مقدمة
الحمد لله القائل على لسان نبيه إبراهيم ، عليه السلام : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) (الأنعام:162-163) ، معلنا بذلك عن مجموعة من القيم العليا، التي تخبر المسلمين بأسمى جذور حضارتهم البانية، وترسم لهم طريق الخير والفضيلة، وتنمي فيهم روح العمل والتكافل والإخاء، وتضيء لهم درب السعادة في الدنيا والآخرة.
إن حديثنا عن الحضارة الإسلامية هـو حديث عن القيم الإنسانية الكبرى، التي تحمل في دلالتها معاني الخير المادي والمعنوي كلها، بدءا من صنع حضارة النفس المطمئنة بعقيدة التوحيد والإسلام، وانتهاء بالتسليم الكامل لله عز وجل في المحيا والممات، بناء نفسيا وعقديا وعمرانيا.
وإذا أردنا أن نوجز تعريفا اصطلاحيا لمفهوم الحضارة الإسلامية نقول: هـي «كل فعل إنساني لا يتجاوز حدود أمة الوسط» مصداقا لقوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ... ) (البقرة:143) ،
علما بأن كلمة حضارة هـي استعمال محدث وإطلاق جديد، توسع استعماله تبعا للحضارة المادية، التي انبنت أسسها على التقدم العلمي والتقني والتطور الصناعي ومجالات الاقتصاد العالمية المرتكزة على مبادئ العولمة .
وأطلق هـذا الاستعمال بعد ذلك على مجالات التقدم والرفاه الإنساني كلها، سواء في المجال الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي. [ ص: 25 ] وعلى ذلك ارتكزت أقلام المفكرين الإسلاميين وكتاب قضايا الفكر والثقافة الإسلامية، الذين ألفوا في أسس ومرتكزات الحضارة الإسلامية ووقفوا على أهم منجزات التاريخ الإسلامي، التي تأسست على يد رواد حركتها وبناتها [1] .
إن صلة الحضارة بالمفهوم الإسلامي يجعلها تتميز عن الحضارات الأخرى بخصائص وميزات تتجلى في انفتاح حدودها النفسية والفكرية وخيرها العام على العالمين، وفي ارتباط الثقافة الإسلامية ارتباطا وثيقا بالاعتقاد وإخـلاص العبودية لله، سواء فيما يتعـلق بالتنمية الاقتصـادية أو التنمية البشرية مادة وروحا، وخلقا وسلوكا.
إنه النور المشرق على سماء الدنيا، الذي جعل الصلة وثيقة بين السماء والأرض، ووحد بين الروح والمادة، وجعل خلاص الإنسان وراحته في تسليم أمره لله، إنه الإسلام الذي ربط الحرية والمساواة في شرع الله بعقيدة الإيمان بالله، وأقام التوازن بين الحق والواجب، وبين حق الفرد وحق الجماعة، فنطق بذلك ميزان العدالة الإلهية: ( ولا يظلم ربك أحدا ) ، وهو تحديد قيم وشامل وعميق. [ ص: 26 ] إن اختيارنا لهذا الموضوع ينبع من قناعات خاصة مفادها أن المستقبل لهذا الدين، ومهما سالت أقلام الغيورين على موضوع البناء الحضاري للإسلام، فلن نوفيه حقه، دراسة وتحليلا، ولن نستفرغ مكنون هـمومنا نحو عدالة وأحقية هـذا الدين، الذي به تحيا قلوب الملايين من المسلمين في زمن كثر فيه الإحباط النفسي، والملل من الضوضاء والتيه بعيدا عن الحقيقة المشرقة، التي تنطق بها آيات القرآن الكريم كل يوم، وتقرع آذانا كثيرة وقلوبا عديدة، تخاطبهم بأن النصرة والتمكين لدين الإسلام الذي حملت لواءه وجذوره أول رسالة في الأرض لـما خلق الله آدم ، عليه السلام ، واستخلفه واستعمره في الأرض وأرشده بالوحي والعلم.
ثم أرسل سبحانه من بعده نوحا ، عليه السلام ، وإبراهيم ، عليه السلام ، إلى أن أرسل لبنة التمام محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.
لأجل ذلك حاولت في هـذا العمل المتواضع أن أرصد جذور الحضارة الإسلامية، وأبحث عن قدم رسوخها في رسالة الأنبياء والرسل، تذكيرا بأن الدين عند الله الإسلام، عند جميع الأنبياء، عقيدة واحدة وإلها واحدا ومعبودا لا ثاني له، نطق بالحق ومكن النصرة لأهل الحق.
فحاولت استخلاص العبر من خلال وقفات رسالية لبعض الأنبياء والرسل، وتفصيل القول في مقومات الحضارة الإسلامية، التي تجلت في عقيدة التوحيد والعلم والانفتاح على الحضارات الأخرى، وكان هـذا موضوع الفصل الأول.. أما الفصل الثاني فخصصته للحديث عن جذور الحضارة الإسلامية وبعض روادها: نوح، عليه السلام ، وإبراهيم، عليه السلام .. وفي الفصل الثالث تحدثت عن الرسالة الخاتمة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبينت فيه خصائص عالمية هـذه الرسالة الخالدة، وبعض تجليات يسرها وسماحتها، وركزت فيه على [ ص: 27 ] الامتدادات الحضارية للإسلام في تجلياتها، مشددة على التحول المهم الذي جاءت به الرسالة المحمدية في إقامة العدل والحرية والنماء.
وكانت غايتي من ذلك إبراز بعض معالم الحضارة الإسلامية انطلاقا من جـذورها ومنابعها الصـافية، السامية، بطريقة آمل أن تضيف شيئا إلى ما كتبه رواد الفكر الإسلامي والحضارة في الموضوع، من خلال تلمس نبض حركتها في تاريخ الرسالات النبوية واستنباط ملامحها من منجزاتها السامية، وجعلها مؤلفا مختصرا أرجو أن يفيد الطالب والباحث وكل من له اهتمام بقضايا الحضارة الإسلامية وقيمها السامية.
أسأل الله تعالى أن تكون هـذه بداية لمزيد من البحث في هـذا الموضوع الغني والثري بالمعاني السامية والتاريخ المجيد للحضارة الإسلامية، بالعودة إلى المنابع والوقوف عند الأصول، وبيان الامتدادات الكامنة في هـذه الحضارة الضاربة في القدم والسائرة عبر التاريخ.
وقد كان القصد من ذلك تعريف القارئ بجذورها وامتداداتها العريقة، أملا في أخذ العبرة من معالمها وإنجازاتها العظيمة، لتجديد وبناء مسار حضارة إسلامية معاصرة تعيد الأمل وتفتح أبواب التقدم والنماء بعيدا عن أي استلاب، بل باعتماد الاجتهاد والتجديد وإعمال النظر وفق تعاليم وروح الإسلام الحضارية التي شهد الجميع بسموها، قديما وحديثا.
كم نحن اليوم في حاجة ماسة إلى كتابات تؤكد من جهة إمكانية بعث هـذه الحضارة ونمائها بعيدا عن كل تجريح أو تزييف، وتثبت من جهة أخرى أن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين وحقد الحاقدين، ولن نبلغ هـذه الغاية إلا من خلال تأصيل تعاليمه وفقه مقاصده والنهل من ينابيعه الصافية، فهما وتفسيرا وضبطا وتطبيقا، أملا في تحقيق نماء حضاري ينفع الناس جميعا ويمكث في الأرض، بإذن الله تعالى وقوته. [ ص: 28 ]