المبحث الثالث: الحكم التكليفي لتكوين الملكة الفقهية وفضلها وأهميتها
يقصد من هـذا المبحث إيجاد الدافعية لتعلم الفقه وتحصيل الملكة الفقهية، وذلك ببيان حكم تكوينها التكليفي، وفضل تحصيلها، وأهمية وجودها.. وفيما يلي بيان لهذه الأمور: [ ص: 70 ]
المطلب الأول: الحكم التكليفي لتكوين الملكة الفقهية
نص الفقهاء على أن طلب العلم الشرعي بما فيه الفقه، وتحصيل الملكة فيه، فرض كفاية إلا فيما يتعين طلبه، مثل ما هـو مطلوب من المسلم لأداء ما وجب عليه: كتعلم صفة الوضوء والصلاة والصوم، وأحكام الزكاة إذا كان يملك مالا، وأحكام المعاملات إذا كان تاجرا، فـإن تعـلم هـذه الأحكـام يكـون فـرض عـين، أما ما عـدا ذلك من التخصص في الفقه وتكوين الملكة فيه فهو فرض كفاية، إذا قام به البعض الذي يسد حاجة المجتمع من قضاة ومفتين ومدرسين ومجتهدين، سقط الإثم عن أفراد المجتمع، وإلا لحق الإثم الجميع.. فقد ذكر ابن عـابدين أن تعـلم الفـقه ممـا زاد على ما يحتاج إليه في دينه فرض كفاية [1] . وقال ابن رشد : (طلب العلم والتفقه في الدين من فروض الكفاية كالجهاد) [2] .. وقال الخطيب الشربيني : (ومن فروض الكفايات القيام بعلوم الشرع: كتفسير وحديث والفروع الفقهية الزائدة على ما لا بد منه) [3] .. وقال ابن تيمية : [ ص: 71 ] (طلب العلـم الشـرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمـره الله به ونهاه عنه، فـإن هـذا فـرض على الأعيان) [4] ومما يدل على اعتبار تكـوين الملـكة الفقهية فرض كفاية، الأدلة التالية:
1- قال تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) .
الآية تدل على وجوب تعميم التفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هـداة لغيرهم.. وأن المتخصصين لهذا الفقه بهذه النية لا يقلون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله والدفاع عن الملة والأمة، بل هـم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضا عينيا [5] . [ ص: 72 ]
2- وقال تعالى: ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء:83) .
قال النـووي : (الاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة; لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة، وإذا أهمـل الاستنـباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة أو بعضها) [6] .
3- وروي عن ثوبان أنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) [7] .
فسر البخاري الطائفة الظاهرة بأهل العلم من الفقهاء; لأنه أيد ذلك بذكر ( حديث: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هـذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله ) [8] .
وقد اختلف العلماء في المراد بالطائفة، فقيل: أهل العلم. وقال [ ص: 73 ] أحمد : أهل الحديث .. وقال النووي : (يجوز أن هـذه الطائفة مفرقة بين أنواع من المؤمنين: منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين من أقطار الأرض) [9] .
فالحديث يدل على أنه لا يجوز أن يخلو الزمان من فقهاء مجتهدين مما تحتاج لهم الأمة كما " قال الإمام علي رضي الله عنه : لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هـم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا " [10] .
4- ولأنه بتكوين الملكة الفقهية دفع لحاجة المجتمع إلى الوظائف العامة من قضاء وفتيا وحسبة وتدريس وغير ذلك.