القرآن الكريم واستراتيجية إنشاء المعاني
سبق وأن أشرنا في الفصل الأول إلى أن وسائل الإعلام الجماهيرية تستخدم في إنشاء ودعم الصور الذهنية من خلال مصادر غير محددة للمعلومات، والتي تصوغ معاني جديدة، أو تبدل المعاني التي خبرها الناس عن كل شيء، وهذا هـو جوهر استراتيجية إنشاء المعاني كمرتكز ثالث للإقناع في الرسالة الإعلامية.
وفي القرآن الكريم نجد استخداما واسعا لهذه الاستراتيجية، خاصة وأن الإسلام جاء لتغيير مجتمع كان يعيش في جهل وتخلف، ويحتاج إلى صياغة جديدة تقوم على قيم فاضلة وأخلاق حميدة ومثل وسلوكيات يجب أن تتبع، وكان التغيير بحاجة إلى إنشاء معان جديدة وتغيير معان أخرى راسخة، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة جاءت في هـذا السياق؛
من ذلك قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) (البقرة:104) .
قال ابن كثير : نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم؛ ذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية [ ص: 96 ] لما يقصدونه من التنقيص عليهم، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا: راعنا. ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: ( من الذين هـادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ) [1] .
ففي هـذه الآية يدعو الله سبحانه وتعالى عباده إلى استخدام معان جديدة بدلا من تلك المستخدمة؛ خاصة وأن المعنى المنهي عنه يحمل أكثر من معنى عند استخدامه من قبل اليهود.
ومن ذلك قولـه تعالى: ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) (البقرة:158) ،
جاء في سبب نزولها " عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة ، فقال: كانا من شعائر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما فنزلت الآية " [2] .
وفي هـذا تغيير للمعاني؛ فشعائر الإسلام تختلف في معانيها عن تلك التي كانت تمارس في الجاهلية، وفي ذلك تصحيح للمفاهيم التي كانت سائدة في الجاهلية، ودفع للحرج عن المسلمين. [ ص: 97 ]
وفي السياق ذاته قولـه تعالى: ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) (النساء:22) .
قال ابن العربي : هـو خلف الأبناء على حلائل الآباء؛ إذ كانوا في الجاهلية يستقبحونه ويستهجنون فاعله، ويسمونه: المقتي، نسبوه إلى: المقت... قال:
وقولـه تعالى: ( إلا ما قد سلف ) (النساء:22) :
يعني من فعل الأعراب في الجاهلية؛ إذ أن بعضهم كانت الحمية تغلب عليه فيكره أن يعمر فراش أبيه غيره فيعلو هـو عليه؛ ومنهم من كان يستمر على العادة وهو الأكثر، فعطف الله بالعفو عما مضى [3] . وفي ذلك إنشاء معنى جديد يفضي إلى سلوك جديد متعلق بحفظ الأنساب.
ومن ذلك قولـه تعالـى: ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) (الأحزاب:4) ،
قال ابن كثيـر : نزلت هـذه الآية في شـأن زيد بن حارثة رضي الله عنهما مولى النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له: زيد بن محمد، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يقطع هـذا [ ص: 98 ] الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى: ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) (الأحزاب:4) [4] وفي ذلك إنشاء لمعان جديدة تقود إلى اتباع سلوك جديد.
والآيات القرآنية التي قادت إلى إنشاء معان جديدة أكثر من أن تحصى أو تعد.. وفيما يلي طـائفة أخـرى منها:
- قال تعالى: ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) (الأحزاب:33) .
ذكر الإمام القرطبي في تفسيره " أن سودة رضي الله عنها قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. " قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجـت جنازتها، رضوان الله عليها. قال ابن العربي : «لقد دخلت نيفا على ألف قرية، فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم بالنار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلىء المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى» [5] . [ ص: 99 ]
فهذه معان جديدة طبقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والقرون الهجرية الأولى، ونحن الآن بحاجة إلى بعث هـذه المعاني من جديد، حتى تنداح في المجتمع في شكل سلوكيات تحفظ للمرأة كرامتها، بدلا من متابعة أساليب الموضة الغربية، التي لا تراعي إلا ولا ذمة في جانب المرأة.
ومن المعاني الجديدة الـتي جاء بـها الإسـلام نجد قول الحق عز وجل : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هـم المفلحون ) (المجادلة:22) .
قال ابن كثير في معرض حديثه عن تطبيق الصحابة رضوان الله عليهم للإرشاد الوارد في هـذه الآية: ومن هـذا القبيل حين استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار أبو بكر الصديق : أن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة ولعل الله تعالى أن يهديهم، فقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله، هـل تمكني من فلان (قريب لعمر) فأقتله، وتمكن عليا من عقيل ، وتمكن فلانا من فلان؛ ليعلم الله أن ليست في قلوبنا مودة للمشركين [6] . [ ص: 100 ]
وكم نحن الآن بحاجة إلى هـذه المعاني؛ امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى ، وتنفيذا لأحكامه.
ويمضي القرآن الكريم في تعليم المجتمع الإسلامي الأول معان جديدة لم تكن موجودة في الجاهلية،
ومن ذلك قوله تعالى: ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) (النور:31) .
قال القرطبي في تفسيـره: " روى البخاري عن عائشة أنها قالت: «رحم الله النساء المهاجرات الأول؛ لما نزل: ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) (النور:31) شققن آزرهن فاختمرن بها " . " ودخلت عائشة على حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم ، وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها فشقته عليها، وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر» " [7] . إن سور القرآن الكريم وآياته تحمل جميعها خصائص الرسالة الإقناعية؛ سواء من خلال الاستراتيجية الدينامية النفسية، أو الثقافية الاجتماعية، أو إنشاء المعاني. ولعل ما حاولنا إبرازه يأتي على سبيل [ ص: 101 ] المثال لا الحصر، فالقرآن الكريم رسالة اتصالية صممت كأساس للإقناع من خلال الطرح الرباني المتكامل، الذي لا تشـوبه شائبة أو ينقصه شيء، ونحن في القرن الحادي والعشرين علينا أن نستفيد من السياق الرباني لبعث الإسلام في نفوس المجتمعات المسلمة من جديد، وفي نشر دعوة الله إلى العالـم كافة على أسـاس من الحجة والإقناع، آخذين في الاعتبار ( حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، القائل: « ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) [8] .
فهذه هـي استراتيجيات الإقناع، التي أوضحنا كيفية استخدامها في الخطاب القرآني، الذي هـدى هـذه الأمة للتي هـي أقوم، ومن المعلوم بالضرورة أن تبليغ رسالة القرآن الكريم إلى العالمين هـو فرض على علماء الأمة، فكان لا بد في تبليغ هـذه الرسالة العالمية من نقل مضامينها ومعانيها إلى أرجاء العالم كافة بأسلوب مقنع؛ انطلاقا من قول علماء الأصول: « ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ». [ ص: 102 ]