المبحث الثاني: الحوار مع الآخر «حوار الحضارات»
حوار الحضارات، أو حوار الشمال والجنوب، أو الحوار العربي الأوربي، أو الحوار الإسلامي المسيحي، أو حوار الشرق والغرب، كلها مصطلحات وعناوين لموضوع واحد هـو الحوار بين الأديان والحضارات المختلفة، التي تعتمد ثقافات متفاوتة في نظرتها إلى الكون والوجود، وهو موضوع جدير بالاهتمام والدراسة والمتابعة عسى أن ينتقل الأمر فيه من مرحلة الفهم والاقتناع إلى مرحلة التعاون على العمل المشترك بين جميع المعنيين باقتلاع جذور الأحقاد بين الشعوب.
ويقصد به من الناحية النظرية الحوار مع الطرف (الآخر) للتعرف على ما يهدف إليه من حيث طبيعة علاقته بالآخرين ورسم مستقبل أفضل لجميع شعوب العالم ضمن دائرة التفاهم المشترك، وعدم التجاوز على الخصوصية الدينية والأخـلاقية بما يطلق عليه في عالـم اليوم المحافظة على الهوية الثقافية للأمم.
وهذا النوع من الحـوار وإن أخذ مسميات حديثة فإنه قديم قدم وجود الشعوب ذات الحضارات المتجاورة، حيث كانت تلك الشعوب تتبادل المعارف والخبرات وأنماط الحياة من قيم وسلوك وتقاليد عن طريق التفاعل العفوي الطبيعي بحيث أصبحت بمجملها جزءا من مفردات نسيجها الاجتماعي دون قصد بفعل التواصل الحضاري على مدى الأزمان المتعاقبة،
[1] [ ص: 145 ] وهذا في حقيقته يمثل طرفا من المفهوم الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13)
حيث اقتضت حكمته تعالى أن يخلق الناس متفاوتين ومختلفين، وأن يظلوا كذلك ربما من أجل تحقيق التعارف والتبادل والحوار بين بني البشر:
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هود:118-119)
وهكذا استمرت العلاقات بين الأمم والشعوب على ربى هـذه المعمورة مضطربة مرة ومتفقة مرة أخرى يحدوها الأمل في إقامة علاقات حسنة تقوم على أساس التفاهم والاحترام المتبادل.
ونتيجة لهذا الإحساس بضرورة التلاقي والتواصل والتحاور بين شعوب العالم المختلفة عقدت على مدى العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضي العديد من اللقاءات والمؤتمرات والندوات العلمية والثقافية من أجل تحقيق أرضية مشتركة للتعاون والحوار بين الأديان والحضارات باعتبار ذلك يمثل أرقى صيغ الحوار مع (الآخر) في عصر المدنية والتحضر
[2] .
وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية يعد الحوار أصلا ثابتا من أصول الحضارة الإسـلامية ومبدأ من مبادئ الشرع الحنيف، استنادا إلى قوله تعالى:
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد [ ص: 146 ] إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) (آل عمران:64) فهذه الآية دعوة صريحة إلى الحوار الهادف بين المسلمين من جهة وبين أصحاب الأديان والحضارات من جهة أخرى.
ومن هـنا، فإن الحوار الذي ندعو إليه وندخل فيه هـو الذي يستمد الاعتدال من روح الإسلام وتعاليمه التي تدعو إلى الوسطية في كثير من الآيات القرآنية،
منها قولـه تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143)
والمقصود بالوسط هـنا الاعتدال والمثالية وعدم التعصب، بحيث يكون حورا بالكلمة الراقية والمنهج السوي.
إن العالم العربي والإسـلامي اليوم مدعو أكثر من أي وقت آخر إلى الانفتاح على آفاق العصر والدخول في حوارات جدية وهادفة مع دوائر عديدة وعلى مستويات متنوعة، ثقافية وفكرية وسياسية، ليثبت للعالم كله أهليته للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية تسود فيها قيم الخير والحق والفضيلة، وتهدف إلى نشر المعارف والثقافات بين الشعوب، وتنمية العلاقات السلمية بينها، وتمكين كل إنسان من اكتساب المعرفة والمشاركة في التقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم ليفتح الحوار مجالا واسعا أمام تفاهم المجتمعات، ويؤدي إلى تقارب الثقافات، ويساهم في تلاقح الأفكار، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه اليوم بالتفاعل الحضاري الذي يجب أن يدعم التعاون بين جميع شعوب العالم على مواجهة تحديات العصر ووضع الحلول المناسبة لها. [ ص: 147 ]