المبحث الثالث
حضارة الانفتاح
الحضارة الإسلامية «حضارة الانفتاح».. وهذا الوصف قريب بل مماثل للاستعمالات الحديثة التي ترمز إلى مفهوم التعايش بين الحضارات والثقافات بل والديانات.
فالحضارة الإسلامية عاشت منذ ولادتها استمرارية تفاعل مع الحضارات الأخرى، ففتحت حدودها الفكرية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية على مختلف أنواع البشر، بكافة معتقداتهم وعلى اختلاف مقاصد وأهداف حضاراتهم.
فخير الحضارة الإسلامية جاء ليعم الإنسانية، ويحدث توازنا في العلاقات البشرية داخل منظومة وحدة الأمة الواحدة، بدلا من التمزق والانحصارية التي دعت إليها بعض الحضارات المادية، بل عاش المسلمون منذ التاريخ الإسلامي الأول وحدة الأخوة التكاملية انطلاقا من مبدأ: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [1] [ ص: 55 ]
- في العلوم والمعارف
لقد استوعب المسلمون الأوائل مقاصد النصوص الإسلامية التي تحث على النظر والبحث والتفكر والتعقل،
قال تعالى: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ) (ق:6-8) ،
فنبغوا وتميزوا في كثير من العلوم، التي يأتي في مقدمتها العلوم الكونية، التي تتصل بالحياة، وهي علوم يمكن النظر إليها باعتبارها علوما إسلامية صرفة، حيث لم يقتبسها المسلمون من أمة سابقة، بل لم يكن لدى الأمم السابقة نظيرها.
لقد استوعب المسلمون الأوائل قول الله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) (فصلت:53) ،
فانطلقوا يبحثون في مختلف المجالات، فكانت لهم بذلك اكتشافات علمية هـائلة جاءت رائدة في هـذا الباب. وظهرت مؤلفات عديدة منها «الكامل في حركات الكـواكب» لأبي الوفي محمد الجوجزاني (ت 328 هـ) [2] ، وألف أبو علي محمد بن جابر البناني (ت 317 هـ) ثلاثة مجلدات في علم الفلك سماها «معرفة مطالع [ ص: 56 ] البروج» [3] ... وألف أبو معشر ابن محمد البلخي (ت 273 هـ) 35 كتابا [4] في علم الفلك والنجوم منها كتاب «النكت في سنى العالم» وكتاب «هيئة الفلك واختلاف طلوعه» وكتاب «إثبات علم النجوم». وألف أحمد بن محمد الطيب (ت286هـ) «المدخل إلى صناعة النجوم» [5] ، ومؤلفات كثيرة جدا ذكرها أصحاب كتب التراجم والفهارس والمعاجم مما يدل دلالة واضحة وقاطعة على الاهتمام الواسع في البحث والتنظير في علوم الكون من لدن علماء المسلمين.
- أما في مجال الطب والصيدلة فقد برع المسلمون براعة هـائلة، دونت كتب التاريخ أسماء لامعة ترجمت ونقلت وجربت وهذبت وابتكرت معارف مهمة في مجال الطب والصيدلة.. وقد «نقح علماء المسلمين نظريات وآراء من سبقهم في الطب والعلاجات وأضافوا إليها كثيرا من اكتشافاتهم، وكانت زياداتهم مبنية على المنهج التجريبي العمـلي، وملاحظة النتائج، ولم يتوقفوا عند التعليلات والتفسـيرات الفلسفـية التي أبعدت الفكر اليوناني عن اتباع المنهج التجريبـي فجعلته يتتبع أوهاما كثيرة لا أساس لها من الصحة. [ ص: 57 ] ونقل الطبيب المسلم داود بن عمر الأنطاكي (1008 هـ) في أوائل كتابه «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب» في الطب، عن بعض شارحي العهد الذي كان يأخذه أبقراط على من يريد أن يزاول مهنة من تلاميذه، يقول: «ويجب اختيار الطبيب حسن الهيئة، كامل الخلقة، صحيح البنية، نظيف الثياب، طيب الرائحة، يسر من نظر إليه، وتقبل النفس على تناول الدواء من يده، وأن يكون متينا في دينه متمسكا بشريعته، دائرا معها حيث دارت، واقفا عند حدود الله تعالى ورسوله، نسبته إلى الناس بالسوا، خلي القلب من الهوى، لا يقبل الارتشا، ولا يفعل حيث يشا، ليؤمن معه الخطا، وتستريح إليه النفوس من العنا» [6] ومن أشهر الأطباء المسلمين، الذين جمعوا علومهم في الطب في مؤلفات: ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى [7] ، وابن سينا (980 هـ) صاحب له كتاب القانون في الطب، وهو في ثلاثة مجلدات [8] وألف أبو زكريا يحيى بن ماسويه في الإسهال والعقم، وألف أبو موسى عيسى بن قسطنطـين كتابا في البواسير وعللها وعـلاجها [9] ، وألف أحمد ابن أسعد بن العالمة (ت 652 هـ) [ ص: 58 ] كتاب الإرشادات في الأدوية المفردة؛ كفاية الطبيب [10] .
وفي طـب العيـون ألف حسـن بن الهيثم ، وألف خلف الطولوني (ت 302 هـ) كتابا سماه: «النهاية والكفاية في تركيب العين» [11] وفي الصيدلة والعقاقير ألف أبو بكر بن البيطار كتاب الصيدلة الشهير
«الجامع لمفردات الأدوية»، وهو في أربعة مجلدات، نشر في القاهرة سنة 1291 هـ، وترجم إلى الفرنسية والألمانية. وألف في الصيدلة أيضا البيروني والرازي [12] أما عن مدارس علوم الطب، فقد أسس خلفاء بني العباس مدارس لتدريس علم الطب في البصرة والكوفة وبغداد ودمشق وغيرها. وكانت مدارس الأندلس الطبية هـي المدارس الوحيدة في أوربا ، التي تخرج أطباء مؤهلين في الجراحة، وهي تحتوي على دراسة نظرية وأخرى عملية تعتمد على تدريب الطلاب قبل التخرج، فمن نجح ونال الإجازة سمح له بأن يزاول مهنة الطب تحت رقابة الدولة.
أما عن المستشفيات فقد أنشأ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في دمشق أول مستشفى عام 88هـ ، ثم انتشرت المستشفيات في جميع أنحاء الدول الإسلامية. [ ص: 59 ] ذلك كله وأوربا لم تكن تعرف من الطب غير الشعوذة وأضرحة القديسين والقديسات وأوثانهم، والتعاويذ والتمائم وأشباهها، بينما كان الأطباء في العالم الإسلامي كثيرين وذوي حظوة [13] لدى الشعوب، وكانوا ذوي مهارات فائقة بالنسبة إلى أدوات عصورهم.
ولما كان لليونان طب علمي طبيعي مزاجي، وكان للهنود طب شخصي روحاني نفسي، وكان اليونان يأنفون من الأخذ بأسلوب الهنود عند التطبب، ولما كان الهنود لا يكترثون بالطب اليوناني، كان العرب المسلمون يأخذون الصالح المفيد من طب هـؤلاء وأولئك، من اليونانيين والهنود والكلدانيين والبابليين، فطوروا تجارب هـؤلاء بالبحث والتجارب المتواصلة التي جعلت طب العرب المسلمين في الصدارة، منفتح الحدود على المستوى العلمي والإنساني، يفيد من كل العلوم ويفيد كل الأجناس [14] وفيما يخص علوم الكيمياء، فقد كان للمسلمين اهتمام بالغ بعلم الكيمياء المبني على التجربة والملاحظة ورصد النتائج والاستعانة بالعلوم الرياضية، مستفيدين في ذلك من خبرات البلدان المجاورة.
ومن أهم اكتشافات العرب المسلمين في مجال الكيمياء: المواد الصابغة، وصنع الفولاذ، كما اخترعوا البارود واستعملوه في الأسلحة النارية التي اخترعوها، واخترعوا المدافع والقذائف التي تطلق منها، وقد ذكر المؤرخون [ ص: 60 ] أن العرب استعملوا ذلك في حروبهم مع أعدائهم قبل الفرنجة بمائة عام على الأقل، كما اخترعوا القنابل وذخيرة المدافع.
واستخدم المسلمون علم الكيمياء في الطب والصناعات وصنع العقاقير، وتركيب الأدوية، وتنقية المعادن، وتركيب الروائح العطرية.
ومن أبرز أعلام المسلمين في الكيمياء جابر بن حيان (ت 200هـ) الفيلسوف الكيميائي، له مؤلفات عديدة، وكانت له شهرة كبيرة عند الأوربيين بما نقلوه من كتبه في بدء نهضتهم العلمية.
ويعد جابر أول من استخرج حامض الكبريت، وسماه «زيت الزاج» وأول من استحضر ماء الذهب، واكتشف «الصودا الكاوية»، وقد درس خصائص مركبات الزئبق.
كما يعد أبو بكر محمد بن زكريا الرازي من مؤسسي الكيمياء العلمية، وقد ترجمت جملة من كتبه إلى اللاتينية، وظلت مدة طويلة تدرس في جامعات أوربية، ويعد الرازي من العلماء الأوائل الذين طبقوا معلوماتهم من الكيمياء على الطب [15] كما برع المسلمون العرب في علوم شتى كعلم الفلاحة والنبات، وعلوم الرياضيات والهندسة، وعلم الحيوان ومعارف أخرى مبسوطة في كتب التراجم والمصنفات والتاريخ والطبقات. [ ص: 61 ] ومن خلال هـذه النظرة السريعة التي استوضحنا منها، إيجازا، مجالات العلوم والمعارف التي برع فيها المسلمون العرب، يظهر جليا الجهود الكبيرة والعملاقة التي بذلتها الحضـارة الإسلامية منذ نشأتها، وكيف أنها انطلقت في إرسـاء قواعد بنائها، منفتحة على باقي الحضارات، مستفيدة ومفيدة، لا تحدها حدود الزمان والمكان والإنسان.
- في البعد الخيري للإنسان
إن رسالة الإسلام الحضارية رسالة للناس جميعا، جاءت لتخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الجور إلى العدل، ومن الشرك إلى التوحيد.
وهي رسالة لإعلان مبدأ الأخوة الإنسانية الحقة: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) .
- لا تفاضل في إنسانية الإنسان
الدين الإسلامي جاء ليعلم ويخبر الإنسانية بوحدة الأصل البشري، وأن التفاضل مرده إلى الاستقامة والتقوى ونشر مبادئ الخير والفضيلة بين الناس، والمساهمة في بناء أمة حضارية تسعى إلى توحيد الصفوف وإرساء قواعد البناء الصلب، وإماطة أساليب الهدم، بدءا بتصحيح العقيدة الواحدة التي توحد الإنسانية في المبادئ والمناهج والمقاصد والغايات وتسعى إلى نبذ أشكال الظلم والاستبداد كلها، مرورا بنشر قيم الخير السامية التي رسم [ ص: 62 ] طريقها خالق البشرية، رب العباد في آيات القرآن الكريم، وبينها وفصلها رسول الإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه.
إن شمولية الإسلام «ليست كما يفترض المنهج «النصوصي» في وجود نصوص وأخبار، وبالتالي وجود أحكام تشمل كل جانب من جوانب حياة الإنسان، ولكنها تتجلى في شمولية الأصول التي يقوم عليها نظام الدين في الإسلام وفي ارتباط هـذه الأصول بالحقيقة. كما توجد هـذه الحقيقة في حقيقة الإنسان، وفي حقيقة العالم، وحقيقة ما فيه من أشياء، وفي حقيقة النظام الكلي الذي يخضع له هـذا العالم.. وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ليست في أحكام هـي أصلح من غـيرها في تنظيم حياة الإنسان، أينما كان وفي أي عصر كان، ولكنها في جعل حقيقة الإنسـان، وحقيقة العالم لما ينبغي أن يتوجه به الإنسان من تنظيم حياته. أما النصوص العينية وكذلك الأحكام التي استنبطت منها فتقع عندئذ في مواقعها المناسبة لها بعد التعرف على النظام الكلي الذي يمثله الإسلام» [16] .
لقد انفرد الإسلام بالاعتراف بالإنسان كما هـو في قدرته وفي حقيقته الإنسانية، وكذا ما أودع الله فيه من قدرات عقلية وإرادة سامية في التعرف إلى الله وتوحيده.. هـذه القدرات منحة ربانية لكل كائن بشري، وهذا الإبداع الرباني في خلق الإنسان وصفته كثير من نصوص القرآن الكريم، من [ ص: 63 ] ذلك قولـه تعالى: ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) (السجـدة:7-9) ،
وقوله تعـالى: ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك ) (الانفطار:6-8) .
ومن نعـم الله على هـذا الإنسـان أن ركب في فطرتـه أدوات المعرفـة اللازمة لوظيفة الانسجام الكلي مع كليات الحياة،
فقال سبحانه: ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) (النحل:78) .
أما اختـلاف الشعوب والألـوان والألسن فهي آيات من آيات الله في خلقه: ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) (الروم:22) .
وبهذا الاعتراف الحضاري للإنسان، يظهر السر في انفتاح الحضارة الإسلامية في مجال البعد الخيري للإنسان، وإن صح القول فعالمية الإسلام تتجلى في عالمية الإنسان. [ ص: 64 ] لقد جاء الإسلام «بهوية جديدة للإنسان وبفلسفة جديدة في الإنسان، وأحدث من أجل استيعاب هـذه الهوية أمة جديدة ليس لها مثيل بين الأمم من قبل... أمة مفتوحة لكل إنسان رأى نفسه كما يراه الإسلام، واستخدم ما جعل الله فيه من قدرات عقلية وإرادة أخلاقية وتحرر من هـيمنة البشر، ومن هـيمنة العقائد المتوارثة، وتوجه بالحق كما يتجلى في حقيقة الإنسان وفي حقيقة العالم.
وأمة المسـلمين ليست كغيرها من الأمم، قبيلة أخرى من القبائل الدينية لها خصوصيات طقوسية وعرقية وغيرها تعزلها عن البشر، ولها تراثها ومنجزاتها في مسيرة الحضارة البشرية، بل هـي أمة كل إنسان متحرر أدرك أن خير حياة له وخـير مصير له موجود في الفطرة البشرية التي يأتي بها إلى هـذه الحياة، وأدرك أيضا أن خـير ما يمـكن أن يتوجه به تنظيم حياته موجـود في حقيقة الإنسـان نفسـه وفي حقيقـة العالم من حوله. ومن هـذا الموقع ينظر ويقدر في تراثه وفي كل تراث بشري ليستخـلص منه ما يتطابق مع حريته كإنسان وما يتطابق مع الحقيقة في نفسـه وفي العالم. وما تتوصل إليه البشرية من علم فكله لهذه الأمة... وتجارب الأمم في تنظيم مجتمعاتها وفي تجسيد فلسفة معينة في الإنسان كلها ملك لهذه الأمة أيا كان مصدرها.. وأمة المسـلمين انتصارا منها للإنسـان كما يراه الإسـلام، وانتصارا منها للحقيقـة كما يراها الإسلام، وضعت نفسها في مواجهة دائمة مع غيرها من الأمم التي لا تعترف بالإنسان، ولا تجعـل الحقيقة هـي ما يتوجه به الإنسان في تفسـيره للوجـود وفي تنظيم حياته على ضوء ذلك التفسير» [17] . [ ص: 65 ] وبسبب هـذه النظرة إلى الإنسان كانت الأمة المسلمة ( ... خير أمة أخرجت للناس ... ) (آل عمران:110) .
أما اختلاف الخصائص والهيئات الفردية، التي يفضل الله بها بعض الناس على بعض، فمرده إلى توزيع المهام الاجتماعية والحياتية بين الناس، توزيع تكامل وانسجام في تحديد المسـئوليات والقيام بتـكاليف العيش والحياة،
قال تعـالى: ( ... ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ) (الزخرف:32) ،
وقال تعالى أيضا: ( كلا نمد هـؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) (الإسراء:20-21) .
إن حقيقـة المجتمـع الإسـلامي تنبثق من التـلازم الوثيق بين التصـور الاعتـقادي وطبيعـة هـذا المجتمع، وكذلك طبيعة النظام الرباني الذي يحكمه.
فهو مجتمع شريعة كاملة، في ظلها تنمو العلاقات الإنسانية وتتحرك، وفي ظلها تتحدد سائر مقومات وجودها وآدابها الفردية والجماعية، في تلائم وانسجام تام مع الفطرة الإنسانية، مع شمولية تامة لكل أصول الحياة الإنسانية من قيم الخير والحق والعدل والإخاء والحرية في انسجام تام بين [ ص: 66 ] المثالية والواقعية، يقول الكاتب الفرنسي «مارسيل كابي» : «القرآن كتاب موحى به، وهو يفوق ما عرف من هـذا النوع كثيرا، فإن العقيدة الروحية التي بينها ينعكس نورها على الحياة الاجتماعية، وهذا سر قوة الإسلام وسماحته ووحدته» [18] .
- حفظ الكرامة الإنسانية
جاء الإسلام للناس كافة، عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، مؤسسا ومعلنا لمبدأ حفظ الكرامة الإنسانية،
يقول تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) ،
ومؤكدا حرمة نفس الإنسان وأهمية حفظها من كل خدش أو انتقاص،
قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هـم الظالمون ) (الحجرات:11) .
وتجسدت هـذه المعاني النبيلة في حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس، فنراه صلى الله عليه وسلم يقيم الوزن بالقسط بين الناس، يحكم بالعدل بينهم، لا فرق عنده بين المسلم والذمي، فها هـو صلى الله عليه وسلم تعرض أمامه قضية سرقة درع يفصل فيها بالوحي [ ص: 67 ] الرباني، حينما اتهم يهودي بسرقتها بينما السارق أحد المسـلمين، فينـزل القرآن مبرئا ساحة اليهودي: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) (النساء:105-107)
فظهرت براءة اليهودي وأدين المسلم.. إنه دين المساواة والعدل،
يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8) .
( ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه ، لما جاء شفيعا في حد: «أتشفع في حد من حدود الله»؟ ثم قام فخطب، قال: «يا أيها الناس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع محمد يدها ) [19] .
وقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الكرامة وتلك «المساواة الجامعة على رءوس الأشهاد في خطبة الوداع، ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر [ ص: 68 ] شقي هـين على الله، والناس بنو آدم، وخلـق الله آدم من تراب ) [20] ، ( وقـال صلى الله عليه وسلم : يا أيهـا الناس، ألا إن ربكـم واحد، وإن أباكم واحـد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجـمي على عربي ولا لأحمـر على أسـود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) [21] .
«وقد أصبح المجتمع الإسلامي يتعامل بتلك الصفات ويطبقها، وينسى تلك العصبية البغيضة، فحين باع حكيم بن حزام داره، وخاطبه في ذلك بعض الناس، يثيرون في نفسه نخوة الأمجاد الموروثة والشرف المستمد من العشيرة والنسب، فاجأهم الرجل بقول جديد في المجتمع العربي، يعكس اتجاهاته، ويصور قيمه الإسلامية تجاه مبدأ المساواة: «يا أيها الناس، لقد أصبح الشرف اليوم بالتقوى» [22] .
إن العلاقات في المجتمع الإسلامي إنما تبنـي بالدرجة الأولى على أسس معنوية من ود وتراحم: ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) [23] ؛ هـذه الأسس تقوم عليها علاقات روحية تربط بين أجزاء الجسد الواحد في تراحم وتلاحم. وبالتالي فإن البناء الاجتماعي يصبح في منعة من التداعي والسقـوط؛ لأن الرابطـة المعنوية هـي أوثق ما يؤلف بين [ ص: 69 ] البشر، وهي إنسـانية لا تعرف الضيق في أطر مصطنعة ليست أصيلة في الحياة الإنسانية.
وباعتبار الإسلام دين الإنسانية جميعا، فهو ليس مجتمعا ضيقا محدودا تكونه عوامل جغرافية أو عنصرية أو طبقية، لا ينشأ إلا في مناخ خاص وفي ظروف معينة، ولا يحيا إلا في حدود ما يرسم له صانعوه من أصحاب النظم المحدودة، والفلسفات الضيقة، والنـزاعات الخاصة... بل هـو مجتمع كبير يمتد حتى يشمل الإنسانية كلها بجميع أجناسها وألوانها ولغاتها في كل أرض وفي كل مكان وفي كل زمان» [24] .
إن رسالة الإسلام الحضارية أسست كيانا وحدويا إنسانيا متكاملا للحفاظ على مصالح المسلمين المشتركة، مهما تباعدت الأزمان والديار، ومهما اختلفت الأجناس والألوان واللغات؛ لذلك فإنه «عند المقارنة بين الأخوة الإيمانية والأخوة في النسب التي تعارف عليها الناس، إذا كان الاشتراك في النسب كافيا لإيجاد رابطة الأخوة بين الأفراد وإن اختلفوا في العقائد والعواطف والمصالح، فإن الاشتراك في العقيدة الراسخة والعاطفة المثلى ونظام العيش الواحد والمصـالح المشتركة أحق وأجدر بهذه الأخوة؛ لأن النسب تلاق في حدود الجسد فقط، أما هـذه الأمور فإنها اتحاد في أكرم مقومات الإنسان» [25] [ ص: 70 ]