الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دعوة الجماهير (مكونات الخطاب ووسائل التسديد)

الدكتور / عبد الله الزبير عبد الرحمن

المبحث الأول: قرآنيـة الخطـاب

إن داعيـة لا ينطـلق خطـابه الدعـوي مـن منطـلق القـرآن، ولا يعرض قضاياه عرض القرآن، ولا يعبر ما يريد إيصاله للناس بذات تعبير القرآن، ولا يهتم بما اهتم به القرآن، يستبعد منه أن يصل بالناس لمراد الله تعالى، ولا يطمأن إلى قدرته في دعوة جماهير الأمة إلى التمسك بكتاب الله الذي جفا خطابه عن منطلقاته وقضاياه وأسلوبه وتعبيره، وأنى له ذلك. [ ص: 50 ]

إذن لا بد أن يكون خطاب الدعاة الموجه لجمهور الناس خطابا قرآنيا يسري بروحه إلى القلوب، فيجلوا الصدأ وتتبدد الغلفة مهما اشتدا وأحاطا..

قرآنية الخطاب الدعوي تكون من جهات: من جهة القضايا والموضوعات، ومن جهة الشكل والصياغة، ومن جهة الترتيب والتنسيق، ومن جهة العرض والأداء.

ونحاول أن نركز على جهتين منها وهما: جهة الموضوعات، جهة الشكل والصياغة.

أولا: من جهة القضايا والموضوعات

القرآن الكريم لم يوحد -في غالب الأحيان- بين القضايا والموضوعات التي تهم الأمة والجماعة، والتي تهم الأفراد، بل فرق -إلا نادرا إن وجد- بين قضايا الجماعة وموضوعات الأفراد.

كذلك يجب على دعاة الجماهير أن يفرقوا بين ما يطرحونه من قضايا للجماهير عن ما يطرحونه من قضايا للأفراد، فالقضايا الجماعية هي التي يجب أن تتصدر الموضوعات الدعوية المطروحة على الجماهير، لا القضايا الفردية التي تهم الأفراد. [ ص: 51 ]

وأهم القضايا الجماهيرية التي تهم الأمة في مجموعها، وتسعى بعامتها إلى تحقيقها واستيعابها وترسيخها كمفهومات اعتقادية أو تعبدية، وكمبادئ إسلامية، أو حقائق دينية، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

أ- قضية الولاء والبراء

فإن القرآن الكريم ما إن ترك ذكرها والدعوة إليها في سورة إلا استأنف أمرها في السورة الأخرى، ولا يشك داعية يفقه أمر الإسلام أن قضية الولاء والبراء من أوجب قضايا الجماعة المسلمة التي ربى عليها القرآن المسلمين، وربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الغر الميامين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

وقضية الولاء والبراء قضية إسلامية عامة تتجمع فيها المعاني الاعتقادية الإيمانية، والمطلوبات العملية من وجوب التناصر والتآزر والتآخي بين المسلمين على نطاق الأمة دون الإحصار بحدود الاستعمار المرسومة لنقض هذه المعاني الواجبة اعتقادا وعملا، وعلى نطاق الجماعة الإسلامية في أي مـوقع أو مـوطن أو مكـان أو قطر أو دولة.. كما توجب البراء والمفاصلة والتجافي بين المسلمين وغيرهم على أساس العقيدة، إلا في إطار الضرورات [ ص: 52 ] الحياتية وحاجياتها العادية مما لا دخل للاعتقاد فيه، أو لا ينبني على أمر إيماني يحتم البراء والمفاصلة والتجافي والمباعدة بين المسلم والكافر، ولهذا جاءت قضية الولاء محمولة على أدوات الحصر:

( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (المائدة:55) ..

ومع وجوب حصر الولاء في أهل الإيمان ينهى عن موالاة غير المسلمين وإن كانوا أهل كتاب، تأكيدا لوجوب توجه الولاء للمؤمنين وحدهم،

قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) (المائدة:51) .

هذه المعاني يجب ترسيخها في عقول وقلوب المؤمنين، ويجب أن يحملها جماهير الأمة ويقيموا حياتهم وعلاقتهم على أساسها ومستلزماتها.

ب- قضية الصلح

والتصالح بين فئات المسلمين وطوائف المؤمنين فريضة شرعية يلزم الدعاة بث لزومه بين جماهير الأمة، ويجب عليهم حث أفرادهم على توفير أسبابه والقيام بواجب المحافظة عليه وحمايته [ ص: 53 ] ولو بالتقاتل لأجله، فكلما بغى أخ مسلم على أخيه في الدين وجب على غيرهما أن يسارع إلى الإصـلاح بينهما دون تباطـؤ أو تأجيل.. وكلما بغت طوائف مؤمنة على إخوتها سارعت البقية الخيرة للإصلاح بينها حتى تفيء لأمر الله، ورب العزة يصدر في ذلك أمرا صريحا

يقول فيه: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات:9-10) .

جـ- القضايا الاجتماعية العامة

إذ المجتمع لا يكون إسلاميا إلا إذا تحقق المسلمون بالعدل في علاقاتهم وصلاتهم وحقوقهم، وإن لم يتأدبوا بآداب الإسلام، ويحيوا على تعاليمه.. وتعاليم الإسلام في قضايا المجتمع واضحة مفصلة على تقاطيع وخلايا وأعضاء وألوان وظلال صورة المجتمع الذي يقصد القرآن إلى تكوينه في الأرض. [ ص: 54 ]

ولذلك فصل القرآن آداب الصلات والزيارات، والالتقاء والفراق، والمؤاكلة والمجالسة، والتكافل والتناصح، والتآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من القضايا الاجتماعية التي يذخر القرآن بنظرياتها وقواعدها وأصولها وأحكامها وتفاصيلها، والتي لا تزال بحاجة إلى أهل التخصص في هذا الجانب من علم الاجتماع، والذين يقضون أعمارهم في الاشتغال بآراء ونظريات الأغراب ممن يكره ما أنزل الله، ولم يذكروا الله بتلاوة كتابه وآياته الهادية للتي هي أقوم في هذا المجال.

فها هو القرآن يدعو إلى التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء مهما تحمل النفس ويقع التقصير وتتعدى الحدود،

فيقول الله تعالى: ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) (النور:22) .

وحقيقة المجتمع الإسلامي ما أقيم فيه التكافل على أوسع صورة، وقام فيه أفراده برعاية المحتاج من الفقراء والمساكين، وإغاثة الملهوف وفك الأسير وتحرير الرقيق، وحماية المستضعف من اليتم [ ص: 55 ] والتشرد، وأسمع به القرآن يقذف بهذه الأمانة على قلب كل مؤمن مهتد مصدق: ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ) (البلد:11-16) ..

وقـوله: ( كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين ) (الفجر:17-18) ..

بل يجعل القرآن من لا يقوم بواجب هذه الفئات مكذبا بالدين غير مصدق: ( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ) (الماعون:1-3) .

وها هو القرآن يفصل أحكام الصلات وآداب الزيارات ودخول البيوت على أصحابها، من إلقاء التحية والبدء بالتسليم والاستئذان وغيره،

يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) (النور:27-29) . [ ص: 56 ]

وها هي آيات سورة النـور تلقي عـلى مسـامع المؤمـنين أحكام التلاقي والاجتماع،

تقول لهم: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) (النور:30-31) .

وها هي سورة الحجرات تربي المجتمع المسلم على غسل أدران التفاضل القبلي أو الجنسي أو العنصري أو الوضعي: غنى وفقرا، قيادة واتباعا، تكاثرا وتقللا، ذكورة وأنـوثة، بعد تحقق الإيمان،

قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) (الحجرات:11) .

وغير ذلك من القضايا الاجتماعية التي تقيم البر والعدل، وتنفي الأحقاد والحسد، وتغلق أبواب الغل والضغائن، ليسلم مجتمع المسلمين من المشغلات، ويتفرغ أفراده للطاعات والمسابقة [ ص: 57 ] في القربات والمسارعة إلى الخيرات.

د- قضية المرأة

وقضية المرأة يجب عرضها على جماهير الأمة كما عرضها القرآن، سعيا وراء إنصافها وتجريد الحكم عليها وعلى موقعها في المجتمع ووضعها في مسيرة الدعوة، وأحكام الاجتماع بها، ومشاركتها في الحياة الاجتماعية والتربوية والسياسية والدعوية، تجريد كل هذه الأحكام على وفق نصوص الشرع الصريحة الواضحة.

ولا يليق بالدعاة والمرأة هي ذات الرحم الذي أقسم بها الله وساءل، وقرنها برقابته الكاشفة للسر وأخفى، والمرأة هي الوالدة للدعاة والحماة والأجناد، وهي المربية الصانعة للرجال صلاحا أو فسادا، وهي الراعية على بيت الزوجية طهرا وعفافا وحفظا للغيب، لا يليق بهم والمرأة هي هذه أن يهملوا أمرها، أو يهمشوا دورها، دون تقويم لما اعوج عبر السنين تخليا عن أحكام الشرع فيها، وتغليبا لعادات الناس والمجتمعات، وموافقة لهوى العوام.. وتأكيد ذلك:

1- أن المرأة الأصل في وضعها الاجتماعي أنها مشاركة للرجل غير ممنوعة من السعي في خير الأمة والعمل الصالح مهما [ ص: 58 ] شق أو عسر، والله تعالى يقول في ذلك بما يقع في قلب كل تال للقرآن بلا استشكال أو التباس:

( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) (آل عمران:195) .

والرسول صلى الله عليه وسلم أكد ذلك حين قال: ( إنما النساء شقائق الرجال ) [1]

2- حماية المرأة من طاغوتية الرجل ونزعته في التوسيع على نفسه بالتضييق عليها،

كما يبين ذلك رب العزة في قوله عز وجل : ( وقالوا ما في بطون هـذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ) (الأنعام:139) ..

وكما في قوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن ) (النساء:19) . [ ص: 59 ]

3- تجديد النظرة إلى المرأة بقمع أفكار العوام في التشاؤم منها، وتصور كونها مركز الفتنة وسر العصيان، وأنها جالبة الفقر والعار في المجتمع، وبالتالي السعي للتخلص منها وأدا إما بدفنها حيـة تحـت تـراب الأديم، أو جعلها موجودة كالعديم، وقد جرد الله عز وجل الجناة عليها في الجاهلية الأولى من حق وأدها يوم الحق،

كما قال تعالى: ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) (التكوير:8-9) ،

وجرد الجناة عليها بحبسها المستديم في الجاهلية المعاصرة أن حصر أسباب حبسـها في الفتنة الواقعة التي لا سبيل لدفعها إلا بالحبس في قوله تعالى:

( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) (النساء:15) ،

فإن منعها من الخروج وحبسها في البيوت عقاب لا أصل، ولا هو الأمر الطبيعي الذي ظن الناس اليوم أنه الوضع الطبيعي للمرأة.

ولو أشكل عليهم قول الله سبحانه وتعالى : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) (الأحزاب:33) ، [ ص: 60 ]

فإن النهى

( ولا تبرجن ) يزيل إشكـال الأمر ( وقرن في بيوتكن ) ، والتبرج إنما يكون في الخروج، مع ظهور الخصوصية بأزواجه صلى الله عليه وسلم بمدلول سياق الآيات من قبلها ومن بعدها.

هذه بعض جوانب قضية المرأة الواجب معالجتها مع بقيتها بين جماهير الأمة، لتأخذ المرأة وضعها الطبيعي في المجتمع تربية ودعوة ومجاهدة ومناصرة لقضايا الأمة الملحة.

صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضايا وغيرها من موضوعات القرآن العامة هي التي يجب على الداعية أن لا يتغاضى عن طرحها على الجماهير وتربيتهم عليها، أو معالجتها فيهم وتصحيح مفهومها وصورتها لدى الناس مثقفين وحكاما وعواما.

ثانيا: من جهة الشكل والصياغة

طالما كان القرآن الكريم كتاب هداية نزله الله الكريم ليكون هاديا للناس وبينات من الهدى والفرقان، فالواجب على من قصد مقصد القرآن في الهداية والدعوة إلى الهدى أن يصيغ خطابه بـذات الصـياغة القرآنيـة، مع القطـع بأن المـراد ليس هـو الاعتقـاد أو الظن أن أحدا -مهما اتصف بالفصاحة والبيان واللحن- قادر على الإتيان بمثل ما أتى القرآن لا جملة ولا آية ولا مقطعا، وإنما المراد [ ص: 61 ] التقليد لصياغات القرآن والاهتداء بهدي القرآن في التعبير والمخاطبة.. فهـداية القـرآن للتي هي أقوم ليس محصورا في شأن أو جانب، بل هدايته للتي هي أقوم في كل شأن وجانب.

وعليه فالمطلوب قرآنية الخطاب في كل دعوة تنطلق للناس تعبيرا وصياغة وتشكيلا. ويمكن تمثيل بعض ما يشكل ويصاغ على سبيل صياغة القرآن وشكله.

أ- قرآنية الخطاب في الأحكام

فالأحكام خرجت بعد أن طال الأمد بطلاب الفقه المشتغلين به عن حال الأولين وسيرة صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، خرجت الأحكام عن صياغتها القرآنية مما جعلها جافة يابسة تحكي ولا تعظ، وتلزم ولا ترغب.

فالكثير من الفقهاء والمفتين ومعلمي الفقه للناس يلقون الأحكام الشرعية خالية من الحكمة والموعظة الحسنة، يلقونها مسائل كأنها أرقام حسابية يمليها تاجر على عماله ليكتبوها أو يسجلوها في دفاتر لتأرشف وترمى على رفوف الحفظ. تعد مسائل الفقه عدا وتلقى أحكامه مجردة عن الموعظة المرققة لطالبها والحكمة الحاملة [ ص: 62 ] على الاستمتاع بتطبيقها وطلب العبادة على وفقها،

مع أن الله تعالى قال في ذلك: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) (النحل:125) .

ففي الآية أمر ملزم بأن تكون الدعوة إلى سبيل الرب جامعة بين الحكمة والموعظة الحسنة.. وسبيل الرب اسم جنس مضاف يقتضي الاستغراق، فكل سبيل ربنا من الأصول والفروع والتبليغ والتطبيق والعبادة والاعتقاد، كل ذلك مطلوب أن تكون الدعوة فيه بالحكمة والموعظة الحسنة.

وإذا قرأنا القرآن بتدبر عند مواضع الأحكام نجده يقدم الحكم الشرعي معللا بالحكمة مصاغا على موعظة، يرشد حملة الفقه وطلبة التفقه في الدين أن يصيغوا أحكام الشرع على حاله وينسجوها على منواله.

فاقرأ قول الله تعالى في مواضع الأحكام من الفرائض والأركان، من فرض الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج أو الجهاد، تجد ذلك المعـنى جـليـا.. واقـرأ مواضـع الأحكـام فـي الحـدود [ ص: 63 ] أو القصاص أو الفيء أو الميراث أو النكاح والجماع وغيرها من مواضع الأحكام، تقف على حقيقة ما ذكر بلا ارتياب.

ففرض الصلاة، يصاغ على موعظة تشوق المكلف إلى التزامه وحبها

حين يقول سبحانه وتعالى : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ) (طه:14) ،

ويلقيها القرآن معللة بحكمة ظاهرة، ومصاغة بموعظة باهرة،

حين يقول تعالى: ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) (العنكبوت:45) .

فيه أمر وإرشاد وتعليل وترغيب وترهيب، ولا يخفى شيء من ذلك لمتدبر.

وكذلك الصيام،

حين أمر به بقوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقـرة:183) ،

حـف الأمـر به وإلزامه بأسلوب التيسير وتخفيف الوطأة، حين أخبر بأنه ليس فرضا جديدا، بل سبـق من التـزمه وأقـامه وتعبد الله به، فلا يخـشى من التـزامه ولا يخاف مـن إمكانه:

( كما كتب على الذين من قبلكم ) ،

وذيل الأمر به بأمر يجمع بين الحكمة والموعظة: " لعلكم تتقون " [ ص: 64 ]

وكذلك الزكاة، حين فرضها بقول الله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ) (التوبة:103) ،

فقد جاء الأمر بها على باقات الحكمة الظاهرة والموعظة الحسنة والترغيب والتحبيب والإرشاد، عز أمره تعالى وجل شأنه.

وهكذا الحج والجهاد وكل العبادات والفرائض والواجبات والأركان، تأتي الدعوة إليها والأمر بها على سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

وكذلك كل الأحكام التي نطق بها القرآن وأرشد إليها ودل عليها، كلها تأتي مقرونة بالحكمة مصوغة بالموعظة، لا على جفاء ويبس، كما هو حال الفقه اليوم.

فالقصاص قال في حكمها القرآن: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) (البقرة: 179) ..

فجمع بين الحكمة التي هي قوله: ( ولكم في القصاص حياة )

وبين الموعظة الحسنة التي هي قوله: ( يا أولي الألباب لعلكم تتقون )

ولولا أن يطول المقام لسردنا وأوردنا كل مواضع الأحكام في [ ص: 65 ] القرآن، وهو يبنيها على الحكمة ويرسيها على الموعظة الحسنة.. وفيما مثلنا الدلالة الكافية على أن الدعوة إلى تنزيل الأحكام وتبليغها ينبغي أن يكون قرآنيا، شكلا وصياغة.

ب- قرآنية الخطاب في الاصطلاحات

كثير ممن يسعى بالدعوة في العالمين، ويحمل مقالة الإسلام في الأرجاء، ويجتهد تفكيرا ويجاهد تأصيلا لقضايا الأمة والدين، ينظر ويناظر في سبيل تمكينهما; كثير من هؤلاء غير لغة خطابه وبدل لسانه بلسان أعجمي ذي عوج غير مبين، هاجرا لغة القرآن ولسانه المبين غير ذي العوج.. ينتمي إلى سواه، ويرتمي بمصطلحاته القرآنية بين ألفاظ الأعجمي كأنه يبحث عن دلالة أخرى أقوى من مدلول القرآن، وعن معاني جديدة لم يجدها في القرآن، وهذا مرض جديد أصاب بعضنا فأركسوا فيه، وانحطوا عن الأقدر إلى الأعجز، وعن الأدل إلى الأقل دلالة، وعن الأضبط إلى الأخلط، وعن الجامع المانع إلى غير الجامع ولا المانع.

فإن القرآن لم يكن ليعطي ألفاظا يصطلح بها على معاني ودلالات معينة، إلا وهو يريد تحديد دلالالته وتخصيص ذاك المصطلح بمعاني خاصة تجمع عناصره وتمنع خلافها، لغة وتاريخا [ ص: 66 ] ومرادا، بمعنى أن تحديد القرآن لمصطلح معين يعني صحته لغة.. ومهما ضعفت اللغة أو قويت، يعطي المصطلح معناه في كل حال.. ويعني كذلك صحته تاريخا يراد به معناه الذي اصطلح لأجله، مهما مضى التاريخ وامتد وتبدل.. كما يعني أيضا أن مراده لا يقل، ومطلوبه لا ينقص، ولوازمه لا تذوب ولا تزول، فكلما عبر به أريد تمام ما وضع لأجله.

ولكنا للأسف نلاحظ كثيرا من هؤلاء يهجن لغته القرآنية بألفاظ الأعاجم، ربما ظنا منه أنها لغة العصر، أو أنها الأقدر على التعبير والدلالة، أو أنها الدالة على حجم ثقافته ومدى انفتاحه على الحضارات، وهو في الحقيقة انهزام لتلك الحضارات -وهي أرضية-، ورقية لأهلها وأصحابها -وهم كفار- وتبعية لمدلولاتها -وهي قشرية- وذوبان في آثارها، وهي سافلة، وانبهار بحقائقها، وهي زائفة.

لذلك، لا بد أن يتعامل دعاتنا ومفكرونا بمصطلحات القرآن دون سواها، ولا بد أن يتجددوا بلسان القرآن ويجددوا خطابهم بلغة القرآن.. حتى استبدال مصطلحات القرآن بغيرها، وإن اتفقت اللغة وتوافقت، لا تعطي المراد ولا الأبعاد، فهل يمكن [ ص: 67 ] القول: بأن مصطلح (النضال) يسد مسد (الجهاد) ، أو أن (الصمود) يكون بدلا عن (الصبر) ، أو أن (الانتحار) يغني عن (الاستشهاد) ، أو أن (صهيون) يراد به ذات المراد بمصطلح (يهود) [2]

؟ فكيف بالأعجمي المعوج؟

وصدق الله تعالى إذ يقول: ( ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) (فصلت:44) .

فأهل الإيمان، القرآن هاد لهم، في اللغة والصياغة والتعبير، وكاف بعربيته وشاف، والشفاء يطلق على مبلغ الصحة ونافي السقم، فدل أن صحة العبارة تكتمل وتدرك بهدى القرآن فيها، هذا لأهل الإيمان بالقرآن.. أما من لا يؤمن بالقرآن فيبحث تفصيل معانيه بالأعجمي، والقاعدة عنده: ( لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ) ، فلا يرتاح إلا إذا خلط كلامه بعربي وعجمي، فهو يعمى عن فصاحة القرآن ولا يعيه، وما أصدق القرآن على حال من يستبدل أدنى اللسـان بالذي هو خير، حـين وصفهم

بقوله: ( أولئك [ ص: 68 ] ينادون من مكان بعيد )

ينادون من وراء الأمة وكتابها ولغتها فاستجابوا للنداء، ولم يكن نصيبهم مما سمعوه إلا النعق والترديد والدعاء بذات الدعاء، ورحم الله ابن جرير الطبري يشير إلى هذا المعنى يقول: معناه: كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول [3]

، وليس النداء يوم القيامة -كما قيل من بعضهم- لأن أحكام الآية كلها في الدنيا ولا لازم لتغيير المجال مع وحدة الحال.

حتى لو اضطررنا إلى ترجمة معلومة هامة نرى صلاحها للأمة أو لدينها، لا ينبغي حكاية مقالهم بذات الألفاظ والمصطلحات، بل نسعى غاية ما يمكن أن نعبر عنها باصطلاحنا ولغتنا، وهكذا فعل القرآن ينقل مقالات الأنبياء- وهم أنبياء ورسل سبقوا في ذات الطريق وسلكوه- بلغة القرآن، وهو من أقوى دواعي الالتزام بصياغات القرآن واصطلاحاته، فإن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقاله الذي نقله القرآن وحكاه باللسان العربي; ولكن القرآن نقله باللسان العربي، وهو الهداية إلى المطلوب، والقرآن يهدي للتي هي أقوم، والأقوم صياغة خطابنا على اصطلاحات القرآن وتشكيله بشكله. [ ص: 69 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية