المبحث الثاني: آفات الملكة الفقهية ومعوقاتها
إذا وهب الله تعالى الفقيه الملكة الفقهية وجب عليه أن يحافظ عليها، ويوفر سبل الوقاية لها; وذلك بإبعاد الآفات والمعوقات عنها. ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
1- الآفات الخلقية والنفسية للملكة الفقهية.
2- المعوقات المنهجية للملكة الفقهية.
المطلب الأول: الآفات الخلقية والنفسية للملكة الفقهية
من الآفات الخلقية والنفسية التي تتعلق بأخلاق العلماء والمتعلمين غير العاملين، والتي لها الأثر الكبير في شل الملكة الفقهية لدى الفقهاء: الكبر والعجب والغرور والحسد.
وفيما يلي بيان لهذه الآفات. وآثارها السلبية على الملكة الفقهية.
أولا: الكبر
الكبر من أعظم الآفات التي ندد بها القرآن الكريم والسنة [ ص: 150 ] النبوية، وخاصة إذا كان من يتصف بها من أهل العلم، حيث يعتبر ذلك من أكبر الفتن، لأن العالم يضل بضلاله خلق كثير. كما " قال حذيفة : (اتقوا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل " [1] .
وحقيقة الكبر: جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلتها [2] ، فيراها أرفع من نفس غيره وأعظم شأنا. فالفقيه المتكبر هـو الذي يرى فقهه وملكته الفقهية أعظم شأنا مما هـو عند غيره. ويترتب على ذلك تحقير غيره وازدرائه وإقصائه وإبعاده وانتهاره وإذلاله، والامتنان على من علمه، والتعاظم على عامة الخلق، والسخرية منهم، والغضب عليهم إن قصروا بحقه ولم يقضوا له حاجة من حوائجه; وإن ناظر أحدا من العلماء رد الحق على علم [3] . قال سعيد بن جبير : (لا يزال الرجل عالما ما تعلم، فإن ترك العلم وأمن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده، فهو أجهل ما يكون) [4] .
ومن مظاهر الكبر عند المتكبر في العلم أن يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب، ويسهر طوال الليل والنهار في تحصيل علوم [ ص: 151 ] يتجمل بها في المحافل; كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع الألفاظ وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم. ويحفـظ الأحاديث بألفـاظها وأسانيـدها، حتى يرد على من أخطأ فيها; فيظهر فضـله ونقصـان أقـرانه، ويفرح كلما أخطأ واحد منهم، ويسوء إذا أصاب وأحسن; خيفة من أن يـرى أنه أعظم منه [5] .
وللكبر آثار سلبية على الملكة العلمية منها:
1- إضاعة العلم واندثاره، وبالتالي تأثيره على الملكة الفقهية.
2- انتشار الكره بين العالم والمتعلم، لأن المتعلم يشعر بتعالي المعلم وعجرفته، وهذا يؤدي إلى عدم استثمار ملكته ونقصانها.
3- إثارة الجدل والخلاف في الأوساط العلمية; لأن المتكبر لا يحترم الرأي الآخر، فيشغل وقته فيما لا ينفعه.
فليحذر الفقيه كل الحذر من الكبر، ويتحلى بالتواضع.
ثانيا: العجب
العجب هـو تصور استحقاق الشخص رتبة لا يكون مستحقا لها [6] . فهو يعظم نفسه ويعتبرها سبب العلم الذي وصل إليه، دون [ ص: 152 ] أن يسند الفضل في ذلك العلم إلى الله تعالى الذي وهبه العقل والذاكرة والعلم. ( قال صلى الله عليه وسلم : ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجـاب المـرء بنـفسه ) [7] . فإعجـاب المـرء بنـفسـه: هـو ملاحظة لها بعين الكمال مع النسيان لنعمة الله [8] . وقال علي ابن عيسى : (العجب: عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يتعجب منها، وليست هـي لها) [9] .
والعجب بكل أحد قبيح وبالعلماء أقبح; لأن الناس بهم يقتدون. " قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم، تواضعوا لمن تتعلمون منه ليتواضع لكم من تعلمونه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم " [10] .
ومن الآثار السلبية للعجب على الملكة العلمية [11] :
- الاستبداد بالرأي وعدم مشاورة غيره. [ ص: 153 ]
- الاستنكاف عن طلب العلم وقلة الإصغاء إلى العلماء بحجة الاكتفاء بالعقل والرأي عند من اتصف بالعجب.
- استجهال الناس المخالفين له.
- التعامي عن الأخطاء الصادرة منه.
فليحذر الفقيه كل الحذر من العجب ويتحلى بالحلم والتواضع.
ثالثا: الغرور
الغرور: هـو سكون النفـس إلى ما يوافـق الهوى ويميـل إليه الطبع عن شبهة وخدعة شيطانية [12] ، فالمغرور هـو الذي يرى أنه مصيب في كل ما يصدر عنه من أحكام وآراء. وقد حذر الله تعالى من هـذه الآفة في قوله تعالى: ( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) (لقمان:33) .
ومن أصناف المغترين، العلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية والعقلية، وتعمقوا فيها واشتغلوا بها، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان، وأنهم بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله مثلهم [13] . [ ص: 154 ] وترى المغرور دائما يحدث عن شخصيته. ولا يقف غرور العالم عند نفسه، بل يتعداها إلى الغير بإظهار عيوب أقرانه; لرؤيته نفسه أعلم منهم وأفضل وأعلى مقاما عند الله، ولعل الحقيقة بخلاف ذلك.
وللغرور آثار تربوية سلبية على الملكة العلمية:
1- الغرور يحجب طالب العلم عن الزيادة في العلم; لأنه يظن أنه قد وصل إلى منتهى العلم.
2- الغرور يمنع صاحبه من الاستماع إلى أهل العلم والإصغاء إليهم.
3- المعاصي التي تتولد عن الغرور تؤثر تأثيرا سلبيا في الملكة الفقهية.
4- الغرور يولد العداوة بين العلماء، لأن المغرور يكثر الاتهام لأقرانه، وخاصة من كانوا في تخصصه وأعلى منه علما.
رابعا: الحسد
الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير، ممن هـو مستحق لها. وعرفه الجرجاني بأنه: (تمنى زوال نعمة المحسود إلى الحاسد) [14] . وهو خلق ذميم مع إضراره بالبدن وإفساده للدين، حتى لقد أمر الله بالاستعاذة من شره فقال تعالى: ( ومن شر حاسد إذا حسد ) (الفلق:5) . [ ص: 155 ] وهو داء قديم في الناس; كما ( أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هـي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين ) [15] .
والحسد يدب بين الأقران من علماء الدنيا الذي يتشوقون إلى الرياسة، ويحبون جمع المال والثناء، ويحبون ذواتهم مع ضعف في الإيمان بكمال حكمة الله تعالى، الأمر الذي يفضي إلى الاعتراض عـلى اللـه تعـالى في حكمتـه التي وزع على مقتضاها عـطـاءه بـين خلقه. أما علماء الآخـرة فهم بمعزل عن ذلك، لا يتحاسدون ولا يتباغضون، بل يتوادون ويدعون لبعضهم بعضا، ويستفيدون من بعضهم بعضا. فقد كان الإمام أحمد بن حنبل يقـول لولد الإمـام الشافـعي : (أبـوك من الستـة الذي أدعـو لـهم كل ليلة وقـت السحر) [16] .
ومن الآثار السلبية للحسد على الملكة العلمية [17] :
1- انخفاض مرتبة الحاسد العلمية، لانحراف الناس عنه، ونفورهم منه، وقد قيل: (الحسود لا يسود) . [ ص: 156 ]
2- انشغال الحاسد عن العلم بحسرات الحسد وسقام الجسد، حتى لا يجد لحسراته انتهاء ولا لسقامه شفاء.
3- إسخاط الله تعالى في الاعتراض عليه، وارتكاب المعاصي في مخالفته مما يؤثر على ملكته العلمية.
4- معاداة الناس له ومقتهم له، حتى لا يرى وليا محبا، فيعيش في عزلة عن الناس، فلا يفيد ولا يستفيد.