة الفقه المقارن.
ثانيا: التخريج على مذاهب العلماء
التخريج في اصطلاح الفقهاء والأصوليين يطلق على معنيين:
الأول: تخريج الفروع على الأصول والقواعد العامة المنسوبة للإمام وهو: (العلم الذي يبحث عن علل ومآخذ الأحكام الشرعية لرد الفروع إليها، بيانا لأسباب الاختلاف، أو لبيان حكم لم يرد بشأنه نص عن الأئمة بإدخاله ضمن قواعدهم وأصولهم) [3] .
الثاني: تخريج الفروع من فروع أئمة المذاهب، وهو: (نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما فيه) [4] .
فالفقيه عندما يقوم بالتخريج على مذاهب الأئمة يتدرب على اكتشاف علل الأحكام ومآخـذها، وإلحـاق الفـرع بالأصـل. وهـذا مما يعمل على تنمية الملكة الفقهية عنده. يقول الأسنوي : (وقد مهدت بكتابي هـذا -التمهيد في تخريج الفروع- طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب، فلتستحضر أرباب المذاهب قواعدها الأصولية، وتفاريعها، ثم [ ص: 141 ] تسلك ما سلكته، فيحصل به إن شاء الله تعالى لجميعهم التمرن على تحرير الأدلة وتهذيبها) [5] .
ومن الكتب في تخريج الفروع على الأصول:
1- تأسيس النظر، لعبيد الله بن عمر الدبوسي (ت 430هـ) .
2- تخريج الفروع على الأصول، لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (656هـ) .
3- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، لأبي عبد الله محمد بن أحمد التلمساني (771هـ) .
4- التمهيد في تخريـج الفروع على الأصـول، لجمـال الديـن عبـد الرحيم بن الحسن الأسنوي (772هـ) .
5- القواعد والفوائد الأصولية وما يتعـلق بها من الأحكام الفرعيـة، لأبي الحسن عـلي بن عبـاس البـعلي المـعـروف بابـن اللحام (803هـ) .
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة مادة تخريج الفروع على الأصول. [ ص: 142 ]
ثالثا: الموازنة بين المصالح والمفاسد
الموازنة بين المصالح والمفاسد تتنوع إلى ثلاثة أنواع وهي:
1- الموازنة بين المصالح المتعارضـة
ومثالها قوله تعالى: ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) (النحل:126) .
فالمعاقبة بالمثل مصلحة حسنة، والصبر مصلحة أحسن، فيقدم الأحسن على الحسن.
والفقيه يقوم بالموازنة بين المصالح المتعارضة وفق ميزان دقيق وهو:
أ- إذا اختلـفت رتـب المصالح وجب تقـديم الضرورية على الحاجية وعلى التحسيـنية، ولزم تقديم الحاجية على التحسيـنية، كما تقدم المصالح الأصلية على مكملاتها.
ب- إذا كانت المصالح في رتبة واحدة.. كالضروريات; يقدم حفظ الدين على حفظ النفس وما بعدها، وحفـظ النفس يقدم على حفظ العقل وما بعده، وحفظ العقل يقدم على حفظ النسل وما بعده، وحفظ النسل يقدم على حفظ المال. ومصالح الإنسان أولى من مصالح الأموال.
جـ- إذا كانت المصالح في رتبة واحدة وتعلقت بكلي واحد [ ص: 143 ] كحفظ الدين، وجب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والكلية على الجزئية [6] .
2- الموازنة بين المفاسد المتعارضة
ومثالها قوله تعالى: ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) (البـقـرة:217) .
فالقتال في الشهر الحرام مفسدة، والفتنة عن الإسلام مفسدة أعظم، فيرتكب أخف الضررين إذا لم يكن بد من فعل أحدهما.
والفقيه يقوم بالموازنة بين المفاسد المتعارضة وفق ميزان دقيق وهو:
أ- عند اختلاف رتب المفاسد، ترتكب المفاسد المتعلقة بالتحسينات دفعا لمفاسد الحاجيات والضروريات، وترتكب مفاسد الحاجيات دفعا لمفاسد الضروريات.
ب- عند اتحاد رتب المفاسد، كمفاسد الضروريات; ترتكب المفاسد المتعلقة بالمال دفعا لمفاسد النسل وما قبلها. وترتكب مفاسد النسل دفعا لمفاسد الثلاثة الأخرى وهكذا. [ ص: 144 ]
جـ- عند اتحاد الرتبة والكلي ترتكب المفسدة الخاصة دفعا للمفسدة العامة، وترتكب المفسدة الجزئية دفعا للمفسدة الكلية.
3- الموازنة بين المصالح والمفاسد
ومثالها قوله تعالى: ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219) .
فالآيـة تبـين أن في الخمـر والميـسر مفـاسـد ومصالح، ولكن جانب المفسدة أكبـر إذا ما قيس بالمصلحة.
ويراعي الفقيه عند الموازنة بين المصالح والمفاسد، الميزان التالي:
أ- يراعي الحكم العام الغالب من المصالح والمفاسد، فإن غلبت المصالح على المفاسد قدمت المصالح، وإن غلبت المفاسد على المصالح اعتبرت المفاسد.
ب- عند التساوي بين المصالح والمفاسد; فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. ويراعي في هـذا الميزان أيضا مراتب المصالح والمفاسد، من حيث الضروريات والحاجيات والتحسينات: فتقدم المصالح الضرورية على المفاسد الحاجية والتحسينية والعكس بالعكس، كما يراعي أيضا التفريق بين الكليات الخمس; وذلك بتقديم مصالح الدين على مفاسد النفس، وتقديم مصالح النفس [ ص: 145 ] على مفاسد العقل وهكذا. كما يراعي أن المصلحة العامة مقدمة على المفسدة الخاصة، والمصلحة الكلية على المفسدة الجزئية [7] .
والحقيقة أن موضوع الموازنة بين المصالح والمفاسد ليس بسيطا وسهلا، وإنما فيه كد واجتهاد وممارسة عملية، يعمل على ترسيخ الملكة الفقهية. قال الشاطبي : (وهو مجال للمجتهد صعب الورود، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب (العاقبة) ، جار على مقاصد الشريعة) [8] .
رابعا: المشاركة في المحاورات والمناظرات الفقهية
إن مشاركة المتفقه في المحاورات والمناظرات الفقهية يقوي الملكة عنده، كما يقول ابن خلدون : (أيسر طرق هـذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها) [9] . فلا يجوز للمتفقه أن يكون خاملا غير مشارك في المناظرات العلمية. يقول ابن خلدون في انتقاد الطلبة الخاملين: (تجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة [ ص: 146 ] المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم. ثم تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم) [10] .
وينبغي على طلبة العلـم الشـرعي أن يتأدبـوا بآداب المنـاظرة إذا شاركـوا في النـدوات والمؤتمـرات العلمية ، ومن هـذه الآداب: إذا سأل، سأل عما لا يدري، وإذا راجع في مسألة، راجع مراجعة التلميذ لشيـخه، لا مراجعة العالم لنظيره، كما قـال ابن حـزم : (إذا حضرت مجلس العلم فلا يكن إلا حضور مستزيد علما وأجرا، لا حضور مستغن بما عندك، طالبا عثرة تشنعها أو غريبة تشيعها. فإذا حضرت فالتزم أحد ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إما أن تسكت سكوت الجهال، فتحصل على: أجر النية في المشاهدة، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول، وعلى كرم المجالسة، ومودة من تجالس.
الوجه الثاني: فإن لم تفعل ذلك فاسأل سؤال المتعلم، فتحصل على هـذه الأربع محاسن، وعلى خامسة: وهي استزادة العلم. وصفة [ ص: 147 ] سؤال المتعلم: أن تسأل عما لا تدري، فالسؤال عما تدري سخف، وقلة عقل، وشغل لكلامك، وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه، لا لك ولا لغيرك، وربما أدى إلى اكتساب العداوات، وهو بعد عين الفضول.
الوجه الثالـث: وإيـاك أن تراجع مراجعة العالم. وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضا بينا، فإن لم يكن ذلك عندك، ولم يكن عندك إلا تكرار قول أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسـك، فإنك لا تحصـل بتكـرار ذلك على أجـر زائد، ولا على تعليم ولا تعلم، بل على الغيظ لك ولخصمك والعداوة التي ربما أدت إلى المضرات) [11] .
وهذا مما يكرس في نفس الفقيه أهمية الاجتهاد الجماعي في الاجتهاد المعاصر، فهو السبيل الأمثل لمعالجة قضايا العصر المتسم بالتشابك والتعقيد.
خامسا: الرحلة في طلب الفقه
كانت الرحلة العلمية من أهم ما يحرص عليه طلبة العلم الشرعي، وذلك لأنها تزيد من مدارك الطالب بسبب كثرة الالتقاء بالشيوخ، وتنوع الأخذ عنهم، فهم لا ينتمون إلى مذهب واحد، [ ص: 148 ] وإنما ينتمون إلى مذاهب متنوعة.. كما أن الرحلة تعمل على صقل الملكات وتقويتها، بسبب كثرة العلوم وتنوعها، وبخاصة في البلاد التي تكثر فيها العمران والحضارة، كما قال ابن خلدون : (العلوم إنما تكثر حيث تكثر العمران وتعظم الحضارة... وذلك لأن تعليم العلم من جملة الصنائع، والصنائع إنما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف، وتكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع، ومن تشوف بفطرته إلى العلم. فمن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعـليم الذي هـو صنـاعي لفقـدان الصنائع من أهل البدو... ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة...) .
وزاد الأمر توضيحا بضرب مثال على ذلك ببغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة حيث قال: (لما كثر عمرانها في صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون. حتى أربوا على المتقدمين وفاتوا المتأخرين. ولما تناقص عمرانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم، [ ص: 149 ] وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هـو بالقاهرة ) [12] .