الإنسان بين البعد الديني والبعد الطيني
لا شك أن الإنسان الحقيقي، صاحب الرفعة والامتياز، إنما هـو الإنسان الذي تحدثت عنه الديانات ونزلت لأجله الرسالات، فجعلت منه محور الكون وسيد الكون، وأخبرت أنه يستمد من روح الله ومستخلف عن الله، وهو لذلك يجب أن يظل مؤمنا بالله، مرتبطا به، عابدا له، وإلا انقطعت حباله وتمزقت أوصاله، فهذا هـو الإنسان ذو البعد الديني.
أما حركة حقوق الإنسان، والمرجعية الفكرية التي تؤطرها وتوجهها اليوم، فهي لا تكاد تلتفت إلى الأبعاد الروحية والربانية والدينية للإنسان، بل لا تكاد تلتفت إلى هـذا الإنسان صاحب حقوق الإنسان، ولا ترى في الإنسان وحقوق الإنسان سوى مجموعة من الطلبات والرغبات والتطلعات التي تحقق للإنسان احتياجاته المادية والجسدية ومحسناته السياسية والقانونية. [ ص: 45 ]
وما دام هـذا الإنسان - عندهم- قد تم تجريده من أي أصل روحي، ومن أي بعد ديني، ولم تعد فيه ولا له ثوابت ولا مقدسات، فإن حقوقه نفسها تصبح خاضعة للتطوير والتكييف المستمر بلا حدود ولا محددات. المهم هـو أن تستجيب لرغبات الإنسان في بعده الطيني.
قلت قبل قليل: إن إبليس لم ير في الإنسان إلا بعده الطيني، مع أن الخالق سبحانه قد نص وصرح في خطابه بأنه سواه ونفخ فيه من روحه، فالإصرار على تجاهل البعد الروحي للإنسان هـو أول توجه أيديولوجي ضال عرفه التاريخ. ومهما تكن الأوصاف والمصطلحات التي يتم إضفاؤها على النظرة المادية للإنسان وعلى التفسير المادي للإنسان، مثل الحداثة، والعقلانية، والعلمية، والموضوعية...، فإن ذلك لا يعدو أن يكون تجديدا وزخرفة لنظرة إبليس التي لا ترى في الإنسان سوى أنه كائن طيني صنع ( من صلصال من حمإ مسنون ) .
وللأسف فإن حركة حقوق الإنسان تمضي اليوم مشدودة إلى هـذه النظرة، ومحكومة بهذه الفلسفة، بل إنها تزداد إيغالا فيها. فالاحتياجات والحقوق الدينية والروحية والخلقية مغيبة أو مهمشة، والحقوق المادية الجسدية هـي المهيمنة. وأنا أعني بالدرجة الأولى التطورات الجارية حاليا ومؤخرا في مفهوم حقوق الإنسان وفي [ ص: 46 ] توظيف حقوق الإنسان، وإن كانت الأدبيات والإعلانات الحقوقية الأولى لهذا العصر مسكونة هـي أيضا بالهواجس المادية والحقوق الجسدية، مع إشارات مبهمة وخاطفة إلى بعض الحقوق المعنوية.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م، وهو أكثر نضجا وتوازنا من كل ما سبقه، قد تحدث بتفصيل وإسهاب عن حقوق الحرية، والمساواة، والحياة، والسلامة البدنية، والمحاكمة العادلة والعلنية، والإقامة، والتنقل، واللجوء هـربا من الاضطهاد، والتملك، وتقلد الوظائف العامة، والشغل، والأجر العادل، وحق الراحة والتمتع بأوقات الفراغ، والصحة، والرفاهية، والخدمات الاجتماعية، ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي والنفي والمعاملة القاسية أو الوحشية.
وهذا كله جيد ولا غبار عليه، ولكن الحقوق والتدابير التي تعتني بالإنسان وبجوهر الإنسان، وبالأبعاد النفسية السامية للإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانا، وتبقي الإنسان إنسانا، وتجعله أكثر ارتقاء وسموا، هـذه الحقوق غائبة ساقطة، أو إن بالغنا في تحسين الظن وتحسين الفهم نقول: إنها هـامشية باهتة غامضة؛ وذلك مثل الإشارات الخاطفة إلى مفردات العقل، والضمير، والكرامة، والشرف، والسمعة، وحماية الأسرة. وهذه -على كل حال- إشارات إيجابية لبعض الجوانب [ ص: 47 ] الإنسانية، لكن أيا منها لم يحظ بمادة مستقلة، وأكثرها لم تخصص له حتى جملة مستقلة، ولذلك قلت إنها مفردات.
فالمادة الأولى حين تتحدث عن كون الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، تضيف: «وقد وهبوا عقلا وضميرا»، ثم لا نجد شيئا قليلا ولا كثيرا يحفظ العقل والضمير أو يطالب بالمحافظة عليهما أو يندد بتضييعهما وتخريبهما.
والمادة الثانية عشرة تنص على أنه: «لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هـذا التدخل أو تلك الحملات».
شيء مهم أن يحمى الإنسان في شرفه وسمعته بمقتضى القانون، لكن ما هـو أولى بالعناية والحماية هـو وجود هـذا الشرف وبقاؤه بقاء حقيقيا، وليس مجرد ادعاء الشرف واللجوء إلى القانون لحماية هـذا الادعاء. بل أكثر من هـذا: كيف نبقي فكرة الشرف والسمعة موجودة وذات اعتبار لدى الناس؟ وإلا فقد لا نجد من يعتبر أن له شرفا وسمعة، أو أن هـناك شيئا حقيقيا ومصلحة حقيقية اسمها الشرف والسمعة، خاصة إذا لم يكن يترتب عليهما درهم ولا دينار، ولا سجن ولا تعذيب؟ [ ص: 48 ]
ولعل أهم شيء يخدم الإنسان وإنسانية الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هـو هـذه الجملة التي جاءت في الفقرة الثانية من المادة (26) : «يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملا».. ولكن للأسف بقي هـذا الإنماء الكامل مبهما ومفتوحا على جميع الاحتمالات، بينما لم يكن بيانه وضبطه يتطلب أكثر من كلمتين أو ثلاث، لو أضيفت لكانت هـذه الجملة -على ضآلتها- إضافة نوعية إلى ثقافة حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان.
غير أن المشكل الأكبر والأخطر لا يكمن في الأدبيات والمواثيق الحقوقية الكلاسيكية، وإنما يكمن - كما أشرت من قبل- في الممارسات والتطورات الجارية اليوم باسم حقوق الإنسان، وإن كانت تعتبر امتدادا طبيعيا لتلك.
فباسم حقوق الإنسان تصدر النداءات والتوصيات للاعتراف بحق الشذوذ الجنسي، وبحق الزواج المثلي، وبشرعية الأسرة الناشئة عنه، وبالحق في إجهاض الأجنة ولو كانت في شهرها التاسع وبدون أي ضرورة، وبالحق في تغيير الجنس من ذكر لأنثى ومن أنثى لذكر.
ومنذ بضعة شهور نسمع عن الحملة وعن الضغوط الموجهة ضد مصر ، لما يجري فيها من محاكمة لبعض الأفراد من طائفة الشواذ [ ص: 49 ] المثليين، حتى إن ستين منظمة للشواذ عبر العالم وجهت نداء تضامنيا معهم تحت شعار: «يا شواذ العالم اتحدوا»، وقامت مجموعة من أعضاء الكونجرس الأمريكي بتوجيه رسالة احتجاجية وتحذيرية للرئيس المصري يلوحون فيها بالسعي إلى قطع المعونات الأمريكية لمصر [1] .. وكل هـذا يتم باسم حقوق الإنسان.
وباسم حقوق الإنسان يدافعون عما يسمونه حرية العقيدة، أي عقيدة، ولو تجسدت في حركة عبادة الشيطان أو في السحر والشعوذة والوصول إلى الانتحار الجماعي.
وباسم حقوق الإنسان يضغطون من أجل تعليم الطفل الثقافة الجنسية والحق في الممارسة الجنسية. وقد يصلون إلى أن يجعلوا الثقافة الجنسية مادة دراسية إلزامية ثم يسعون بعد ذلك لكي تكون لهذه المادة حصصها التطبيقية حتى لا تبقى مادة نظرية جافة أو غير مفهومة.
وباسم حقوق الإنسان يجري هـدم العلاقة الإنسانية الطبيعية والفطرية بين الرجل والمرأة، لتحويلها إلى علاقة تنافس وصراع وخصام بعد أن كانت على مر العصور وعند جميع الأمم والشعوب علاقة حب وتعلق وتكامل ووئام. [ ص: 50 ]
وباسم حقوق الإنسان يحاولون إلغاء ما بين الرجل والمرأة من اختلافات وتمايزات فطرية ليفرضوا عليهما المساواة التطابقية القسرية.
وباسم هـذه المساواة، تحولت المرأة إلى مجال الامتهان والابتذال، تساق إليه بوتيرة وكيفية مذهلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان.. فالمرأة أصبحت سلعة.. والمرأة مسخرة لترويج البضائع والإعلان عنها.. والمرأة للمتعة الحرام، وللمنافسة بين القنوات التلفزيونية وجلب المشاهدين لها.. والمرأة لعرض الأزياء، أو لعرض الأشلاء باسم الأزياء...!
حينما يجرد الإنسان من بعده الروحي، ويختصر في بعده الطيني، وحينما تنبني حقوق الإنسان على هـذا الأساس وتوجه في هـذا الاتجاه، فإننا نجد حينئذ حقوق الإنسان عبارة عن نسخة مطورة ومزيدة ومنقحة عن حقوق الحيوان.
إن الحرية الجسدية، والحاجات الجسدية، والرعاية الصحية، والرفاهية المعيشية، ومنع الاعتقال والتجويع والتعذيب، وضمان قسط مناسب من الراحة، والاشتغال في حدود الطاقة، وحماية الضعيف من القوي، والانتصاف له ممن ظلمه، هـذه ونحوها من أمثالها ومما يتفرع عنها، كلها حقوق لا غبار عليها وعلى ضرورتها، ولكن العكوف عليها والانحصار في دائرتها يجعلها لا تختلف كثيرا وجوهريا عن [ ص: 51 ] حقوق الحيوان كما تضمنها الإسلام في نصوصه وقواعده، وهي الحقوق التي يلخصها الإمام عز الدين بن عبد السلام في هـذين النصين اللذين أوردهما لكل من أراد أن يدرس ويقارن.
قال رحمه الله: «القسم الثالث حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحملها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين من يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو حرج، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها (حق الجنس والتناسل) وأن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه» [2] .
وقال في نص آخر: «فصل في الإحسان إلى الدواب المملوكة، وذلك بالقيام بعلفها أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها، فلا يكلفها من ذلك مالا تقدر عليه، وبأن لا يحلب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جرباها ويداوي مرضاها، [ ص: 52 ] وإن رأى من حمل الدابة أكثر مما تطيق فليأمره بالتخفيف عنها، فإن أبى فليطرحه بيده، فمن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض (أي دعوها تأكل من نبات الأرض) ، وإذا سافرتم في السنة (أي الجدب) فبادروا بها نقيها ) (عجلوا السير والرجوع بها لتأكل) وقد غفر لبغي بسقي كلب» [3] .