النموذج السابع
تسيء كتب الأطفال لدولة المماليك والدولة العثمانية إساءة تثير الدهشة والعجب، فالمماليك في تلك الكتب عبيد انتزعوا الملك من سادتهم العرب، وأسسوا دولتهم بالخيانة، يستبيحون كل شيء حماية لعروشهم وحفاظا على الثروة الحرام، لا يخلصون لعهد، قد أذاقوا العرب العذاب بوحشيتهم وشرورهم [1] ، وسلاطين الدولة العثمانية قتلة يشقون طريقهم إلى العرش سـابحين في بحر دماء آل عثمان ، لا يحترمون المودة ولا صلة الدم، يمارسون الظلم والفساد، هـمهم كتم أنفاس الناس وجمع أموالهم، عصرهم من أحلك العصور وأشدها طغيانا واستبدادا وفسادا، بقيت بعض الديار الإسلامية تحت احتلالهم نحو خمسمائة عام فرضوا خلالها حكما قاسيا اتسم بالتخلف والجهل والفقر [2] . [ ص: 123 ] إنه تجاهل عن سبق إصرار وترصد لجهود الدولتين في الحفاظ على عقيدة الأمة وكيانها ونهوضها وظهورها وبنائها الحضاري ودرء الأخطار عنها، وإنه من غير الإنصاف أن تؤخذ هـذه الإنجازات التي استغرقت نحو سبعة قرون بجريرة فترات ضعف نتيجة ابتعاد عن الحق، فتكون تلك السقطات تجسيدا للدولتين وإلغاء لدورهما الفاعل والمؤثر في ديار الإسلام، وما ذاك إلا بسبب رؤية ضيقة وإقليمية محصورة، فدعاة العنصرية يرون المماليك والعثمانيين أجانب دخلاء خارج إطار العقيدة التي تربط الأخوة فيها بوشـائج المحبة والتعـاون والرحمـة والـولاء.
واتفاقا مع هـذا التوجه الظالم لمجريات التاريخ الإسـلامي، اعتبرت الحملة الفرنسية حركة تنوير في بعض ديار الإسـلام، فقد رفعت شعـارات الحرية والإخاء والمساواة، وعملت على هـدم جدار العزلة والتخـلف فيها [3] ، والغرض من هـذا الكلام واضـح، وهو يتفق مع محـاولات (الآخر) ليس فقط لإسقاط الخلافة الإسلامية، وإنما لإلغاء الإسلام من حياة المسلمين للقضاء عليه. [ ص: 124 ]
كلمة
في الحديث عن التاريخ الإسلامي وأولاد الأمة تبرز مسئولية الكتاب الجسيمة في الكتابة في هـذا الميدان الفكري الواسع، فمما لا شك فيه أن المادة التاريخية تشكل محور اهتمام الكتاب، وهي في حد ذاتها تمثل إشكالية لا بد من مواجهتها. فعندما يشرع الكتاب في الكتابة تعترضهم مواقف وحوادث لا حصر لها تتطلب حيطة وتأملا، وهذا من الواجب أن يدفعهم إلى الحذر، وهو حذر واجب كل الوجوب بسبب طبيعة المتلقي وبسبب طبيعة المادة التاريخية0وفي الحالين فإن الأمر يتصل بأداء الأمانة على أكمل وجه حتى تصل سليمة صحيحة تفعل فعلها المطلوب في التأثير من أجل إنهاض الهمم في البناء والحركة الصحيحة للمشاركة في التاريخ، فأولاد الأمة لن يبقوا أطفالا طوال عمرهم، وهم في نمو وتحول، وينبغي أن تكون البذرة صحيحة سليمة في تربة خيرة حتى تكون الثمرة طيبة، وأداء الأمانة كذلك يكون للتاريخ الإسلامي نفسه، حتى يصل إلى المتلقي من نبعه الصافي دون أن يكدره كدر.
إن كتب الأولاد عن التاريخ الإسلامي، وهي تحمل جوانب خير عديدة، تضم كذلك مغالطات كثيرة ومفتريات من شأنها أن تترك أثرها السلبي على الأولاد، وإن ضعف اتصالهم بتاريخهم إنما هـو بداية ابتعادهم [ ص: 125 ] عن دينهم، لأن التاريخ الإسلامي هـو تطبيق عملي عبر القرون لهذا الدين وما يحمل من قيم تنـزل على أرض الواقع وتفعل فعلها في التغيير.
وفي كتابة التاريخ الإسلامي لأولادنا تعترضنا مسألة مهمة أخرى، وهي مسألة السقطات في تاريخنا، والصفحات المشرقة التي تكدرت بفعل خروج الإنسان عن الحق، وهذا أمر طبيـعي، فالمسلمون ليسوا ملائكة ولا معصومين، تجري عليهم السنن التي تجري على البشر في السقوط والزلل والأخطاء والهفوات، وهذه مدونة في كتب مؤرخينا، فإنهم وقد أدركوا حقيقة الإنسـان لم يغفـلوا عن ذكرها، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا لبيان واقع الحال وللأمانة العلمية، وكانوا يدركون أن هـذا إنما سنن، فكلما كانـت الأمة أقرب إلى خالقها انتصرت في شتى مناحي الحياة، وكلما ابتعـدت عن خالقها كانت الهزائم والضعف والتخاذل والاختلاف والفرقة.
ومن هـذا المبدأ لا نقدر أن نغض الطرف عن السقطات والأخطاء ومواقع الزلل في تاريخنا. إننا نقرأ هـذه السقطات ونقف عندها ونحرص على بيان ما تشتمل من عبر ودروس [4] ، ونقدمها لأولادنا في أطر مناسبة ملائمة حتى لا نغرس فيهم قلقا وخوفا وتشكيكا بتاريخ أمتهم، بل [ ص: 126 ] ندعوهم إلى أن يقبلوا عليه إقبال الحريص على دينه وأمته، وبذلك نفوت على (الآخر) فرصة حتى لا يفترسهم بما يزين لهم من أمور، وبما يدس من سموم عن التاريخ الإسلامي في محاولة منه لانتزاعهم من جذورهم.
ولعل السؤال الذي يطرح في هـذا المقام: كيف نقدم هـذه الأخطاء لأولادنا؟ لقد عمدت كتب الأطفال إلى تضخيم الأخطاء لغايات، وإن وجود النية الخالصة لله تعالى يحصن من الزلل، فإنها دافعة للخير وفعله، تعمل على غرس القيم الإسلامية في نفوس الناشئة، كما تهتم ببذر بذور التقدير لتاريخ الأمة في قلوبهم، فيكون له نصيب وافر من اهتمامهم، يقرأونه بتدبر وتأمل، ويكتشفون فيه الفعل الذي يعينهم على ارتياد المستقبل، بل يدفعهم إلى إعادة كتابته وفق الأصول ضمن خطة شاملة تنهض لها نخبة الأمة الواعية، حتى لا يصبح فريسة (للآخر) من الخارج، وحتى لا يكون مطية لأقلام جاهلة من الداخل تعبث فيه وفق الأهواء. وبذلك يرتبط الأولاد ارتباطا وثيقا بتاريخهم، ويدافعون عنه في المستقبل القريب والبعيد، بدل أن تغرس فيهم بذور الشك والطعن فيه، وبدل أن يرضعوا لبان الكراهية نحوه.
نقف هـنا عند فترات الانكسار والسقوط في تاريخنا، ونتأمل المنهج الرباني يرسم لنا طريقا واضحـة المعالم في التعـامل معها دون وجل، ولا ينفرون منه وهم يعلمون أن الأخطاء لا بد أن تذكر، ولهم في القرآن [ ص: 127 ] الكريم المثل الأعلى: ففي غزوة أحد أصيب المسلمون وابتلوا ابتلاء شديدا، وقد خالف نفر منهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم طمعا في المغنم، وكانت الهزيمة نتيجة الطمع، وكانت التوبة والاستغفار، والانتصار على النفس التي تأمر بالسوء، وكانت العبرة، فالمسلم المؤمن هـو الأعلى، وله وراثة الأرض إن اتبع ما أمره الله به [5] .
فهذا هـو مجتمع النبوة وخير القرون، يكون محلا للمناصحة والنقد والتقويم في مراحل النصر والهزيمة، ولعلها أعلى درجات التقويم والنقد لأرقى المجتمعات وأكثرها خيرية، وهو يشكل أنموذجا للمجتمعات القادمة، فإنه مجتمع غير معصوم يكون مثلا وقدوة لمجتمعات قادمة تتعرض للخطأ [6] . فلم يغيب المنهج الرباني فترات الانكسار والهزيمة والسقوط والأخطاء، عبرة للمسلمين وهم يقرأون القرآن الكريم ويتدبرون ما جاء فيه حتى تقوم الساعة. وفي هـذا المنهج الإلهي إضاءة أخرى مهمة، فإنه لم يشتم الذين أخطئوا في معركة أحد ، ولم يسبهم، بل أظهر خطأهم، وما كان لهم من توبة واستغفار بعد ذلك، وما هـذا إلا لإرشاد المسلمين إلى كيفية التعامل مع أخطائهم وكبواتهم وسقطاتهم. [ ص: 128 ] نستعرض في هـذا المقام منهج بعض الأقلام في التعامل مع السقطات التاريخية في أدب الأطفال، ونتناول ما حدث لشجرة الدر ، التي تعد من الشخصيات النسائية البارزة في التاريخ الإسلامي، وقد أثارت سيرتها الاهتمام، وما كتب عنها للأولاد: «.. وانهالت قباقيب ضرتها -مطلقة أيبك وأم ابنه- على رأسها فحطمتها.. وأمرت بإلقاء جثتها من القلعة لتسقط في خندق تحت سورها، مهشمة الرأس، شبه عارية. وانتهى أمر ذات الحجاب الجميل والستر الجليل بجثة تطير حولها الجوارح، ويعبث اللصوص بحرمتها، فيسرقون بعض ما زينت به ملابسها الداخلية من حلي، ولم يبق منها سوى أشلاء ممزقة حملوها في قفة ودفنوها..» [7] .
يبدو أسلوب العرض مؤثرا يستدر العواطف ويهز المشاعر، ولكنه خارج عن إطار تقديم التاريخ الإسلامي لأولادنا، وخارج عن الأمانة العلمية والالتزام بالحق، فلشجرة الدر فضائل كثيرة، وهو ما تجاهله النص تجاهلا تاما، وكذلك لها أخطاء، ولكن إن كان لا بد من ذكرها فلا بد من أسلوب يتناسب مع التوجه التربوي، فالتاريخ الإسلامي دروس وعبر واستقراء لفعل المستقبل، ولكن في غياب الأمانة والالتزام بقيم الأمة تخرج الأهواء من أوكارها لتضل. [ ص: 129 ] إن الأخطاء امتحان وابتلاء وتمحيص، لا نخفيها ولا نحاول أن نغض الطرف عنها، كما لا نحاول أبدا أن نداري الانحرافات ونلتمس المعاذير للتـبرير أو نخـتلق وقائع مزورة للكذب، فـإننا ونحن نكتب التـاريخ لأولادنا إنما نؤدي الأمانة، والتاريخ أمانة، فعلينا أن نتحرى الحق دون محاباة ولا ظلم [8] .
وفي الحديث عن الأخطـاء، التي لا بد ألا نتجاهلها، يتوجب علينا ألا نبالغ في ذكرها اتباعا لهوى، لا سيما أننا نكتب التاريخ لأولاد الأمة، ولنعلم أن مسـاحة تلك السقطات لا تذكر أمام إنجازات كبيرة، يقول ابن تيمية ، رحمه الله، في هـذا الشـأن: «إنه إذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم كان قليلا من كثير، وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض، وهذا من الجهل والظلم» [9] .
ذاك قول جدير بالتأمل عند قراءة التاريخ الإسلامي وكتابته، فإن قراءته تتطلب قدرة على دراسته وتقديمه بشجاعة حتى تكون عندنا رؤية لقوانين السقوط والنهوض والاهتداء والوقاية الحضارية [10] ، فإنه حركة [ ص: 130 ] المجتمع الإسلامي واستجابة المسلمين لقيم الدين وتفاعلهم معها وتجسيدها في الواقع، ودراسته تعين المسلمين على الإسهام في بناء الحاضر والمستقبل حتى يتمكنوا من مهمة الاستخلاف وفق المنهج الإلهي [11] . ومهما حلت بهم النكسات فإنهم قادرون على النهوض والتجاوز؛ لأنهم يمتلكون القيم السليمة المعصومة [12] .
فإن كانت هـناك حاجة ماسة إلى كتابة التاريخ الإسلامي للأولاد بمنهج صحيح لا زيغ فيه ولا شطط ولا مغالطـات، فإن هـناك حـاجة لا تقل إلحاحـا عن هـذا وهي الاهتمـام بالشكل أو أسلوب عرض المادة. فليس من الصواب أن تسـود صحـائف بأسلوب تقليدي يتبع نمطا واحدا من السرد يتـكرر مع مئات الكـتب. إن جمهور الأطفال واسـع، له تنوع في القـدرة على التلـقي والفهم والإدراك، فطفل الخامسـة يحتاج إلى موضـوعات ومفردات وتركيبات لغوية تختلف اخـتلافا بينا عن حاجـة طفل العاشـرة أو الخامسـة عشرة. ومن حق هـذا الطفل أن يكون بين يديه كتب تتسم بأشكال فنية متنوعة تثير عنده الاهتمام والتشويق والترغيب، فيقبل على تاريخه إقبالا حسنا، بدل أن يعرض عنه. [ ص: 131 ] إن كتابة التـاريخ الإسـلامي للأطفـال مثقلة بقيود الجهل والتعصب والتشرذم والعشـوائية ورغـبات الناشرين، وهي مكبلة كذلك بالرضـا بما هـو قائم على مستوى الشكل، فإن ضعف الرؤية تحول دون الاستفادة من تجربة (الآخر) في هـذا المجال على وجه الخصوص، ومجـال أدب الأطفـال على وجه العمـوم.
ويبدو من الغريب حقا أن نستفيد من فكر (الآخر) ونستعيره لنقدمه للكبار والصغار دون أن ندرك خطورة هـذا الفكر، في حين أننا نعرض إعراضا غريبا عن خططـه وأسـاليبه في تقديم التاريخ لأولاده، ونعني بهذا الشـكل أو الإطار الذي يحوي المضمـون، ويلاحظ في هـذا الشأن اهتمام الكتاب والمربين خـارج ديار الإسلام، لا سيما في أوروبة ، بمادة التاريخ اهتمـاما كبيرا، وهم يلجأون إلى وسائل متنوعة من شأنها أن تحبب مادة التاريخ لأطفالهم. فهناك النشاطات المسرحية والتمثيلية على اختلاف أنواعها، وهي نشاطات تشجع الأطفال على معايشة الحوادث التاريخية بكل معطياتها، فيعيشون أجواءها كأنها تدث أمامهم، ويشاركون في إعداد المناظر والملابس وكل ما يتعلق بها، ولا يقف المشرف/ المشرفة بعيدا، فإنه يتفاعل معهم ويناقشهم ويلفت أنظارهم إلى كل صغيرة وكبيرة، كما يشارك في أداء دور إحدى الشخصيات التاريخية [13] . [ ص: 132 ] وهناك المتاحف والأماكن الخاصة بالأزمنة التاريخية التي تتيح للأولاد فرص معايشتها والحديث عنها وتأمل جوانبها. ونجد كتبا وكتيبات مخصصة لهم تقوم متاحف بنشرها [14] ، كذلك الكتب التي تعتبر حجر الأساس في تعرفهم إلى التاريخ، ويدهش المرء لهذا التنافس الشديد بين دور النشر لتقديمها، كما يدهش وهو يتصفحها متأملا الجهد الكبير الذي بذله الكتاب والرسامون والمصممون ليحصلوا على صور قريبة من تلك الفترات الزمنية [15] .
ويقرأ المرء في كتب الخرائط التي تتناول الحضارات المتعاقبة على وجه الأرض، والكتب المتخصصة في إظهار مواقع تاريخية في ديار الإسـلام، لا سيما في فلسطـين ، ضمن عملية تزوير للتاريخ هـدفها إثبات حق لقوم [ ص: 133 ] لا وطن لهم، فيتكئون على التاريخ لإثبات حق مزعوم كذبا. هـكذا يستخدمون التاريخ ويستغلونه بإتقان شديد [16] .
(الآخر) لا يمـلك تاريخا مثل التـاريخ الإسـلامي، بكل أبعاده ومعطياته وقيمه الحضارية، ومع ذلك نرى كل قوم يخدمون تاريخهم ضمن جهود عظيمة، وهي جهود تسـتقطبها مؤسسات ومراكز بحث متخصصـة ودور نشر تنفـق الملايين، في حـين أننا ما زلنا في أماكننا منكفـئين على ذواتنا معجبين بأنفسـنا إلى درجة الإسـراف، لم نفكر في إنشاء ولو مؤسسـة علمـية واحدة تهتم اهتماما حقيقيا وصادقا في ثقافة أطفـال الأمة، يقودها نخبة من المتخصصين، يبذلون الخير ويؤدون الأمانة [17] . [ ص: 134 ]