المبحث الثاني: التعايش السلمي والتعاون بين الأفراد
إن التعايش مع الأديان بصفة خاصة، ضرورة من الضرورات الملحة التي يفرضها الحفاظ على سلامة الكيان الإنساني ويمليها الحرص المشترك على البقاء الحر الكريم فوق هـذا الكوكب، لهذا يعتبر التعايش ضرورة من ضرورات الحياة على هـذه الأرض، تستجيب للدواعي الملحة لقاعدة جلب المنافع ودرء المفاسد، وتلبي نداء الفطرة الإنسانية السوية للعيش في أمن وسلام وطمأنينة، حتى ينصرف الإنسان في دعة وسكينة إلى تعمير الأرض، بالمعنى الحضاري والإنساني الواسع لهذا التعمير [1] ، لذا نجد أن الإسلام قد سبق الأمم العالمية والمنظمات الدولية إلى إعلان نداء السلام العالمي الشامل بمقتضى قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) ،
وندد القرآن الكريم بالإخلال بمبادئ السلم، واعتبر ذلك نزوعا مشينا إلى الشر، وسيرا على خطوات الشيطان،
فذيل نداء الدخول في السلم العام بقوله: ( ... ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) (البقرة:208) [2] ؛ لأن السـلم هـو العلاقـة الطبيعية بين الشعوب والأمم،
قال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ... ) (الحجرات:13) ،
وفي هـذا دعوة صريحة إلى التعارف المفضي [ ص: 179 ] إلى التجمع والتساكن وتبادل المنافع والمصالح، أي إلى التعايش، في أخذ وعطاء وتأثر وتأثير دائمين.
فالإسلام يريد أن يؤكد في ضمير الناس حقيقة مهمة وهي أن كل الناس من أصل واحد، وهو آدم، عليه السلام،
قال تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ... ) (النساء:1) .
وبمقتضى وحدة هـذا الأصل كان الأولى أن تتعارف الفروع وتتعاون على أن يكون الناس إخوة في الإنسانية، يعيشون في سلام وأمن واطمئنان، بعيدا عن أية عصبية جنسية أو عنصرية أو إقليمية أو نعرة ثقافية؛ لأن الله خلقهم ليتعارفوا ويتآلفوا لا ليتخاصموا ويتنازعوا ويتحاربوا [3] .
أما الاختلاف الكامن في طبيعة الحياة وجبلة الخلق، الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى:
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ... ) (هود:118-119) ،
فيعني أن سنة الله في الأرض تقوم على تباين البشر سواء أكان هـذا التباين يتعلق بالجنس أم اللغة أم الدين أم أي مكون من مكونات الحضارة، فيعتبر تعددا وتنوعا في الخصوصيات لا يتعارض وفضاء المصالح المشتركة بين الشعوب والأمم في إطار التعاون الإنساني القائم على قاعدتي التعارف والتعايش، وإنما ينطوي هـذا التنوع على عناصر تغذي الميول الإنسانية [ ص: 180 ] الفطرية نحو امتلاك أسباب التقدم والرقي بحافز من التنافس الطبيعي وبوازع من التدافع الحضاري [4] .
- استراتيجية التعايش
انطلقت هـذه الاستراتيجية من أرضية عقائدية، حيث توجهت الدعوة الإسلامية بالنداء الإلهي إلى أهل الكتاب داعية إياهم إلى الالتقاء على كلمة التوحيد في مقابل الشرك،
قال تعالى: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ... ) (آل عمران:64) ،
هـذا النداء يشكل أول نداء عالمي للتعايش الاستراتيجي بين الديانات. ويمكن أن نقول عنه: إنه أول نداء عالمي للتعايش السلمي بين المجتمعات المختلفة [5] ، عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تطبيقه في الحياة العملية وذلك حينما قننه في «دستور» دولته التي أعلنها في يثرب بعد هـجرته إليها مباشرة، ذلك الدستور المكتوب الذي سمي بـ «الصحيفة»، وهو أول دستور في العالم قبل أن يقر الغرب، منذ قرنين فقط، سنة كتابة الدساتير التي كان أولها دستور الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1776م، وتلاه الدستور الفرنسي سنة 1789 [6] . [ ص: 181 ]
- الاعتراف بـ (الآخر)
أي غاية أسمى وأقرب إلى الإنسانية ودين الله من تلكم الغاية التي كان يرمي إليها الرسول في توحيد القلوب وإظهار الحقيقة- ( تعالوا إلى كلمة سواء ) - بين أهل الديانات المختلفة في الدولة الإسلامية الجديدة بالمدينة.
لقد أحدث «دستور» المدينة، الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم بين جميع المتساكنين بمختلف فئاتهم ومعتقداتهم، نقلة نوعية بإخراج أصحاب الديانات المختلفة من مآزق الصراع والتناحر، حيث فتح لجميع المتعاقدين عهدا من الوئام والتفاهم والتعايش بين العقائد يقوم على مبدأ عظيم سجلته الفقرة الثانية من البند رقم (25) بإعلانها أن «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»، وهذا يتوافق مع التوجيه القرآني لصـاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم عندمـا أمره ربه تعالى أن يقول لمن لا يستجيب لدعوته:
- ( لكم دينكم ولي دين ) (الكافرون:6) ،
- ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... ) (الكهف:29) ،
وهذا أقصى أنواع الاعتراف (بالآخرين) الذي ينطلق من الثقة، والاحترام المتبادلين، ومن الرغبة في التعاون لخير الإنسانية في المجالات ذات الاهتمام المشترك وفيما يمس حياة الإنسان من قريب وليس فيما لا نفع فيه ولا طائل تحته.
لقد بادر النبي صلى الله عليه وسلم في «دستور» دولته، الذي جاء في شكل اتفاقية مبرمة بين جميع المتساكنين في يثرب على اختلاف أصولهم العرقية وعقائدهم الدينية، إلى إعطاء (الآخرين) المخالفين في المعتقد من الضمانات ما يبدد [ ص: 182 ] مخاوفهم، من أجل أن تصبح المدينة حرما آمنا للتعايش السلمي في ظل احترام جميع العقائد [7] ، حيث تضمن البند رقم (39) من الدستور «أن يثرب حرام جوفها لأهل هـذه الصحيفة» دون استثناء لأحد من سكانها، مسلمين كانوا أو يهودا أو وثنيين.
وهكذا جاء تركيز «الدستور» على وحدة سكان الدولة الجديدة في المدينة، ليس تجاوزا للاختلاف القبلي بين الأوس والخزرج فحسب، وإنما هـو تجاوز أيضا للتباين الديني إذ تحدث «الدستور» عن أهل يثرب مدمجا كل طوائفهم، مسلمين (من المهاجرين والأنصار) ويهودا، ومتهودين ومشركين، في اتحاد تحالفي ضد كل من يهدد المدينة في وحدتها أو يعمل لإلحاق الضرر بالمتعاقدين؛ وهو تحالف ضد قريش، التي كانت تفكر في غزو المدينة بعد أن أقام محمد النظام الإسلامي الجديد في ظل التعايش السلمي القائم على التعاون، سواء كان هـذا التعاون اقتصاديا أو سياسيا أو عسكريا أو غير ذلك مما اشتمل عليه «دستور» الدولة في معظم بنوده الموجهة لجميع المتساكنين فيها.
لقد كفل «دستور» الدولة الإسلامية الجديدة لغير المسلمين من التسامح المفضي إلى التعايش ليس فقط ما يكفل لهم حرية ممارسة عقائدهم، وإنما كفل لهم ما يجعلهم مواطنين في هـذه الدولة، مندمجين فيها، موفوري الحرية والكرامة، غير منعزلين ولا مهمشين، وتكفي الإشارة في هـذا الصدد إلى المظاهر التالية: [ ص: 183 ] 1- النهي عن مجادلتـهم إلا بالتي هـي أحسن: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) (العنكبوت:46) ؛
ولم يقف الأمر عند هـذا الحد بل تجاوز «دستور» دولة الرسول صلى الله عليه وسلم قضية الجدال، ونص على أن بين جميع المتعاقدين (النصح والنصيحة والبر دون الإثم) .
2- حرية ممارسة العقيدة.
3- إباحة مصاهرتهم وأكل طعامهم، قال تعالى : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ... ) (المائدة:5) .
فهذه المظاهر وغيرها تبين لنا أن المجتمع الإسلامي بلغ شأوا بعيدا في تحقيق التعايش السلمي مع حماية ركائزه الإسلامية [8] .
فالتعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم هـو الطابع العام للمجتمع الإسلامي الأول بالمدينة المنورة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وظل كذلك متجددا ومستمرا إلى يومنا هـذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأعظم دليل على هـذا الدستور المرن الآيتان رقم (8 و9) من سورة الممتحنة التي أعلنت [ ص: 184 ] بجلاء ووضوح أن البر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعا، ولو كانوا كفارا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته ويضطهدوا أهله [9] .
«إن المسلمين بين جميع الأمم أعطوا اليهود الحقوق الإنسانية والحرية الاجتماعية، وهذا دليل على أنهم بطبيعة دينهم وبتعاليم كتابهم أمة منـزهة من الأحقاد الدينية، والتعصبات المذهبية، أليس من المدهش أن نجد في تاريخ الأديان أمة شديدة البطش، قوية السلطان، متماسكة القوى، مغرمة بعقيدتها، تعامل الأمم التي تخالفها في الدين معاملة قصر عنها ورثة الكتب السماوية القديمة وحفظة المدنية الإنسانية العتيقة» [10] .
فهذا الدين بمبادئه السامية وقيمه الرفيعة «نراه وبكل رحابة صدر يوافق على عيش أصحاب الأديان الأخرى في المدينة إلى جانب المسلمين، وطمأنهم إلى أن أحدا لن يزعجهم في عقائدهم. فالإسلام قام على أساس الحرية والمساواة، لهذا فلا خوف على معتنقي الديانات الأخرى» [11] . ولم يقف الأمر عند هـذا الحد وإنما شمل «دستور» الدولة الإسلامية، إلى جانب الديانات الأخرى، المشركين المسالمين للإسلام، مما يوضح البعد الشامل الذي أعطاه لاستراتيجية التعايش السلمي والاعتراف (بالآخر) . [ ص: 185 ] لقد نقلت «الصحيفة» أهل المدينة من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة العنصرية والعصبية القبلية إلى أجواء الاحترام المتبادل، والتسامح الديني، والتعايش السلمي، والتعاون على البر دون الإثم، والمساواة، فالناس جميعهم أمام الخالق سواء؛ لأنهم خلقوا من نفس واحدة، الإنسانية تجمعها، والآدمية تشملها.
يقول عبد الهادي أبو طالب: « إن الإسلام وديانتي أهل الكتاب جاءت لمناهضة الشرك والقضاء عليه، ولكن مع ذلك استثنى الإسلام من أهل الشرك من سالموه منهم، ومن بينه وبينهم عهد وميثاق للسلم والتعايش، ويطلق عليهم اسم المعاهدين أو المستأمنين... وقد كان مشركو المدينة، وهم من هـذا النوع، طرفا أصيلا في التعايش الذي ضبط مقتضياته «الدستور»، ومنهم تألفت جميعا أمة يثرب، نواة الإمبراطورية الإسلامية العظمى [12] ، التي قامت تعلم أصحاب «الشرائع وغيرهم» التواد مع المعاشر في الوطن مهما خالفها في العقيدة والنظر... إنه من المدهش أن نرى في صدر الإسلام هـذا الصدر الرحب والذراع الواسع والكرم الجم في معاملة الأجانب عن الدين» [13] .
ويمكن تلخيص أسس التعايش السلمي من خلال «الصحيفة» في هـذه النقاط:
1- الرغبة المشتركة في التعايش نابعة من (الذات) ، وليست مفروضة تحت ضغوط، أيا كان مصدرها، أو مرهونة بشرط مهما يكن مسببه. [ ص: 186 ] 2- التفاهم حول الأهداف المشتركة بحيث يكون القصد الرئيسي من التعايش هـو خدمة الأهداف الإنسانية السامية، وتحقيق المصالح البشرية العليا، وفي مقدمتها استتباب الأمن والسلم في الأرض، والحيلولة دون قيام أسباب الحروب والنـزاعات، وردع العدوان والظلم والاضطهاد، الذي يلحق بالأفراد والجماعات.
3- التعاون على العمل المشترك من أجل تحقيق الأهداف المتفق عليها.
4- صيانة هـذا التعايش بسياج من الاحترام المتبادل ومن الثقة المتبادلة أيضا حتى لا ينحرف عن الخط المرسوم لأي سبب.. مهما تكن الدواعي والضغـوط، فإن الاحـتكام لا يكون إلا إلى القـيم والمثل والمبادئ التي لا خلاف عليها ولا نزاع حولها كما هـي محددة في «دستور» الدولة الجديدة في المدينة [14] .
إن الباحث المتـأمل في هـذا الدسـتور ومقاصده البعيدة التي كانت وراء تلك الثوابت، التي ألمحـنا إليها، لا يخـامره أدنى شـك أنه أعظم ميثاق للتعايش السلمي بين مواطني الدولة الإسلامية، بمختلف أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم.
لقد ظن بعض الناس أن المدنية الحديثة هـي التي جادت علينا بهذه القوانين والنظم، ونفخت فيها روح الحياة، وفاتهم أن «دستور» المدينة قد سبق هـذه المدنية بقرون وأتى بما هـو أفضل وأنجع لنظم العمران، منذ أن دونه [ ص: 187 ] سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لذا نجد أن المجتمع الإسلامي لم يخل قط من غير المسلمين، ولا عجب في هـذا فإن الإسلام لم يكره الناس حتى يكونوا مسلمين، ولا يمنع المسلمين من العيش مع مخالفيهم في العقيدة والدين، فهم جميعا عباد الله، وليس من لوازم الإيمان بهذا الدين القطيعة مع غير المسلمين ورفض العيش المشترك معهم في ظل دولة الإسلام.
يذكر عماد الدين خليل، نقلا عن (يونغ، كويلر) ، قوله : «..إن الإسلام قد أسهم بصفة فعالة في تقدم الجماعة الإنسانية، وقد استبدل بالنظام القبلي الذي ورثه-والذي يقوم على رابطة الدم- نظام الجماعة المشتركة في العقيدة والتي يقوم ترابطها الاجتماعي على أساس من الأخوة - الإنسانية - والمساواة...» [15] .
وهنا نستطيع القول: إن «الوثيقة» اشتملت على كثير من المبادئ الإنسانية السامية، كنصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، والتعاون على دفع الدية وافتداء الأسرى، ومساعدة المدين، إلى غير ذلك من المبادئ التي تشعر أبناء الوطن الواحد كأنهم أسرة واحدة. [ ص: 188 ]