ونقصد بها: بعض التصرفات التي تصدر من أحد أطراف الحوار وتؤدي إلى إفقاد الحوار جدواه وفائدته بحيث لا يصل إلى أهدافه المرجوة منه.
وتشمل تلك التصرفات: الثرثرة، والإطناب في الكلام، واللف والدوران، والابتعاد عن الوضوح في العرض، وغياب الأدلة والبراهين، وإخفاء جزء من الحقيقة، والغضب والانفعال، والتعصب الشديد.
وفيما يلي بيان موجز لكل من هـذه المعـوقات:
1- الثرثرة
وتعني الرغبة في الكلام من أجل الكلام دون هـدف محدد، والثرثار هـو الذي لا يهدف إلا إلى إبراز شخصيته أو فرضها على (الغير) ، وكأنه يحكم على الطرف (الآخر) بعقوبة الإصغاء الكامل للكلام الفارغ الذي يشتت الحقيقة ويذهب مذاهب شتى، فمن موضوعات سياسية إلى اجتماعية إلى اقتصادية دون أن يتطلب الحوار هـذا الانتقال في الكلام.
ومن سلبيات الثرثرة أن الشخص الذي يدخل في حوار مع آخر ثرثار فإنه يجد نفسه في مأزق لا يحسد عليه، لأن الثرثرة من الناحية الفسيولوجية [ ص: 89 ] مرض عقلي لا يخدم الجوانب المعرفية، فإذا استطاع المحاور إيقاف الثرثار عند حده وإبقائه في صلب موضوع المحاورة أمكنه المواصلة معه، أما إذا أخفق في الحد من الثرثرة فإن الحوار معه يصبح غير مجد.
ولذلك فإنه يجب على المحاور أن يقتصر في حديثه على القليل الجميل النافع، فحديث الإنسان ترجمان عقله ودليل فضله، ولا يوجد أفضل من حبس اللسان الذي يعجز عن الصـواب، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البلاء موكل بالمنطق» [1] كما ورد في الأثر: «ولا تكونن مكثارا بالمنطق مهذارا، إن كثرة المنطق تشـين العلماء»
[2] وفي مناسـبة أخرى ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ... وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم ) [3] ، وفي هـذا المعنى يدعو الشاعر العربي إلى وزن الكلام قبل النطق به فيقول [4] :
وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق
2- الإطناب في الكلام وهو الاهتمام بالصياغة اللفظية للفكرة أو الرأي على حساب المعنى والجوهر، بحيث يولي المحاور عناية خاصة بالبيان والبديع والطباق والجناس، فيهمل أصل الفكرة وجوهرها والمقصود منها، ويروح يلهث وراء شكلياتها. [ ص: 90 ] ومما لا شك فيه، فإن هـناك تناسبا حقيقيا في الأفكار والحقائق بين الشكل والمضمون، ولا يمكن أن يختل أي منهما على حساب الآخر، فإذا طغى أحدهما على الآخر فإنه يشكل مساسا بحق الجانب الثاني، وذلك أن للمضمون لباسه الملائم لخصائصه النوعية، كذلك لكل شكل مضمونه النوعي الخاص به.فإذا حصل أن كان في الحوار من يطنب في الكلام فاعلم أنه يهتم بشكل الفكرة أكثر من اهتمامه بمضمونها وموضوعها، والحقيقة أن الإطناب لا ينصرف فقط لاستخدام الألفاظ الطنانة والمصطلحات الرنانة، وإنما يمتد إلى استخدام الصوت الجهوري والتعمد بالضغـط على بعض الكلمات، أو تجسيم صوتي للكلمات الأخيرة من الجملة فيبدو الافتعال في الكلام واضحا.. ونظرا لأن البشر يختلفون في الطباع والسلوك فإن من يدخل عالم الحوار سيجد أمامه أحيانا من يطنب في الكلام لغرض تزويقه وتنميقه، وهو أمر إذا كان يلائم عالم الأدب فإنه لا يلائم العلم.
3- اللف والدوران
وهو عبارة عن الكلام في أمور جانبية لا علاقة لها بموضوع الحوار، وعدم الدخول في صلب الموضوع وحقيقته قصدا، لغرض التهرب من مواجهة حقائق معينة أو الاعتراف بشيء لا بد من الاعتراف به.
وفي هـذه الحالة يجب على المحاور إعادة الطرف (الآخر) إلى جادة الصواب والكف عن تضييع الوقت بمثل هـذا الأسلوب.
والحقيقة أن مثل هـذا النهج لا يخلو من أغراض سـيئة؛ لأن من يتـبعه يهدف إلى تحقيق غاية معينة، هـي: التعمية عن الحقيـقة، والبعد عن الصواب، أو إيصال معلومات ناقصة تؤثر سلبا على طبيعة الحوار ومنهجيته. [ ص: 91 ]
4- عدم الوضوح في العرض
ويكون ذلك عندما يلجأ المحاور إلى الغموض والإبهام لكي يشـعر الآخرين بأهميته الفكرية أو لزيادة وزنه الثقافي دون وجه حق.
وهذا النهج يشـبه كثيرا اللف والدوران من حيث الهدف، ولكنه يختلف عنه من حيث الوسيلة والشكل؛ لأن من يفتقر إلى العمق في التفكـير أو الكثافة في المعلومات هـو الذي يلجأ إلى العرض المبهم الذي يثير اللبس والشكوك.
إن الغموض العلمي نوعان، الأول: غموض حقيقي ناتج عن عمق الأفكار وقوة الرأي، من خلال عرض الجوانب غير البارزة والتي تحتاج إلى شيء من التفكير لإدراكها وتصورها، وهذا هـو الفكر الفلسفي الذي يعني الغور في دهاليز الفكرة وزواياها المتعددة. والثاني: غموض مفتعل، يلجأ إليه العاجزون عن تقديم المعلومة من أنصاف المتعلمين الذين تخيـل لهم عقولهم أنهم على درجة كبيرة من العلم والإدراك، فيحاولون امتطاء الإبهام والغموض لتغطية عجزهم وقصورهم العلمي.. وهذا النفر من الباحثين والكتاب يصعب على المحاور الموضوعي والعالم أن يتحاور معهم، لعدم مقدرتهم على عرض أفكارهم بوضوح وجلاء، فالأفكار إما أن تكون محددة وجلية يمكن التعامل معها وإجراء الحوار فيها، وإما أن تكون غامضة غموضا مفتعلا، وعندئذ تصبح غير قابلة للحوار العلمي الفعال، وفي هـذه الحالة تصبح عائقا من معوقات الحوار. [ ص: 92 ]
5- غياب الأدلة والبراهين
ونعني بذلك: إطلاق الكلام من دون أدلة وبراهين، ومن غير مستند علمي أو حجة منطقية.
فالكلام عملية سهلة إذا نظرنا إليها كحركة ميكانيكية للسـان، ولكنه إنما يوزن ويقاس في الحقيقة بجوهره، فإذا تضمن رأيا أو فكرة أو وجهة نظر شاذة فإن من حق المحاور (لآخر) أن يطلب منه ما يحول ذلك الكلام إلى حقيقة علمية أو واقع مشاهد، فإذا عجز عن ذلك أصبح عائقا للحوار والمناظرة.
إن الأدلة والبراهين تعد بمثابة ضوابط نظامية للفكرة أو الرأي تحوله من كلام عادي إلى معلومة حقيقية تعتمد على دليل عملي وبرهان منطقي، فإذا غابت تلك البراهين كان من حق المحاور أن يطالب الطرف (الآخر) بما يدعم أفكاره ويؤيد آراءه، لكي تتم المحاورة على أرض صلبة من الحقائق والوقائع.
6- إخفاء الحقيقة
ويتم ذلك من خلال التستر على جزء من الحقيقة لأغراض التعمية على الطرف (الآخر) والتضبيب عليه.
فقد يعمد بعض المتحاورين إلى عدم ذكر جميع عناصر الموضوع وحيثياته حتى لا ترى الفكرة بوضوح، ولا تدرك عناصرها الداخلية بدقة.
إن هـذا الأسلوب له علاقة كبيرة بالنزاهة العلمية والمبدئية الفكرية، فمن لا يملك تلك النزاهة وليس لديه مبدئية فكرية، لا يمكن إقامـة حوار علمي معه؛ لأنه يفتقد أخلاقيات المهنة التي تتطلب الدقة والأمانة العلمية.
إن الكلام في العموميات والتعريج على الأطر العامة يضفي على الحوار نوعا من الغموض، ويزيد الضبابية فيه، فتضيع الفكرة الصادقة وتختفي [ ص: 93 ] المعلومة الدقيقة، ومن هـنا فإن إخفاء الحقيقة أو جزء منها يكون عائقا من معوقات الحوار وعاملا من عوامل فشله.
7- الغضب والانفعال
ويعني ذلك: أن يتحلى المحاور برباطة الجأش وهدوء الأعصاب والسيطرة على انفعالاته؛ لأن الهدوء يعد من الأمور الضرورية لتحقيق مناخ طبيعي للحوار والمناظرة.
إن الحوار العلمي بحاجة قصوى إلى ضبط النفس والتحكم بالأعصاب والهيمنة على الانفعالات، وهذا لن يتحقق في حالة غضب المحاور أو انفعاله دون مبرر، ومن هـنا يتحتم على طرفي الحوار أن يوقف حواره ويؤجله إلى وقت آخر حيث تبرد الأعصاب وتهدأ الخواطر وتزول الانفعالات.
8- التعصب الشديد
ويعد هـذا أشد معوقات الحوار وأكثرها ضررا، ذلك أن المعوقات الأخرى قد تكون مما يمكن معالجتها أو التغلب عليها، أما التعصب فهو آفة فكرية واجتماعية يصعب السيطرة عليها أو معالجتها.
إن الحوار مع المحاور المتعصب لأفكاره والمتمسك برأيه يحول جو المناظرة إلى مناخ مشحون بالتفكير العقيم البعيد عن الموضوعية؛ لأن المتعصب يكون جامدا عند أفكاره، رافضا لكل فكر نقيض، إذ هـو يستخدم مفاهيم غير مقبولة في الأفكار الأخرى، كما أنه يستعمل معايير ومقاييس خاصة به لا تلقى قبولا إلا في ظل فكر المتعصب ورأيه.
ومن المنطقي أنه إذا أصر المحاور على رأيه فليس هـناك مجال لاستمرار الحوار معه، بل يصبح من الضرورة قطعـه أو تأجيله؛ لأنه لا طائل من الحوار مع هـذا الصنف من المحاورين. [ ص: 94 ] لا بد من الإشارة هـنا إلى أن التعصب في الحوار إنما ينطلق من موقع الاستبداد السياسي أو الاجتماعي، أو ربما يكون ناتجا عن الأفكار التي ترفض الديمقراطية كنظام متكامل وفلسفة للحياة، وهذا كله يشكل بالنتيجة معوقات للحوار تؤدي إلى فشله وعدم تحقيق أهدافه.