تمهيد
عرف الاتصال منذ بدء الخليقة، ومنذ اللحظة التي بدأ يطرح فيها الإنسان على نفسه سؤال الحياة، حتى لقد غدا مفهوم الحياة منظومة من الصلات والروابط والعلاقات المشتركة بين الإنسان والإنسان.
وتدرجت أساليب الاتصال وفق نظام الحياة وتجدد حاجات المجتمع، فبدأت بالإشارة والإيماءة والرسم على الرمل وتلوين الأصوات المجردة حسب طبيعة الموقف، إلى النقش على الحجارة والصخور والكتابة عليها وعلى ورق البردي والعظام، إلى أن عرف الإنسـان الكتابة بالحروف وحولها إلى رمـوز صـوتية تعـبر عن مقصوده، فكانت اللغة المشتركة أبرز وسيلة من وسائل التواصل والتفاهم بين الناس.
ونطق الأصوات سابق لكتابتها؛ لأنه فطري، في حين أن الكتابة مكتسبة. فأصبح الكلام وساطة ناجحة بين البشر يتفاهمون به، ويعززون علاقاتهم المتبادلة، ويبلغون المراد به.
لقد أصبح التكلم رسالة والمتكلم مرسلا والمستمع مستقبلا، ثم انبثقت عن أساليب التكلم أشكال ومفاهيم تلقائية فرضتها ضرورة [ ص: 33 ] الاتصال وطبيعته، فنشأ الحوار والمحادثة والمناظرة والمحاضرة والندوة والجدل والنقاش وغير ذلك من المسميات الاتصالية القديمة والحديثة، وظل التكلم عماد هـذه المفاهيم، وظلت اللغة وسيلة التفاهم الأولى وخير وعاء ناقل للفكر. وبمقدار تمكن الإنسان من فنون اللغة يستطيع أن يصل بمستوى تعبيره الكلامي والكتابي إلى أفضل درجات الفصاحة والإبانة والتأثير.
وتقتضي سنة الحياة وتحولات المجتمع الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تطوير أدوات الاتصال البشري بما يخدم المنافع الإنسانية العامة، وبما يتلاءم ومستجدات المراحل والمنعطفات التاريخية في المجتمع الواحد أو المجتمعات المتعددة. وما هـذه النقلة العالمية السريعة في مجال الاتصالات إلا نتيجة طبيعية للمسار الحضاري العلمي المتسارع، فكادت نظرية البقاء للأصلح تغيب لتحل محلها نظرية البقاء للأسرع، فالتقدم التكنولوجي الهائل في ميدان الاتصال، والانفجار المعرفي الواسع في تقنية المعلومات ، وتشابك العلاقات الاقتصادية، تحديات عصرية جعلت الشعوب، ولا سيما دول العالم الثالث، مستفزة ومحرجة أمام مواكبة متطلبات العصر، وعليها أن تنهض لترى مايجري حولها، وإلا التهمها طوفان العولمة ، وباتت سمكا صغيرا سائغا للحيتان. [ ص: 34 ]
فمجاراة تكنولوجيا الاتصالات وأساليبها الحديثة بدا عند الشعوب نوعا من الدفاع عن النفس وعن الكيان وعن الحياة. فكان لا بد من أن تعيد الشعوب النظر إلى مقدراتها وإرثها التاريخي والحضاري والعلمي والفكري والديني، لتطويع هـذه المقدرات لصالح انسجامها مع نبض العصر وبقائها قوية.
على أن وسائل الاتصال التكنولوجي على أهميتها ليست بأخطر وأهم من وسائل الاتصال الفكري، لأن فكر الأمة أساس خصوصيتها وكينونتها، فإذا تنازلت الأمة عن شخصيتها الحضارية العريقة ضعفت وتناوشتها الأمم الأخرى، وباتت عرضة للحياة على ذمة الموت.
لذلك بقي أسلوب الحوار حيا وفاعلا في كل المنعطفات والتحولات العالمية؛ لأنه الوسيلة الأنجح للتفاهم والوصول إلى صيغ متفق عليها من الحلول المشتركة المرضية للطرفين المتحاورين.
لقد فكرت في تأليف هـذا الكتاب في المدة التي كنت أدرس فيها مادة مهارات الاتصال بالعربية في الجامعة الأردنية؛ إذ رأيت أغلب الطلاب العرب فقيرين إلى استخدام مهارات الاتصال الأربع (التحدث، والقراءة، والاستماع، والكتابة) بلغة عربية فصيحة ميسرة، ثم هـالني الأمر عندما تأملت حال الإنسان العربي عامة في ضعفه الجلي بفنون الاتصال (بالآخر) ، فهو إما منكر مخاصم لكل منجز غربي نافع [ ص: 35 ] وغير نافع وإما منساق بسهو أعمى وراء المنتج الأجنبي غافلا عن الموروث الثقافي والديني والحضاري وخصوصية أمته.
ومع بروز أهمية الحوار الحضاري بين الشعوب على سائر أنماطه، الديني والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، تضاعفت حاجة الأمة إلى إعادة النظر في التربية الاتصالية وتطويرها لما لها من أهمية بالغة في تنمية شخصية الفرد وشخصية المجتمع وإعداد الأمة كلها للحياة الكريمة، عبر إتقان مهارات الاتصال ولا سيما التحدث والحوار والتفاوض والتخاطب والجدل.
لذلك حرصت في هـذا الكتاب على توضيح فلسفة مهارات الاتصال بأركانه وأبعاده وعلاقته بجماليات اللغة العربية، ثم خصصت منظومة من الرؤى للكشف عن الاتصال في الفكر العربي والإسلامي، إذ إن مذخور الأمة منه لجدير بالتأمل والإفادة، ثم اجتهدت في تبيان أدبيات الاتصال في كل مهارة منه مع تفصيل غني لمظاهر الحوار والتحدث، وختمت الكتاب بمقترحات وتوصيات من شأنها أن تعد الفرد للتصالح مع نفسه ومع أسرته ومجتمعه وبلده وحياته بعامة.
أدعو العلي القدير أن يكون في اجتهادي هـذا ماينفع الأمة ويقويها أمام تحديات العصر، ويعيدها خير أمة أخرجت للناس.
والله من وراء القصد. [ ص: 36 ]