الخاتمة
هذه الدراسة التي قامت على التحليل والاستنتاج والمقارنة لبنود «الوثيقة» التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أهل الأديان والأجناس المختلفة في المدينة بعد هـجرته إليها، أوصلتني إلى النتائج الآتية: - كشف موضوع «الوثيقة» بوضوح أن البعد الإنساني والحضاري في فعاليات السيرة النبوية، وأن الاهتمام بالمسألة الاجتماعية والعلاقات البشرية ليس أمرا عارضا أملته ظروف طارئة، وإنما هـو سمة أصيلة واهتمام مركزي في المشروع الإسلامي. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت لتبيلغ الرسالة والهداية باعتباره رائدا للدين ومبشرا ورسولا فحسب، وإنما كان أيضا قائدا عسكريا، ورجلا سياسيا، وحاكما يدير شئون الأمة في مختلف مناحي الحياة ويضع الحلول لمشكلات التواصل الإنساني. - أوجد الرسول صلى الله عليه وسلم وحدة سياسية وتنظيمية بمعناها الواسع حينما وضع الخطوط العامة لنظام الحكم في دولته التي أقامها في المدينة، ولم تكن معروفة من قبل في سائر بلاد الحجاز ، حيث وضع «وثيقة» تكفل الحقوق والحريات -لاتصالها بطبيعة الإنسـان وفطرته وغريزته- لكل أبناء الوطن، لم يسبقه إلى مثل هـذا العمل أحد قبله. - عملت «الوثيقة» على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل بمفهوم الأمة القائم على الوفاق والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكون لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، هـي أرض الوطن. [ ص: 209 ] - يمكن القول: إن «الصحيفة» وضعت نظاما متكاملا للمجتمع المديني الجديد يختلف كليا عن الأنظمة التي كانت سائدة في ذلك العصر، ولا يقل تنظيما عن الأنظمة القائمة في الدول الحديثة، إن لم يتفوق عليها في مجالات عديدة بسبقه وحسن تنظيمه ودقته.
- تعتبر «الصحيفة» أكبر شاهد على أن دولة الرسول صلى الله عليه وسلم تكونت من تنظيم اجتماعي متناسق من جميع جهاته وأطرافه، فقد اعتنت بالفرد عناية فائقة، وضمنت له من الحقوق ما يجعله يعيش بها إنسانيته في حرية، وعزة، وكرامة، وكلفته بواجبات تجعل منه شخصا مسئولا في المجتمع ينهض بمهمات تخولها مكانته وأهميته.
- فرضت «الوثيقة» حقوقا عامة على الإنسان للإنسان، بحكم علاقة الإنسانية، بقطع النظر عن اتحاد الدين أو اختلافه، كعون الضعيف، وإشباع الجائع، وتأمين الخائف، وسائر الحقوق التي تجب لمواطني الدولة الإسلامية، وإن لم يكونوا مسلمين.
- إن التسامح الديني سمة بارزة في «الوثيقة» لم تعهدها الشعوب بهذه الصفة من قبل، فالتاريخ يثبت أن اليهود قد قهروا وشردوا في كل أنحاء العالم نتيجة التعصب، وكذلك قتل أصحاب الأخدود - النصارى- لنفس السبب؛ وأصبح أهل الأديان كلهم آمنين محميين من الإكراه الديني بنص القانون وسلطته ولكن في ظل «دستور» المدينة.
- جاءت «الوثيقة» بمفهوم جديد للمساواة وهي أنها لا تعني المثلية، وإنما تعني أن تحكم العلاقات بين الناس كافة في المجتمع قواعد عامة ومجردة، سابقة على نشأة تلك العلاقات، تساوي بينهم من حيث هـم بشر، وإن اختلفت عقائدهم. [ ص: 210 ]