الاستمالات المستخدمة في الرسالة الإقناعية
يرتبط محتوى الرسالة عادة بالقدرة على الإقناع، فقد كان أفلاطون يعرف البلاغة بأنها: «كسب عقول الناس بالكلمات». وكان أرسطو يرى أن البلاغة هـي: «القدرة على كشف جميع السبل الممكنة للإقناع في كل حالة بعينها».
ويتحدث العلماء عن ثلاثة أنواع أساسية من الاستمالات التي توجد بالرسالة الإقناعية هـي: الاستمالات العاطفية، الاستمالات العقلانية، واستمالات التخويف. وفيما يلي استعراض لكل منها، مع إيراد بعض النماذج من القرآن الكريم
[1] :
1 - الاستمالات العاطفية
تستهدف الاستمالات العاطفية التأثير على وجدان المتلقي وانفعالاته، وإثارة حاجاته النفسـية والاجتماعية، ومخاطبة حواسه [ ص: 53 ] بما يحقق أهداف القائم بالاتصال، وتعتمد الاستمالات العاطفية على ما يلي:
أ - استخدام الشعارات والرموز
وتعتمد في ذلك على خاصية التبسيط لعملية التفكير واختزال مراحله المختلفة عن طريق إطلاق حكم نهائي في شكل مبسط، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قول الحق عز وجل:
( يسألونك عن الأهلة قل هـي مواقيت للناس والحج ) (البقرة:189) .
فالشعارات هـي عبارات يطلقها القائم بالاتصال؛ لتلخص هـدفه في صيغة واحدة ومؤثرة بشكل يسهل حفظها وترديدها.
أما الرموز فتشير إلى تنظيم التجارب الإنسانية في مجموعة من الرموز، التي تلغي صناعيا التباين بين الأفراد في عالم الواقع، ويصبح التفاهم ممكنا على أساس هـذه الرموز العامة التي حلت محل التجارب الفردية، وأصبح لها مدلول عام متفق عليه بين أفراد الجماعة.
ب - استخدام الأساليب اللغوية
مثل التشبيه والاستعارة والكناية أوالاستفهام، الذي يخرج عن كونه استفهاما حقيقيا إلى معنى آخر مجازي؛ كالتوبيخ والتبكيت، وكل الأساليب البلاغية التي من شأنها تقريب وتجسيد وجهة نظر القائم بالاتصال، ومن أمثلة [ ص: 54 ] ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ( قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ) (مريم:4) ،
وقولـه تعالى: ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) ( البقرة: 138) ،
وقوله تعالى: ( أفسحر هـذا أم أنتم لا تبصرون ) (الطور:15) ،
وقولـه تعالى: ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ) (الطور:30) ،
وقوله تعالى: ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هـم قوم طاغون ) (الطور:32) .
ج- دلالات الألفاظ
وهي من أساليب تحريف الكلم عن مواضعه؛ اعتمادا على الألفاظ المستخدمة، ويمكن تطبيق ذلك باستخدام كلمة أو صفة أو فعل، تكون محملة بمشاعر معينة، قد تكون سلبية تضفي نوعا من الرفض على الاسم أو الفاعل المصاحب لها؛ مثل استخدام صفات (التخريبية) أو أفعال مثل: ادعى، زعم، اعترف، وقد تكون إيجابية مثل: المعتدل، النشط. ويلاحظ أن بعض هـذه الألفاظ في أصلها اللغوي محايدة كلفظ (ادعى) ، إلا أن معيار الحكم هـو ما جرى العرف عليه في استخدام اللفظ، وهو ما يطلق عليه علماء اللغة: (الحقيقة العرفية للفظ) . كذلك يمكن استبدال الكلمة بكلمة أخرى لها دلالة معنوية، [ ص: 55 ] ويقصـد بـ: الدلالـة المعنوية ، انتـقال الذهن من مفهوم اللفـظ إلى ما يلازمه، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هـذا لله بزعمهم ) (الأنعام:136) ،
وقوله تعالى: ( وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) (القصص:64) ،
( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) (القصص:74) ،
( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ) (التغابن:7) .
د - صيغ أفعل التفضيل
وذلك لاستخدامها لترجيح فكرة معينة أو مفهوم ما، وفي القرآن الكريـم قـول الحق عـز وجل:
( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) (يوسف:39) ،
وقولـه تعالى: ( أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين ) (الدخان:37) ،
وقوله تعالى: ( ورحمت ربك خير مما يجمعون ) (الزخرف:32) ،
وقوله تعالى: ( أأنتم أعلم أم الله ) (البقرة:140) .
هـ - انتقاء ما يدل على أن الرأي أو الحكم حقيقة
وذلك على الرغم من عدم الاتفاق والإجماع عليه، ومن أمثلة ذلك في [ ص: 56 ] القرآن الكريم: ( إن الذين آمنوا والذين هـادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هـم يحزنون ) (البقرة: 62) ،
فالنصارى واليهود المذكورون في هـذه الآية هـم من آمن بـ: موسى وعيسى قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أما بعد البعثة فهم كفرة لا ينطبق عليهم هـذا الرأي أو الحكم الرباني، ومن ذلك الآية (47) سورة المائدة، حيث يقول الحق عز وجل:
( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الفاسقون ) (المائدة:47) ،
وهذا في حكم الزمان قبل أن ينسخ الإنجيل بالقرآن، أما وقد استبانت الأمور وتمايزت الصفوف بعد نزول القرآن فيجب أن يرجع الجميع إلى حكم كتاب الله الذي أنزله على سيدنا محمـد صلى الله عليه وسلم .
و- الاسـتشهاد بالمصادر
وهي تستغل حب التشبه بمن هـو أكثر أو أعلى سلطة أو من يحظى بمصداقية عالية من جانب المتلقي؛
وفي القرآن الكريم قوله تعالى: ( فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ) (الأنبياء: 58) ،
( قال بل فعله كبيرهم هـذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) (الأنبياء:63) [ ص: 57 ]
ز - معاني التوكيد:
وهي العبارات والألفاظ التي تستخدم لتشديد المعنى؛
مثل قوله تعالى: ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) (آل عمران:188) ،
وقوله تعالى: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة:80) .
ح - استخدام غريزة القطيع
ويقصد بها: استغلال الضغط الذي يجعلنا نتوافق مع الجماعة المرجعية التي ننتمي إليها. ويطلق عليها: العدوى النفسية ، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى:
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) (يونس:90) ،
وقولـه تعالى: ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما [ ص: 58 ] نجاهم إلى البر إذا هـم يشركون ) (العنكبوت:65) ، وقولـه تعالى: ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) (لقمان:32) .
2 - الاستمالات العقلانية
وهي تعتمد على مخاطبة عقل المتلقي، وتقديم الحجج والشواهد المنطقية وتفنيد الآراء المضادة بعد مناقشتها وإظهار جوانبها المختلفة. وتستخدم في ذلك:
أ - الاستشهاد بالمعلومات والأحداث الواقعية.
ب - تقديم الأرقام والإحصاءات.
ج - بناء النتائج على المقدمات.
د - تفنيد وجهة النظر الأخرى.
وهناك أمثلة عديدة من الآيات القرآنية التي استخدمت هـذا النوع من الاستمالات،
من ذلك قوله تعالى: ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ) ( البقرة: 258) ، وقوله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي [ ص: 59 ] هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) (البقرة:259) .
3 - استمالات الخوف
تشير هـذه الاستمالة إلى النتائج غير المرغوبة التي تترتب على عدم اعتناق المتلقي لتوصيات القائم بالاتصال، وتؤدي إلى جعل المتلقي يستجيب للرسالة في حالتين:
الأولى: شدة الإثارة العاطفية، التي تشكل حافزا لدى المتلقي للاستجابة لمحتوى الرسالة.
الثانية: توقعات الفرد بإمكان تجنب الأخطار وبالتالي تقليل التوتر العاطفي عند الاستجابة لمحتوى الرسالة.
وتوجد ثلاثة عوامل تؤثر على شدة الإثارة العاطفية في هـذا النوع من الاستمالات، هـي:
أ - محتوى الرسالة
إذ يجب أن يكون لمحتوى الرسالة معنى عند المتلقي حتى يستجيب للهدف منها ويحدث التوتر العاطفي، فالناس يميلون إلى تجاهل التهديدات، حتى تظهر علامات واضحة على خطورتها. [ ص: 60 ]
ب - مصدر الرسالة
إذا نظر المتلقي إلى القائم بالاتصال باعتباره غير ملم بالمعلومات الكافية فسوف يرفض توقعاته، وبهذا تفشل الرسالة في إثارة ردود فعل عاطفية. وإذا شعر المتلقي أن القائم بالاتصال يبالغ في التخويف فإنه قد يتجاهل ما يقوله.
ج - خبرات الاتصال السابقة للمتلقي
حيث أشارت بعض الدراسات إلى أنه حينما يتعرض بعض الناس لرسائل تثير (الخوف) والتوتر يقل جانب الخوف لديهم، إذا سبق أن تعرضوا لرسائل مشابهة، فالتعرض السابق للمعلومات يؤدي إلى نوع من التحصين العاطفي، ذلك أن عنصر المفاجأة يزيد من درجة الإثارة العاطفية التي تحدثها الأنباء السيئة.
ويقوم استخدام استمالات التخويف أو التهديد على الفروض الآتية:
أ - استخدام هـذه الاسـتمالات يؤدي إلى إحسـاس الفرد بالتوتر؛ نتيجة لزيادة الإحساس بالخوف أو الشعور بالعزلة، التي تركز عليها رموز الرسالة.
ب - الإحساس بالتوتر -في هـذه الحالة- يشكل حافزا للفرد على تجنب الخطر أو النتائج غير المرغوبة.
ج - سوف يستجيب الفرد بتأثير الحافز إلى أي توصيات تجنبه هـذا الخطر أو النتائج غير المرغوبة. [ ص: 61 ]
د - من خلال التجريب والتدعيم تتحول الاستجابات، من ثم إلى عادات سلوكية تتفق مع أهداف القائم بالاتصال.
ويمكن استخلاص بعض الفروض الخاصة ببناء الرسالة، التي تشير إلى التهديد أو التخويف من مثل:
أ - اقتراب التهديد من المتلقي شخصيا يزيد من حالة التوتر، وهذا مما يضفي على التهديد معنى ذاتيا.
ب - يرتبط التهديد بالاقتراب الزماني، فاحتمال الحدوث لا يعطي أثرا واضحا مثل الحدوث الفعلي، وكذلك لا يعطي المتلقي اهتماما بالأحداث البعيدة الحدوث، فالفرد يميل إلى تجاهل التهديد أو التخويف حتى تظهر مؤشرات واضحة وقريبة بالخطر الذي يعبر عنه التهديد.
ج - هـناك علاقة ارتباطية عكسية بين قدر التهديد والاستجابة إلى توصيات الرسالة؛ لأن المبالغة في التهديد قد تثير التحدي لدى المتلقي، أو تجعله يتجنب الرسائل التي تشير الى هـذا التهديد.
د - وضوح الرسالة يؤدي الى إمكانية تنفيذ توصياتها، وهذا يختلف عن وضوح وظهور الخطر أو غموضه؛ لأن غموض الخطر وعدم معرفة المتلقي بأبعاده يزيد من توتره أكثر من التهديد المعروف.
هـ - كلما كانت التوصيات في حدود قدرات المتلقي وإمكانياته كلما كان من السهل تنفيذها والالتزام بها.
وفي القرآن الكريم نجد أمثلة كثيرة على ذلك، منها: [ ص: 62 ]
- الآيات التي وردت بشأن الربا ومن ذلك قوله تعالى:
( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هـم فيها خالدون ) (البقرة:275 ) .
- ومنها آيات سورة المائدة، قال تعالى:
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة:38)
وقولـه تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هـديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ) (المائدة: 95) ،
وقوله تعالى: ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) (المائدة: 98) .
وغير ذلك من الآيات الكثيـرة، التي اسـتخدمت هـذا النوع من الاستمالات لبيان معاني محددة، وأحكاما ذات صلة بالقضايا الدينية والدنيوية. [ ص: 63 ]