كيفية التعامل مع الآخر التربوي
وقد تنادت أصوات عدة قبل التسعينيات من القرن الماضي إلى أن عصر الأيديولوجيات الكبرى قد انتهى، وكانت تلك الأصوات تواجه بهجوم مضاد وخاصة من المعسكر الاشتراكي، يؤكد أصحابه أن الصراع الأيديولوجي ما زال وسوف يظل قائما، حتى إذا شهدنا انهيار منظومة الدول الاشتراكية ، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي ، إذا بصوت المعارضة يخفت، بل لقد شهدنا –وخاصة في الدول النامية– تحولا ملحوظا لمثقفين، كثيرا ما حملوا لواء الاشتراكية وما كان يفرضه هـذا من تحالفات «مع» و «ضد»، وأفكارا وعملة لفظية ولغة فكرية يتعاملون بها، إلى مواقف فكرية مغايرة إلى حد كبير، معللة ذلك بأن الدنيا تتغير والظروف تتبدل، ولابد للفكر أن ينفعل بهذا وذاك، وأن الجمود على ما يزعم أنه ثوابت إنما هـو «تخلف» وعجز عن مواكبة العصر، وبالتالي فقد سادت المقولة التي تشير إلى انتهاء الصراع الأيديولوجي ما دام الخصم الكبير والقطب الثاني الذي كان حاملا راية الأيديولوجيا قد رفع الراية البيضاء معلنا الهزيمة والاستسلام.
وفي رأينا أن هـزيمة أيديولوجية بعينها مهما كان انتشارها وأيا كانت سطوتها، لا يعني بالضرورة انتهاء عصر الأيديولوجيات، ذلك أن هـزيمة القطب الثاني قد واكبها إعلان القطب الأول أن ذلك انتصار لفلسفته هـو ورؤيته العامة وهي « الرأسمالية » التي هـي من غيـر شـك « أيديولوجيا »، [ ص: 112 ] لها منطلقاتها الفلسفية ومسلماتها وآلياتها وتفسيراتها لعديد من القضايا والمشكلات.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فلقد تجمعت مؤشرات متعددة لتعلن أن المواجهة التي قامت بين « الاشتراكية » و « الرأسمالية » قد تحولت الآن إلى شكل آخر من أشكال الصراع، بحيث يكون صراعا بين «النموذج الحضاري الغربي» و «النموذج الإسلامي».
ولأن الغرب الحضاري لا يواجه منظومة سياسية تجمع عدة دول، فإنه اتخذ سبلا جديدة للمواجهة مختلفة تماما عن تلك التي واجه بها منظومة الدول الاشتراكية، فلم يعد من الحصافة وحسن السياسة وإدارة المعركة الاعتماد فقط على « حلف عسكري »، أو بوارج وغواصات وطائرات وصواريخ ؛ لأن المستهدف في الوضع الجديد «عقول» و «فكر» و «اتجاهات» و «ميول» و «معارف» وهو ما يسميه بعضهم: «البعد الرابع»، على أساس أن الأبعاد الثلاث السابقة، وهي: العسكري، والسياسي، والاقتصادي، يجب أن تفسح مجالا لبعد أصبح هـو الأهم ألا وهو البعد الثقافي، مما يجعلنا نؤكد –بغير تعصب مهني وتحيز معرفي– أن المواجهة سلاحها الأساس هـو «التربية»، بمعناها الواسع الذي يجعل منها تلك العملية المتكاملة الشاملة التي نسعى من خلالها إلى تنمية شخصية الإنسان.
وهنا نجد أن إحدى وسائل المواجهة أن يكون « الخطاب التربوي الإسلامي » على وعي بما يجب أن يكون عليه الأمر في التعامل مع (الآخر) .
والحق أننا لا نستطيع أن نزعم انفرادا «للخطاب التربوي» بكيفية بعينها في التعامل مع (الآخر) الحضاري، فهي قضية عامة، ما يصدق فيها على [ ص: 113 ] « الخطاب التربوي » يصدق على غيره، لكن ربما تكمن الخصوصية هـنا في أننا إزاء بنية بشرية والعناصر التي تكونها والأسلوب الذي تتكون به، والمقاصد التي تسعى عملية البناء البشري إلى الوصول إليها.
1- لعل أول قاعدة ينبغي إبرازها هـنا هـي ضرورة الانطلاق من مسلمة «حق الاختلاف»، واستقراء بعض آيات القرآن الكريم، يؤكد لنا هـذا ويعززه، فمن ذلك:
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) (المائدة:48) ،
( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) (يونس:19) ،
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) (هود:118) ،
فكون الناس لم يعودوا أمة واحدة، فهذا يعني التباين والاختلاف والتعدد، الذي يؤدي إلى التعدد في تبادل المنافع وإلى الإثراء، ومن هـنا يجيء الاختلاف والتباين والتعدد في مظاهر الكون المختلفة، الحي منها وغير الحي، آية كبرى لعظمة الخالق، يقول عز من قال:
( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) (الروم:22) ،
ويقول: ( إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) (يونس:6) .
ومما يشـير إلى مغزى التباين والاخـتلاف قـوله سبحانه وتعالى : ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13) ،
فالاختلاف في صورة شعوب متعددة وقبائل متنوعة لا ينبغي أن يؤدي بالضرورة إلى صراع وتقـاتل، وإنمـا إلى تبادل المنافع والخيـرات، والرأي والفكر في قلب هـذه الخيرات. [ ص: 114 ]
لقد اقتضت حكمة المولى عز وجل أن تكون لكل إنسان بصمة في أصابعه هـي فيصل بين حق وباطل، ولقد أكدت الدراسات العلمية الأخيرة أن البصمة الخاصة بالإنسان ليست فقط في أصابعه وإنما هـي أيضا في صوته، وفي دمه، بل وفي خطوه، أفليس أقرب إلى الصواب أن نعترف أيضا بأن لكل إنسان بصمة عقـلية تجعل من التعـدد والتباين بين نتاجها الفـكري ما يقعد لمشروعيتها وجودا وفعلا؟ ومن هـنا يجيء صوت الحق تبارك وتعالى:
( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99) ،
ويحدد مهمة النبي الأمين (: ( إنما أنت منذر ) (الرعد:7) ،
وأنه ( ما على الرسول إلا البلاغ ) (المائدة:99) ،
و ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ) (الشورى:48) .
2- ويرتبط بهذا أيضا ضرورة الوعي بالتباين المعروف في الأبعاد الزمانية والمكانية، وما يؤدي إليه هـذا من اختلاف وتباين في المشارب والأهواء والميول والنـزعات، والأفكار.
إننا نعلم من غير شك أن هـناك بيئة بعينها تصلح، بحكم ما فيها من عناصر ومكونات لزراعة القطن، على سبيل المثال، ولو أبدى إنسان يزور منطقة في دولة من دول الشمال سخرية من عدم زراعة سكانها للقطن، لاستحق منا سخرية أكثر، بل وإحساسا بأنه غير مستقيم التفكير؛ لأن مثل هـذه المناطق لا تحمل من الظروف ما يمكنها من زرع القطن، فما بالنا بالنسبة للمنتج البشري من قيم ومشاعر وأفكار واتجاهات وخطاب؟ [ ص: 115 ]
إن الإنسان من خلال تلك العملية المستمرة في نمو الشخصية، منذ الميلاد، بل وأثناء تكونه في رحم الأم، وأكثر من هـذا، بل وعند اختيار الزوجين، أحدهما للآخر، إلى ما شاء الله، إنما هـو حصيلة عمليات تراكم وتفاعل في كل ما يمر به من متغيرات، مما تكون نتيجته الاختلاف والتباين مع (الآخر) ، حتى بالنسبة –كما نرى في تجربتنا اليومية– لأخوين، من أب واحد وأم واحدة، تحت سقف واحد، فكيف أتصور أن يفكر « جون ديوي » – مثلا – بالطريقة نفسها التي فكر بـها الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية وشيخ الأزهر الأسبق؟ وكيف ألوم « جان جاك روسو » على ما فكر فيه، بينما لم يفكر المؤرخ الكبير « المقريزي » بالطريقة نفسها ؟
إن هـذا لا يعني أننا نبرر ونسوغ، وإنما كي «يفهم» القائمون «بالخطاب التربوي الإسلامي» (الآخر) حق الفهم، ومن ثم يستطيعون التحاور معه حق التحاور.
3- ويؤدي بنا هـذا إلى التأكيد على ضرورة دراسة (الآخر) التربوي قبل التعامل معه.
إن أسوأ ما نراه شائعا مع الأسف الشديد بين من ينتجون «الخطاب التربوي» وغيره، هـو أن كلا منهم حريص على أن يقرأ لمن يتفق معه في الرأي، ويتغذى بصفة مستمرة على عيون ومصادر الفكر الإسلامي، وهذا ضروري لا جدال فيه، لكن مما لا ينبغي المجادلة فيه أيضا ضرورة أن يستقرئ المربون ما أنتجه العقل الغربي من أفكار وآراء وفلسفات تربوية.
وإذا كان هـذا الأمر متوافرا في كليات التربية إلى الدرجة التي تجعلنا نشكو من أن الدارسين لا يكادون يدرسون إلا هـذا النتاج الفكري التربوي [ ص: 116 ] الغربي، بحيث يتحولون في النهاية إلى نسخ متكررة منه، إلا أننا نشير هـنا إلى هـؤلاء النفر المعنيين بالتربية الإسلامية، في بعض البلدان الإسلامية.
كانت باحثة تدرس معي لرسالتها للدكتوراه، ووضح من معرفتي الشخصية بها، بل ومما صرحت به في الرسالة أن مرجعيتها الفكرية هـي المرجعية الإسلامية، ولم يكن موضوع الرسالة في التربية الإسلامية، وبطبيعة الحال فليس ضروريا أن ينص في العنوان على أن الموضوع من موضوعات التربية الإسلامية، لكنها يمكن أن تعد كذلك مادامت المرجعية الفكرية هـي العقيدة الإسلامية.
وتطلب أحد جوانب الدراسة أن تتناول بالنقد وجهة نظر ماركسية، فلما وجدت أن المرجع الذي استندت إليه هـو لعالم من علماء المسلمين المعاصرين، أكن له احتراما كبيرا، قلت لها: إن المفروض أن تقرأ أيضا لأحد الماركسيين الذين تناولوا الموضوع، فأجابت بأن العالم المسلم موثوق في شهادته العلمية، فقلت: إنني لا أشكك أبدا في ذلك، ولكن منهجية البحث العلمي تقتضي، عندما نتناول موضوعا، أن نقرأ لأصحابه، فمثلنا مثل القاضي لابد أن يسمع لشهود الإثبات، كما يسمع لشهود النفي، وله بعد ذلك أن يحكم بما يمليه عليه عقله وقلبه وإيمانه.
4- وإذا كانت دراسة (الآخر) وفهمه خطوة أساسية، فقبل ذلك لابد أن نكون دارسين لأنفسنا حق الدراسة، وذلك من خلال ما قدمناه عن كيفية التعامل مع الموروث الثقافى، إذ لا يستقيم مع المنطق بأي حال من الأحوال أن يقف الإنسان في حالة حوار وجدل مع (الآخر) ، وهو على غير [ ص: 117 ] بينة بما يريد أن يدافع عنه ويوضحه وينشره، ويقنع به (الآخر) ، وفقا للقاعدة الشهيرة: فاقد الشيء لا يعطيه!
ومع الأسف الشديد فإن برامج إعداد الباحثين التربويين في كثير من الدول الإسلامية تكاد تهمل هـذا البعد إهمالا مخجلا، ونشير هـنا بصفة خاصة، ومن باب الصدق مع الذات، إلى برامج كليات التربية في مصر لطول خبرتنا بها، وإن كان هـذا لا يعني انفرادها بذلك! ودراسـة الذات، لا تتم فقط بدراسة الموروث التربوي، فقبل ذلك لابد من الدراسة الجيدة لثوابت الإسلام المتمثلة في كل من القرآن الكريم والسنة النبوية.
لقد حدث مرة أن قدمت مقترحا بإنشاء برنامج للدراسات العليا يعنى بدراسة التربية الإسلامية، فإذا بوجهة نظر تقليدية تقف عقبة أمام تنفيذ هـذا، بأننا لو نفذنا هـذا لتقدم آخرون باقتراح أن يكون هـناك برنامج آخر للتربية القبطية! وعلى الرغم من أننا بصفة شخصية لا نرى مانعا ولا خطورة من ذلك، لكننا نلفت الانتباه إلى كلية الحقوق -مثلا- فهي توجب على من يتخرج منها دراسة الشريعة الإسلامية؛ لأن الكثير من القوانين في مصر مستنبطة منها، وكذلك يدرس طلاب الفلسفة في كليات الآداب الفلسفة الإسلامية، وطلاب التاريخ –مسلمين ومسيحيين- في كليات الآداب وفي كليات التربية يدرسون التاريخ الإسلامي، فلم لا يدرس طلاب التربية تلك التربية المستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ونحن نعد المعلم ليعلم أبناءنا الذين يعيشون ثقافة، الكثير من عناصرها يستند إلى الحضارة الإسلامية، بثوابتها ومتغيراتها؟ [ ص: 118 ]
5- إن ما نود التأكيد عليه هـنا هـو أن التربية الإسلامية إزاء هـذا الموج الزاخر المتلاطم من اتجاهات الفكر، والذي يتزايد كلما صعدنا في مدارج التقدم والرقي، يستحيل أن تربي أبناءها على مخاصمة (الآخر) باعتبارها وحدها هـي التي تمثل الحق، ومن ثم فلابد أن يكون هـذا (الآخر) مجانبا للحق، ذلك أن هـذا (الآخر) يعتقد الشيء نفسه، أنه على حق، ومن ثم نكون نحن الذين قد انحرفنا عن هـذا الحق، ومع ذلك فإن هـذا لا يوجب إقامة الأسوار بين عقول أبنائنا وعقول الآخرين.
إن أهمية الحوار مع (الآخر) هـنا ضرورة من وجهين: الأول، أن الحوار معه يتيح لنا أن نعرفه بما نملك من فكر واتجاهات، ومن ثـم، فمن يدري؟ ألا يحتمل أن يقتنع بما نقول فنكسب واحدا، ويخسر (الآخر) هـذا الواحد؟
والوجه الثاني: أن الحوار مع (الآخر) ينبهنا في كثير من الأحيان إلى جوانب ربما لم نتنبه إليها، وتاريخ الفكر الإسلامي زاخر بالأمثلة على هـذا، وكيف أدى الحوار مع (الآخر) إلى أن يستعين فلاسفة المسلمين بالزاد الفلسفي الذي وجدوه في تراث اليونان ليطرقوا مجالات لم تكن مطروقة، ويصطنعوا أساليب لم تكن معروفة.
إن بعضنا يتخوف ويقول: إننا إذا أتحنا هـذا لأبنائنا فلربما أغواهم هـذا (الآخر) فتتزعزع معتقداتهم، وقد يصل الأمر بهم إلى أن يخرجوا عن الملة ويرتموا -كلية- في أحضان (الآخر) .
والرد على ذلك أننا نكون عادة في موقف يماثل المواقف الحربية، لابد من خسائر، لكن الانتصار عادة ما يعوض المنتصر بالكثير. هـذا جانب، [ ص: 119 ] ومن جانب آخر فإن هـذا التخوف من شأنه أن يدفعنا إلى المزيد من حسن وعمق التعلم الإسلامي، فهذا هـو سبيل أساس لرفع القدرات الفكرية على المنازلة العقلية لنخرج منها كاسبين لا خاسرين.
والحوار مع (الآخر) يقتضي الاستناد إلى الأدلة العقلية والبراهين المنطقية، وما نص عليه القرآن الكريم من «الجدال بالتي هـي أحسن»، فالجدال الحسن هـو ذلك الجدال الذي لا ينتج انفعالا وعصبية، وهو الذي يعف في استخدام ألفاظ التخاطب، وهو الذي يعي أن استخدام الأدلة النقلية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، إن كان ضروريا في مخاطبة من يقفون معنا على الأرضية العقيدية نفسها، إلا أنها قد لا تكون مناسبة ونحن نخاطب من لا يتفقون معنا على هـذه الأرضية، إلا إذا كان هـذا من أجل بيان ما تتضمنه من اتساق وعقلانية ومنطقية.
ومما يدخل في الجدال بالتي هـي أحسن أيضا الوعي بالحدود الواجبة بين (الذات) و (الموضوع) ، فهناك عدد غير قليل يترك الجوانب الأساسية في القضية موضوع «الخطاب» أو الحوار والنقاش، لينحرف إلى التجريح الشخصي، بذكر بعض الأحداث الشخصية (للآخر) أو العيوب.
6- كذلك، فإننا إذا كنا قد ألححنا على ضرورة النظر النقدي في التعامل مع الموروث التربوي، فنحن هـنا نلح على هـذا النظر النقدي أكثر، ذلك أننا من غير شك نقر بأن المنجزات الحضارية للعقل الغربي مذهلة، وبعضها تجاوز الأحلام والتوقعات، وهذا في حد ذاته من شأنه أن يملأ [ ص: 120 ] الكثيرين بمشاعر انبهار وإعجاب يفقدها الثقة بالنفس، وضعف الإيمان بإمكان أن يتمكن العقل المسلم من المشاركة في الإنتاج الحضاري المعاصر، وربما يقع عدد غير قليل في حالة من الانهزام النفسي، والذي يؤدي بالضرورة إلى حالة اتباع وانسياق وراء كل ما هـو غربي من غير إخضاعه لمحك الفحص والاختبار.
والنظر النقدي هـنا لا يلزم فقط هـؤلاء المنبهرين بما ينتجه العقل الغربي، بل هـو يلزم كذلك هـؤلاء الرافضين له، وهم كثر بين ظهرانينا، ويخلطون بين حالة الاستياء والكراهية التي تبذرها بعض سياسات القوى المهيمنة، في حربها وإضرارها بالمصالح الإسلامية بحجج وذرائع متهافتة.. إن الرفض لا ينبغي أن يتأتى إلا بعد عمليات دراسة، وبحث، وتأمل، وفحص واختبار ونقد.
7- ومخاطبة (الآخر) تقتضي أن يكون المرء على قدر من المرونة بحيث يصبح مستعدا للاعتراف بأن رأيا له كان قد اعتقد في صحته، خطأ بناء على الأدلة والبراهين التي سمعها في حواره مع (الآخر) فيتنازل عنه، أو يعدل فيه، أو يضيف إليه.
وأمر مثل هـذا له محاذيره بطبيعة الحال، فالمرونة لا تعني بأي حال من الأحوال عدم التحدد وسرعة الميل والاتجاه عند أول معارضة، وإنما تعني دقة الحساب، وشدة اليقظة، وقدرا غير قليل من سعة الصدر والتفتح العقلي، والقدرة النافذة إلى ما وراء «الخطاب».
والوجه الآخر لما قد يكون من « ميوعة» وعدم تحدد، وسرعة الانقياد والاعتراف بالهزيمة، هـو ما يكون عليه بعضهم من «تصلب» يختلط عند أصحابه بما يسمى الثبات على المبدأ، والثقة بالذات. [ ص: 121 ]
ويحضرنا بهذه المناسبة ما نقل عن أبي حنيفة ، رحمه الله، من قوله: علمنا هـذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب. ويرد عندما يسأله أحد تلاميذه: أهذا الذي تعني به هـو الحق الذي لا شك فيه؟ بقوله: الله أدرى، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه!
ويرتفع صوت علم آخر من علماء الأمة الفقهاء ليقول: رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
8 - ويترتب على هـذا ألا نغلق أعيننا ونصم آذاننا عن كل ما ينتجه (الآخر) التربوي، من منطلق اعتقاد بأنه ما دام غير مسلم، فما رآه ووصل إليه لابد وأن يكون مغايرا ومناقضا لما جاء به الإسلام ومفكرو التربية المسلمون، ومن يفعل هـذا ينسى كيف أن رسول الله، في خطوات الدعوة الإسلامية الأولى، وفي غزوة بدر قد أتاح الفرصة لأن يتعلم بعض المسلمين القراءة والكتابة على أيدي أسرى من كفار قريش ! والحكمة الإسلامية التي عبر عنها رسول الله أصبحت مشهورة وتجري مجرى المثل العام، حيث تقضي بأن ( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق بها ) (أخرجه ابن ماجه ) !
ومن هـنا فلا جناح على أحد أن يقرأ ويفيد مما كتبه فلاسفة تربية غربيون، أثروا الفكر التربوي بالفعل بالكثير من الثمرات المتميزة، على مر التطور الحضاري عبر العصور.
9- وهناك مقولة مشهورة تجري على ألسنة كثير من الناس، لابد أن تكون جوهر قاعدة مهمة في التعامل مع (الآخر) ألا وهي: «الاختلاف في [ ص: 122 ] الرأي لا يفسد للود قضية»، والامتثال لهذه المقولة لا يتأتى إلا بالقدر الذي يملك فيه الإيمان بكثير من النقاط السابقة قلب المحاور أو صاحب «الخطاب»، وعقله ووجدانه، فإذا سلمنا بأن الاختلاف في الرأي سنة إلهية في طبيعة الإنسان، أيا كان الزمان وأيا كان المكان، وأن اختلاف أبعاد الزمان والمكان من شأنها أن تنعكس في اختلاف في المواقف والاتجاهات، وما دام المرء على وعي كاف بذاته، وبما عليه (الآخر) من مقومات وعناصر وتكوين، تكون النتيجة الطبيعية عند انتهاء المواقف الحوارية والخطابية باستمرار مساحة غير قليلة من الاختلاف، ألا يؤدي هـذا إلى المخاصمة والمقاطعة، والتي قد تدفع إلى اسـتخدام العنف، الذي هـو إشـهار إفلاس فكري في مثل هـذه المواقف، وصدق سبحانه وتعالى في قوله مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) (آل عمران:159) .
ولابد من الاعتراف بأن كثيرا من هـذه القـواعد والأصـول والمبادئ لا نحتاج إليها في التعامل مع ( الآخر) فقط، بل إن الخطوة المهمة حقا أن يتعامل بعضنا مع بعض، أبناء الإسلام بها، ذلك أن تأملها جيدا يشير علينا إلى أننا نفتقدها في هـذا المجال، ولو أننا نمارسها حق الممارسة لانعكس هـذا غالبا على التعامل مع (الآخر) . [ ص: 123 ]