المبحث الثاني: عمومية الخطاب وشموليته
الخطاب الذي يوجه إلى الجماهير، الأصل فيه أن يكون عاما غير مفصل، ليستوعب في عمومه عامة الجماهير، ويدخل في مضمونه أكثر المخاطبين، ويضم بشموله سائر المدعوين، وبذلك يستطيع الخطاب أن يكون مقبولا يسع الناس ولا ينحجر على فئة، أو ينغلق بمجموعة.
وعمومية الخطاب تقتضي الابتعاد عن التفصيل في أمور التعميم فيها يؤدي المطلوب، كما يقتضي الابتعاد عن التجزيء والتفرع دونما مقتض يتطلبهما، أو حاجة تلح عليهما.
فإن التفريع بالخطاب إلى القضايا الجزئية لا يغنى حاجة الجماهير بقدر ما يصادف أحوال القلة، فلو ركز الخطاب الجماهيري على هاتيك القضايا لا شك سينحرف عن مساره المطلوب ولن يصيب إلا أفرادا، وبذلك سيخرج الخطاب عن كونه جماهريا إلى صفة الفردية.
وإن اعتماد التفصيل واعتياده لدى المخاطبات الجماهيرية سيوغل بأهل الخطاب فيما لا مخرج لهم إلا بعد فوات التدارك، [ ص: 70 ] وسيربي الجماهير على الارتياح للتفاصيل والجزئيات والقضايا الفردية، والامتعاض للقضايا العامة التي تهم الأمة، وهذا على خلاف أهداف الدعوة الجماهيرية، وغير مطلوبات تربيتهم لدى الدعاة المستنيرين.
وإن زان الخطاب بعموميته، فإن من تمام ذلك أن يكون التناول للقضايا والمسائل، والتعرض للمشكلات والنوازل، أن يكون تناول ذلك والتعرض له كليا، بمعنى: أن يعالج الخطاب الدعوي لدى الجماهير مجموعة قضايا بسياق واحد، فتندرج كل مسألة أو قضية أو مشكلة أو أمر من أمور الدعوة تحت ذات الخطاب، يتناوله السياق ويدل عليه.
وبهذا يقتدر الداعية أن يتجنب ترصد المؤاخذين، وتجزء المعالجة. ويجد المدعوون مهما قلبوا جنبات القضية والمسألة أن ذاك الخطاب لا يزال يستوعب، ولا يزال يستصحب.
لأن الخطاب الإسلامي خطاب شامل، يصل إلى الناس على مـتن الشموليـة، يجـمع كـل معاني الدين ويغـطي كل جوانبه، فـلا يقيـم جانبا على حساب جانب، ولا يهتم بشأن دون شأن، بل يدعو للدين كله. [ ص: 71 ]
معاني الدين شاملة جامعة
والدين كلمة جامعة للمعاني العلمية والعملية، اللائي يقمن الحياتين للناس، الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
- فالدين يعني الحساب والجزاء في الآخرة ( مالك يوم الدين ) (الفاتحة:4) .
- والدين يعني البعث والقيامة،
كما في قوله سبحانه وتعالى : ( وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) (الحجر:35) .
- والدين يعنـي الاعتقاد: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) (البقرة:256) .
- والدين يعني العبادة: ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) (الزمر:11) ..
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) (البينة:5) ..
( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج:77-78) .. [ ص: 72 ] - والدين يعني الدعاء، قوله تعالى: ( وادعوه مخلصين له الدين ) (الأعراف:29) ..
- والدين يعني الإسـلام، قوله: ( إن الـدين عند اللـه الإسلام ) (آل عمران:19) ..
- والدين يعني الشرع: ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) (الشورى:21) .
- والدين يعني المذهب والفكر، كما قال تعالى: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة:33) .
- والديـن يعـني الدعـوة: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8) .
- والدين يعني الحكم والسياسة، قال تعالى: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف:40) .
وقال تعالى: ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك [ ص: 73 ] إلا أن يشاء الله ) (يوسف:76)
.. ودين الملك: سلطانه وحكمه على قول ابن عباس ومجاهد والضحاك [1]
- والدين يعني القانون كما في قوله تعالى: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النور:2) .
- والدين يعني الجماعة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة ) [2]
- والدين يعني النصيحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [3] [ ص: 74 ] فكل هذه المعاني جمعتها كلمة الدين في القرآن الكريم والسنة المطهرة، لتدل على أن الدين هو الحياة كلها، سواء الحياة الدنيا أو الحياة الآخرة، وأن البشر لا يمكن أن يقيموا أمرهم على السواء والاستقامة وعلى ما يليق ومقام البشرية وعلى ما يوافق القيم الإنسانية إلا بالتزام الدين كله، بجيمع معانيه وشمول مراميه ومطلوباته.
لذلك كان حقا على العاملين للإسلام أن ينظروا إلى الدين بعـين الشمـول لا يجهـلون منـه جانبـا، ولا يبخسـون منه مـعنى، ولا يهملون أمرا، أو يحقرون منه شيئا البتة.
القرآن يشير إلى شمولية الخطاب
ولقد توحد أسلوب القرآن الكريم في التحبيب إلى الخير والتنفير من الشر، دعوة إلى الله على منهج القرآن.
فالقرآن الذي ذم الكذب والإفك في المقال والهمز واللمز، هو نفس القرآن الذي ذم التطفيف في المكيال، وهو ذات القرآن الذي ذم التساهل في الصلاة. والكذب والإفك والهمز أخلاق، والمكيال [ ص: 75 ] اقتصاد، والصلاة عبادة محضة، فنفر عن كل ذلك وذمها وتوعد عليها بنفس الذم والوعيد وذات الصيغة،
فقال تعالى في الإفك: ( ويل لكل أفاك أثيم ) (الجاثية:7) ..
وقال سبحانه في الكذب: ( ويل يومئذ للمكذبين ) (المرسلات: 15) ..
وقال في الهمز واللمز: ( ويل لكل همزة لمزة ) (الهمزة:1) ..
وقال في الكيل: ( ويل للمطففين ) (المطففين:1) ..
وقال سبحانه وتعالى في الصلاة: ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ) (الماعون:4-5) .
والتوعد بالويل شمل كل القضايا التي ينفر عنها ويتوعد عليها، كقضية التحريف والكسب الحرام: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) (البقرة:79) .
وكقضية الكفر: ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) (مريم:37) .
وكقسوة القلب والإعراض عن الذكر: ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) (الزمر:22) .. وغير ذلك من [ ص: 76 ] القضايا.. فظهر شمول الخطاب القرآني.
وإذا كان القرآن قد أدل على شمولية خطابه في الذم والوعيد والتنفير والترهيب; فقد كان ذلك أيضا في جانب الوعد والإلزام والترغيب، فجاء خطابه بصيغة واحدة وكلمة مفردة يعبر بها عن لزوم جوانب عديدة والترغيب فيها والوعد عليها. فنلاحظ أن القرآن يعبر بلفظ الكتابة عن الإلزام في كل الشؤون: في شأن التعبديات المحضة كالصيام، وفي شأن الجنايات -القانون- كالقصاص، وفي شأن المال -الاقتصاد- كالوصية، وفي شأن السياسة والحكم كالحرب والقتال، وفي شأن الوسائل كإغاظة الكفار والنيل منهم، وفي شأن الهداية والضلال كاتباع الشيطان، وهكذا..
فقال في الصيام: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة:183) .
وقال في القصاص: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) (البقرة:178) .
وقال في الوصية: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ) (البقرة:180) . [ ص: 77 ]
وقال تعالى في القتال: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) (البقرة:216) .
وقـال في النيـل مـن الكفـار: ( ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) (التوبة:120) .
وقال في اتباع الشيطان: ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) (الحج:4) .
فماذا أبقى القرآن من شأن أو قضية!! وبصيغة واحدة، بل بلفظة واحدة يعبر بها عن كل قضية وشأن، بذات العبارة واللفظ، ليدلنا على شمولية خطابه.
بل إن القـرآن الكريم ينـعى على الذين يحاولون إقامة الدين في جزء وطرف مع إهمال البقية التي لا ينفك قيام الدين عنها،
وقد قال تعالى في ذلك: ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) (الحج:11) ..
وهذا مصير من يقيم [ ص: 78 ] طرفا من الدين مع إهمال غيره، ويهتم بشأن واحد منه دون سواه.. والدين كل لا يتجزأ ما أمكن إقامته، وإلا يتقلب بين الفتنة والخسران في حياته الدنيا وفي الآخرة.
جوانب الشمولية
شمولية الخطاب الإسلامي نجدها في القضايا والموضوعات، ونجدها في المدعوين والمخاطبين من جماهير الناس، ونجدها في الدعاة العاملين، ونجدها في الأمكنة وفي الأزمنة كذلك.
1- شمولية الخطاب من حيث الموضوعات
إذ الخطاب الإسلامي صيغ لينطلق داعيا إلى إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وهـو دعـوة لجعـل الحيـاة كلـها تقـوم وتمـضي وترسى أركانها وقوائمها ومقوماتها على أهداف الإسلام وغاياته ومقاصده.
لذلك، لم يتخلف شأن عن مضمون الخطاب ومقصوده، فجـاء دعـوة أخـلاق وسلـوك وآداب، كما هـو دعـوة عبـادة وذكـر وجـهاد، كمـا أنه دعوة صدق وزهد وتوكل وإخلاص، كما كان دعوة توحيد في الاعتقاد والتعبد والتوجه، وهو دعوة علم [ ص: 79 ] وعمل، ودعوة معاملات مدنية، وعلاقات اجتماعية وسياسية ودولية. إذن دعوة الإسلام دعوة إلى كل ما يحيي البشر ويسعدهم، وبهذا جاء النـداء الإلهي للمـؤمنين يقـول لهم: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال:24) .
إنه شمولية عبادة، والعبادة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : اسـم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة [4]
.. ولقد رأينا كيف أنكر القرآن على الذين يقطعون العبادة تقطيعا ينتحون بها ركنا قصيا، يتشبثون بفرع، قابضين على حرف، وقائمين على طرف واحد يعبدون الله عليه، فقال عنـهم،
في قوله تعالى: ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) (الحج:11)
[5]
وهو شمـولية اعتـقاد لأنـه لا انفصام في العـروة الوثـقى بين التعـبد والاعتقاد، والعبادة لا تصـح إلا على الإخلاص وتوحـيد [ ص: 80 ] المعـبود الحق، والاعتقاد الحق لا يكون أبدا في خلو العبادة، وحقيقته توحيد الله في كل أمر ليستسلم له عز وجل : ( قل إن الأمر كله لله ) (آل عمران:154) .
فأمر الربوبية لله، وأمر الألوهية لله، وأمر الحاكمية لله، وأمر السلطان لله، وأمر المال كله لله، وكل أمر لله بما يقر في القلب اعتقادا، ويظهر في الجوارح شعائر، ويوجه الأحوال في واقع الناس شرائع، وهكذا..
2- الشمولية من حيث الدعاة
وذلك من جهة أن وجوب الدعوة إلى الله شمل الجميع ممن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ، كلا حسب طاقته وقدرته وعلمه.
منهم من يدعو إلى الله بالتزامه في نفسه والمحافظة على التزامه..
ومنهم من يدعو إلى الله بالبيان والتعليم..
ومنهم من يدعو إليه بالحوار والمجادلة والمناظرة..
ومنهم من يدعو بالقتال والجهاد..
ومنهم من يدعو إلى الله بالاعتراك السياسي، والتسابق
الاقتصادي، والإصلاح الاجتماعي، والتصارع الحضاري. [ ص: 81 ]
وهكذا فالجميع دعاة إلى الله، كل بحسب ما يطيقه ويقدر عليه وما عنده مما يمكن الإسهام به في توجيه الخطاب، إما خطاب الالتزام والحال والقدوة، أو خطاب المجادلة بالحسنى، أو خطاب المقاتلة والمواجهة، أو خطاب المقابلة -في السياسة والحكم والمال والتقنية...- إلى غير ذلك.. وكل ميسر لما خلق له.
3- الشمولية من حيث المدعوون
وقد شمل خطاب الدعوة جميع من يمكن أن يدعى إلى الإسلام، واستغرق كل من كان فيه وظائف واستعدادات التمكين والتفكير والاختيار والتصرف، واستوعبهم .
وهذه الشروط والأوصاف وجدت في الإنس والجن، ولذلك جـاء خطـاب الإسـلام إليهما،
قـال الله تعـالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الـذاريات:56) ..
وقـال سبحانه وتعالى : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) (الأنعام:130) .
ورسولنا صلى الله عليه وسلم كما أنه مرسل إلى الناس، كذلك هو مرسل إلى الجن، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن منيـع والحاكم وصحـحه [ ص: 82 ] وابـن مردويه وأبو نعيم والبيهقي ( عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا -يعني الجن- على النبـي صلى الله عليه وسلم وهـو يـقـرأ القـرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ... ) (الأحقاف:29) ) [6]
وفي السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى وهم سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومـهم مـنذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) [7]
وأخرج أحمد ومسلم والترمـذي
( عن علقمة قال: قلت لابن مسعود : هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ [ ص: 83 ] فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا قد فقدناه ذات ليلة، فقلنا اغتيل، استطير، ما فعل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح، أو قال في السحر; إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فذكروا الذي كانوا فيه، فقال: إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ) [8]
4- الشمولية من حيث الأمكنة
وذلك أن رسالة الإسلام لم تكن كسائر الرسالات والدعوات محدودة بمكان أو بلد أو قوم أو أمة أو شعب أو إقليم، بل هي دعوة شاملة لكل الأمكنة.. حيث وجد الناس يجب أن يصل الخطاب يصلح أحوالهم، ويصيغ لأوضاعهم، ويصبغ حياتهم بصبغة الإسلام، فما من مكان إلا ويجب أن يجيء البلاغ المبين، ويبلغه أمر الله ما بلغ الليل والنهار،
وفي حديث أحمد ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك [ ص: 84 ] الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر ) [9]
وفي صحيح مسلم وغيره، يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) [10]
5- الشمولية من حيث الأزمنة
والدعوة إلى الإسلام هي دعوة الزمان كله، ليست دعوة موقوتة بعصر معين أو جيل محدود، أو زمن مخصوص، تخاطب أمة بعينها أو شعبا من الشعوب فينتهي خطابها بانتهائه أو تزول بزواله; بل هي الدعوة التي تخاطب الأزمنة كلها والأعصار جميعها والأجيال جيلا بعد جيل، ما دامت السموات والأرض وما تـداول اللـيل والنهار.. إنها الخطاب الذي توجه إلى الناس [ ص: 85 ] أيام آدم وحـواء يلقي إليهما وذريتهما أمانة التكليف في الأرضين، يقول تعالى لهما وللناس أجمعين:
( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (البقرة:38-39) ..
ثم يمضي يتوجه للناس إلى يوم يبعثون بدعاية الحق والخير والبر والفضيلة. فمن تنبه وعقل والتـزم، عـمـل ونجـى. ومن غـفل وجهل وعـصى وحاد وأبـى، ندم حين لا ينفع الندم، وتحسر ساعة لا تجدي الحسرات، ولات ساعة مندم ولات حين مناص:
( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ) (الروم:55-56) .
فإجمالية الخطاب تقتضي أن يكون الخطاب مجملا عاما غير مفصل، وشموليته تقتضي أن لا يهمل جانب من جوانب الدعوة، ولا يتـرك شأن قـدر على تبليـغه وإقامته، كما تقتضي أن لا يتوقف البلاغ في يوم ولا ساعة، على ما سيأتي من وسائل وأساليب. [ ص: 86 ]