السيرة النبوية في كتب الأطفال
نتناول في هـذا الباب بعض الأخبار الواردة في كتب الأطفال عن السيرة النبوية
1- ذكرت تفصيلات تبين إرهاصات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل ولادته، فمن ذلك أن جده عبد المطلب رأى رؤية كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة من أرواقها نور؛ وأن نورا كان على وجه أبيه عبد الله قد فارقه عندما تزوج بآمنة؛ وأنه عند ولادته ولد مسرورا مختونا وقع من بطن أمه ساجدا؛ وأن نساء رأين نورا ينبعث من آمنة يملأ أطراف الأرض، وأن إيوان كسرى قد اضطرب وتهدمت شرفاته وخبت النار فيه [1] . هـذه روايات ضعيفة لا تستند إلى الأخبار الصحيحة، هـدفها إضفاء هـالة من الأعاجيب والمعجزات الخاصة برسالة النبي صلى الله عليه وسلم قبل وأثناء ولادته، وهي تصرف المرء عن الأخبار الصحيحة [2] . [ ص: 80 ] 2- من أخبار طفـولته أنه مرض مرتين: في المرة الأولى عندما كان رضـيعا لم يتجاوز الأسـبوع الأول من عمره، وفي الأخرى عندما تجاوز أعوامه الثلاثة بسبب أن التغذية لم تكن كافية في ديار بني سعد وبسبب الحر الشديد أو البرد [3] . وهنا إغفال عجيب لحادثة شق الصدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طفل في ديار بني سعد، وهي ثابتة الوقوع قد أوردها الإمام مسلم، رحمـه الله [4] . هـذا الإغفال للحادثة هـو اتباع لخطى من لا يطمئن إليها، ما دام مستشرقون يفعلون هـذا فمنهجهم علمي على حد زعمهم يسقط أمر الغيبيات من السيرة؛ لأنه يعصم من الزلل كما يدعون، لذلك تعتبر الحادثة في نظرهم مجرد نوبة عصبية أصابت النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وهو طفل [5] .
ما أثر إنكار هـذه المعجزة على أولاد الأمة ؟ ما أثر اعتقادهم بمرضه وهو طفل؟ إنهم سيتقبلون فيما بعد الخبر المدسوس عن إصابته صلى الله عليه وسلم وهو [ ص: 81 ] طفل بنوبة عصبية، وقد لا يترددون في تصديق استنتاج أكثر خبثا ردده مستشرقون من أمثال موير وواط ونيكلسون يفيد أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام كان مصابا بالصرع [6] ، أو أن هـذه الحادثة إنما هـي أمر باطني وأسطوري ذو مغزى فلسفي يتصل بالخطيئة الأولى [7] .
إن تغييب الحادثة يعني تغييب الحكمة منها، فإنها كانت في طفولته عليه أفضل الصلاة والسلام لتنقي قلبه من مغمز الشيطان وليطهر من كل خلق ذميم، فلا يكون في قلبه إلا التوحيد[8] .
والغريب في هـذا كله أن تذكر الأخبار الضعيفة الواهية المتعلقة بإرهاصات نبوته قبل وأثناء مولده، وتترك الأخبار الصحيحة الثابتة.
3- من أخبار صباه وشبابه قبل البعثة أنه كان كثير التأمل في الكون والدنيا وفي السؤال عن الخالق وفي أمور الناس الفاسدة من حوله؛ وكان يسمع في رحلاته عن أناس يعبدون النار أو الأصنام؛ كذلك سمع من الراهب بحيرا حديثا طويلا عن أهله وقومه ومعتقداتهم، وأنه نصراني على [ ص: 82 ] دين المسيح عليه السلام؛ كما قابله الراهب نسطور وحاوره عن أديان قومه وعرف أنه على دين عيسى عليه السلام؛ كذلك قابل بعض الروم، وعرف الكثير عنهم وعن ملتهم النصرانية؛ وسمع عليه الصلاة والسلام أخبارا عن مدين ووادي القرى وديار ثمود أثناء رحلاته في التجارة، ونتيجة هـذا كله راح يهيء نفسه لتلقي أمر عظيم [9] .
نجد هـنا كيف تختلط الأخبار الغريبة، التي لم تذكر في مرويات السيرة، بخبر عن مقابلة النبي ( لراهب أثناء رحلته مع عمه في تجارة إلى الشام [10] ، غير أن الكتب لم تعتمد على تفصيلات الخبر الصحيح هـذا، وإنما أخذت من المرويات الضعيفة بتفصيلاتها الواهية [11] مما يعني تأثره عليه أفضل الصـلاة والسلام، بما أخبره به الراهب بحيرا والراهب نسـطور [ ص: 83 ] ومما سمع من بعض الروم عن النصرانية، وبذلك يكون ما جاء به إنما هـو لون جديد من النصرانية متأثرا بكل ما سمع، وأن تحنثه قبل البعثة ما كان إلا تقليدا لما رأى من زهاد النصارى، فمنهم أخذ تعاليمه في ترك الأصنام، كما يزعم المسـتشرقون [12] ، فنبوته والحال هـذه إنما هـي أمر باطني داخلي لا علاقة له بالوحي.
أما سماعه أخبار الأمم الغابرة وقصصهم فهو مما دس المستشرقون [13] ، وعنهم نقل بعـض الكتاب [14] ، والمجازفة الخطـيرة في إيراده تقود إلى أن ما ورد عن قصص الأولين في القرآن الكريم إنما كان ما أخذه الرسول ( وهو فتى، ولم يكن وحيا يوحى إليه، وتفند الآية القرآنية:
( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل ) (هود:49)
هـذا الدس الباطل [15] . [ ص: 84 ] 4- ذكر في بعض الكتب أن جبريل عليه السلام جاء النبي ( وهو نائم في ابتداء الوحي [16] . هـذه مغالطة خطيرة تستند إلى خبر ضعيف [17] ، وفي الصحيح أن الوحي أتاه في اليقظة [18] ، والمغالطة بدورها تفضي إلى تعزيز افتراء يقول: إن ما جاء به النبي عليه أفضل الصلاة والسلام إنما هـو أمر نابع من نفسه وعقله، وهذا بدوره يؤدي إلى فرية أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها، وهي أنه كان يستدعي الوحي من داخله بعد أن هـيأ نفسه لذلك [19] .
ويهمنا في هـذا الأمر رد فعل أولاد الأمة عندما يقرأون كلاما مثل هـذا عن تلقي الوحي، ثم هـم يتعرضون لمفتريات المستشرقين في شأن التراث كله على وجه العموم، وفي أمر السيرة النبوية على وجه الخصوص، فيتقبلون هـذا وذاك وقد تهيأوا لذلك في معزل عن التحصين الفكري والثقافي المرجو. [ ص: 85 ] 5- ورد أنه عليه الصلاة والسلام حاول أن يتردى من رءوس شواهق الجبل عندما فتر الوحي فترة، وقد جاء النص في كتاب موجه للأولاد صريحا : «حينما هـم محمد صلى الله عليه وسلم [20] بالانتحار» [21] . هـذا كلام يظهر جهلا في التفريق بين الحديث الموصول والحديث المرسل الذي جاء فيه عرضا كحديث عائشة رضي الله عنها هـذا، الذي جاءت في آخره الزيادة المرسلة [22] ، وهي زيادة مـنكرة من حيث المعنى، فإنه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم المعصوم أن يحاول قتل نفسه بالتردي من الجبل مهما كان الدافع لذلك [23] ، وهو القائل عليه أفضل الصلاة والسلام : « من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا» [24] .
إن هـذا كلام يظهر الجهل في التفريق بين الأخبار الصحيحة والزيادات المنكرة فيها، هـذا إذا كان الكتاب في الأصل قد اعتمدوا على الأخبار الصحيحة الواردة عند البخاري، رحمه الله، على سبيل المثال، في مجال السيرة، فالنقل يتم دون تمحيص أو تدقيق، فتؤخذ نتف من هـنا [ ص: 86 ] ونتف من هـناك مع الاهتمام بالأخذ من مفتريات المستشرقين إما جهلا وإما عمدا، والطامة الكبرى أن يقرأ أولاد الأمة هـذا.
6- ذكر أن الشيطان قد ألقى في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى لسانه عبارتين أضافهما الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، بطريقة لا شعورية إلى آيتين من سـورة النجم [25] ، وهذه قصة الغرانيق. لقد تعددت روايات القصة، وليس فيها ما يصلح للاحتجاج فيه، لا سيما في مثل هـذا الأمر الخطير، فهي باطلـة سـندا ومتنا لأنها مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة [26] ، كما أنه يصطـدم مع عصمة النبوة في قضية الوحي ويعارض التوحيد وهو أصل العقيدة الإسلامية [27] . أما تصـحيح بعض المستشرقين لها [28] فلأن هـذا مما يوافق أهواءهم في هـجومهم على الإسلام وبيان الثغرات الخطيرة فيه [29] .
ذلك ما كان من شأن بعض مما ورد في كتب الأطفال عن السيرة النبوية والرد عليه بشيء من الإيجاز. [ ص: 87 ]
خلاصة
إن تأمل ما يكتب عن السيرة النبوية لأولاد الأمة، وقد رأينا نماذج منه، يقود إلى موضوع الطرح من جهة والتوجه إليهم من جهة أخرى. فأما الطرح فقد أشرنا إليه في موضع سابق حيث إن المادة المقدمة تميل بصورة عامة إلى تقليد يعتمد على تسلسل حوادث السيرة اعتمادا كبيرا، فالسيرة في أدب الأطفال تكاد لا تخرج عن إطار مرويات تحتشد بأخبار يحرص مدونوها على أن تكون طريفة وظريفة، وكأن المسألة هـنا هـي سرد حكايات مشوقة زاخرة بالغريب من الأخبار، أما الأخبار الضعيفة فحدث عنها دون حرج، وبذلك تبقى السيرة حبيسة قمقم التكرار. ولأن مسألة الشكل في أدب الأطفال لها أهميتها من حيث الأسلوب والعرض، فإنها تصبح هـي المقدمة على قضية المضمون، فالتشويق المتضمن في المادة لابد أن تكون له الأولوية، وعليه تستبعد المروية الصحيحة وتقدم عليها الضعيفة أو الواهنة بحجة أن الأخرى تحمل في طياتها عناصر الجذب للأطفال، هـذا إذا كان أمر التمييز بين الصحيح والضعيف من الروايات قائما في الأصل. فنحن إذا أمام مسألة خطيرة قد جعلت من السيرة برمتها حكايات تكتب وتروى كما تكتب وتروى الحكايات الشعبية، وهكذا تفقد السيرة قيمتها الحقيقية في أدب الأطفال. [ ص: 88 ] وهنا أمر على غـاية من الأهمـية يتمثل في حشد لا بأس به من أخبار مدسوسـة وملفقة تدخل في باب الغزو الفكري، وقد جند له (الآخر) طاقـات من الخارج والداخـل حتى تكون الإصابة في مقتل، فلا مانع من أن يذكر في معرض السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أصيب وهو صغير بمرض، فيتلقى الأولاد هـذا الخبر على أنه من الأخبار الصحيحة، ثم يأتي خـبر مدسوس يفيد أنه كان مريضا بالصـرع، فيتقبلوه قبولا حسـنا دون شك أو ريبة، وبذلك يتم التشـكيك في أمر الوحي بأكمـله وهم يرضعون من لبان عقل (الآخر) المشبع بالمادية، المغرر بالمنهج العلمي [30] .
ولا مانع من أن يذكر في ثنايا السيرة أنه عليه أفضل الصلاة والسلام، قد استمع إلى أخبار الأمم الماضية أثناء جولاته، ليكون هـذا الخبر الباطل دسا خبيثا يقبله الأولاد ويبقى في عقولهم ونفوسهم عندما يواجهون من الداخل والخارج بحملة شرسة مفادها أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من الوحـي، وإنما كان مما سمعـه من حوله، وقد لا يترددون في قبول أن القرآن الكريم كله من تأليف النبي عليه أفضل الصلا والسلام، كما يزعم مستشرقون، وأنه مما لفقه من كتب اليهود والنصارى. فلا يكتفى بتعطيل الكبار وتحجيم طاقاتهم وعزماتهم لخدمة [ ص: 89 ] الإسلام، بل تطال الإصابات الأولاد، ويتم التشكيك بالقرآن الكريم في محاولات خبيثة لزعزعة أركان الإسلام، وبذلك يقضى على حاضر الأمة ومستقبلها معا.
وأما التوجه والرؤية والمنهج في تقديم السيرة فهي تعتمد كذلك على جملة أمور تجعل من السيرة قصة عظيم من العظماء قد مضت أخباره، ولكن تبقى ذكراه تنشد في الموالد، فتغيب الرؤية الصحيحة، ويترتب على ذلك إسقاط السيرة كمنهج متكامل في التغيير والتحويل الثقافي وحسن التعامل مع (الآخر) وامتلاك القدرة على إيجاد النماذج القادرة على حمل أمانة الاستخلاف والعمران [31] . وقد يقول قائل: إن هـذا كلام أكبر بكثير من أن يدركه الأولاد على اختلاف مراحلهم العمرية، فهم على حد قوله غير قادرين على استيعاب المنهج وإدراك قيمته وأبعاده وتطبيقه في الحياة، ونرد عليه بالقول: إن كثيرا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم كانوا صغارا، وقد تمكنوا بعون الله وفضل من استيعاب معطيات السيرة وهم يعيشونها قولا وعملا، وتحقق بأيديهم بقاء دولة الإسلام كما أرسى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام دعائمها ورفع بنيانها، لقد وجدوا القدوة الحسنة في الرسول صلى الله عليه وسلم ، واتبعوه [ ص: 90 ] كما عملوا بدعوته وأعملوا عقولهم وقلوبهم واجتهدوا وبذلوا الغالي لنصرة الله. فهل يجد أولاد الأمة اليوم في الرسول قدوة حسنة؟ وهل يرون في الكبار ما يعينهم على تفهم هـذا واستيعابه قولا وفعلا ؟ هـل يدرك الأولاد معنى القدوة الحسنة وهم ينتزعون من قيمهم ويلقون في ساحات (الآخر) الفكرية والثقافية؟
إن القضية المهمة في الأمر هـي الوقوف والتأمل في السيرة والتبصر بمراحلها، وإدراك ما وضع الله عز وجل فيها من منهج الحركة حتى التمكن في الأرض وتحقيق مهمة الاستخلاف الإنساني والعمراني والبشري في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة [32] ، فهي سيرة تحتوي على جميع مراحل المجتمع القدوة [33] . والمطلوب هـو استيعاب هـذه المراحل وموازنتها بواقع الأمة، ابتداء من مرحلة الاستضعاف والاحتفاظ بالإيمان في القلب حتى تتوفر الإمكانات وتتهيأ الشروط لمرحلة التمكين في الأرض والدفاع عن قيم الإنسان [34] ، فينشأ مجتمع العدل والإحسان وإعطاء كل ذي حق حقه، وهو المجتمع المنفتح على (الآخر) يتعامل معه بالعدل دون ظلم أو تعد، في إطار الشرع الحنيف. [ ص: 91 ] إن ما يهمنا في تقديم السيرة لأولاد الأمة بيان قدرة المسلمين على بناء حضارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، وما يحمل هـذا كله من خير للعالمين، وليس للمسلمين وحدهم، هـذا التبصر والفهم والإدراك يتطلب عزمات رجال أقوياء صابرين مجاهدين بالكلمة والقلم والفعل يتوجهون لأولاد الأمة بكل ما أوتوا من قوة، منطلقين من نواياهم الخالصة لله وحده، فيكبر الأولاد وهم مؤهلون للقيام بدورهم في التغيير والبناء الحضاري، متبصرين بالسيرة، فالسيرة محل اقتداء، والرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة،
مصداقا لقوله عز وجل : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21) . [ ص: 92 ]