بعد أن حددنا مفهوم العروبة والإسلام، كلا على حدة، وأشرنا إلى شكل العلاقة التي ينبغي أن تكون بينهما، وأن الانتماء إلى الإسلام لا يلغي الانتماء إلى الأوطان والأقوام، نشير هـنا إلى واقع العلاقة وضرورة الحوار بينهما فنقول:
يحاول بعض حملة الدعوة الإسلامية التقليل من شأن العرب والعروبة من خلال إظهار أثر الإسلام وقيمته في حياة العرب والمسلمين والناس أجمعين، حتى أن بعض هـؤلاء يحاول إنكار عروبته والتقليل من شأنها فيتساءلون مستغربين: ومن هـم العرب؟
وفي جانب آخر يقف فريق من دعاة القومية العربية محاولين التقليل من شأن الإسلام والمسلمين، من خلال إظهار أثر العرب وفضلهم على الحضارة [ ص: 130 ] العالمية ويحاول هـؤلاء إنكار الإسلام أو التنكر له زاعمين أنه ليس سوى صفحة ماضية من حياة العرب، وإذا كان قد صلح للسابقين من أبناء الأمة فإنه لا يصلح للاحقين في عصر العلم والتكنولوجيا، ولذلك فهم يصفونه بالرجعية ويصفون أتباعه بالرجعيين والمتخلفين عن ركب الحضارة.
إن نظرة متفحصة وهادئة لواقع العلاقة بين الإسلام والعروبة تثبت أن الخطر على الإسلام لا يتأتى من العروبة ولا من دعاتها المستنيرين، ولكنه يأتي من أعداء العروبة ومن دعاتها الذين لم يعرفوا أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه فجحدوا فضله على العرب، كما أن الخطر على العروبة لا يأتي من الإسلام ولا من المسلمين المستنيرين، وإنما يأتي من الذين يحاولون تشويه الإسلام والعروبة على السواء، ويسعون لتعميق الخلافات بين الأخـوة بداعي الخوف والحذر، وكذلك يأتي من بعض الجهلة الذين لم يصلوا إلى اكتشاف العلاقة التكاملية بين الإسلام والعروبة، وليس أظلم ممن يصدر أحكاما دون استيفاء ودراسة جميع المعطيات والأدلة والبراهين.
ومن هـنا فإننا نقدم دعوة مخلصة إلى الطرفين، فليقبل دعاة القومية والعروبة الذين لا يعرفون من الإسلام سوى اسمه إلى هـذا الدين يتدارسونه ويتعرفون عليه، وليقبل دعاة الإسلام على العروبة يتدارسونها ويتعرفون عليها، وعندها لا يبقى في ميدان الجدل والخصومة في معركة العلاقة بين الإسلام والعروبة سوى الأعداء الحقيقيين والجهلة المتعصبين، فالإسلام والعروبة منذ ظهور الدعوة الإسلامية وجهان لعملة واحدة أو صفحتان [ ص: 131 ] لورقة واحدة يكمل كلاهما الآخر
[1] ، ومن هـنا أصبح الناس لا يفرقون بين العروبة والإسلام، ولا بين العرب والمسلمين، وإذا قال الخطيب في المسجد: اللهم انصر العرب، فهي تساوي اللهم انصر المسلمين، والعكس صحيح أيضا، وقد عبر عن هـذا التلاقي والتوحد الشاعر العربي المسلم محمود غنيم، رحمه الله، بقوله
[2] :
إن العـروبة لفظ إن نطقت به فالشرق والضاد والإسلام معناه
ومن هـنا فإن وحدة العرب ضمن نطاق التضامن الإسلامي كفيلة بإعادة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وإحياء القيم العليا التي قامت عليها، كما أنه سيمكـن العرب والمسلمين من الظهور كتلة قوية في عالمنا المعاصر، تستطيع من خلالها التفاعل مع شعوب العالم الأخرى وفق أرضية صلبة لتسهم في تطوير التعاون الدولي، ولتعمل على إرساء نظام اقتصادي جديد يعالج الفجوة الكبيرة القائمة بين الدول الغنية والفقيرة، وسيكون لحركة الإحياء الروحي الذي يمتاز به الإسلام أثر كبير على صعيد بناء شخصية الإنسان المعاصر الذي يجتهد في البحث عن بعده الروحي في تربية النفس الإنسانية وتزكيتها، وصولا إلى إنسان العصر المتوازن الذي عجزت الحضارة الغربية الحديثة عن الوصول إليه رغم ما وصلت إليه من حضارة [ ص: 132 ] وتقدم، وبهذا ينجح الفكر العربي الإسلامي في طرح إسـلام العصر الذي يجسد في مفهومه الجمع بين الأصالة والمعاصرة.[3]
وبناء على ما تقدم نقول : إن إطار الحـوار الذي نريد تحقـيقه بين العروبة والإسلام يفيد أن العروبة واقع تاريخي، والإسلام دعوة شاملة ونظام مستوعب للحياة، والحديث عن تناقضهما أو توافقهما حديث لا معنى له أصلا، ولذلك فإن صيغة الحوار بينهما يعتمد على الأسس التالية
[4] :
1- لا يجوز أن تكون العروبة حركة تمزيق للوحدة الإسلامية، وإنما يجب أن ينظر إليها على أنها دعوة «توحـد» وتجميع تعلو على الإقليمية وتحارب نوازع الانحياز الإقليمي الضيق، وخصمها الأكبر هـو الانحصار داخل الحدود الإقليمية وليس خصمها الإسلام بأي معيار من معايير الخصومة.
2 - ليست العروبة موقفا عنصريا يزعم تفوق «الجنس العربي» على بقية الأجناس؛ لأنها بذلك تكون مناقضة لما حرص الإسلام على تقريره من وحدة «النوع الإنساني» ورفض العصبية والعنصرية بكل أشكالها.
3 - إن عملية التوحد العربي التي تمت تاريخيا هـي في الوقت نفسه عملية توحد إسلامي، فالفتوحات الإسلامية وحركة نشر الدعوة عن طريق التجـار إنما تمت على يد العرب المسلمـين، مما يؤكد أن نتائجها لم تكن مجرد توحد عربي بل كان في جوهره توحدا إسلاميا بأيد عربية. [ ص: 133 ] 4 - إن الدعاة إلى الإسلام اليوم مطالبون بوقفة هـادئة أمام الشعارات التي يرفعها دعاة الوحدة العربية؛ لأن تلك الوحدة إذا تجردت من العنصرية والعصبية فإن الإسلام سيكون هـو المكون الرئيس لها، وهذا ليس شرا يستعاذ منه، بل إنها في الحقيقة ستكون سبيلا إلى تحقيق الحضارة المنشودة، وليس أدل على ذلك من أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعـوته من خلالها عملا بقـوله تعالى:
( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (الشعراء:214)
ثم انطلق بعدها لنشر الإسلام بين سائر الشعوب والأمم، مما يشير إلى أن هـذا المسلك مناسب لأوضاع الأمة وطبيعة تعاملها في نشر الدعوة وتحقيق دين الله في الأرض.
واستنادا إلى هـذه المعطيات، التي أشرنا إليها، فإنه ينبغي أن يكون الحوار بين العروبة والإسلام قائما على هـذه الأسس والقواعد التي تضمن حوارا علميا هـادئا بعيدا عن التشنجات العاطفية، وملبيا لتطلعات الأمة العربية والإسلامية، محققا للإسلام عالميته وحافظا للأمة خصوصيتها، بعيدا عن الإفراط والتفريط.