الظواهر السلبية لغياب توطين العلوم والتكنولوجيا في المجال العربي والإسلامي
إن الدعوة إلى توطين العلوم والتكنولوجيا في المجال العربي والإسلامي ستتضح أهميتها أكثر إذا ما علمنا أن ثمة ظواهر سـلبية يكرسها النقل الذي لا يخضع إلى التأصيل أو الاستنبـات أو التطـوير الخـاص، ومن أبرز تلك الظواهر:
1- التبعية العلمية والثقافية
ليست دعوى توطين العلوم تعني: القطيعة مع (الآخر) أو الاستنكاف عن الأخذ عنه، إلا أن ثمة تحفظا يسجل على استجلاب المفاهيم والنظم، والنماذج والمقولات حين يتم دونما تساؤل عن مدى ملاءمة ذلك لسياقات الواقع والبيئة المحلية.
وأساس هـذا التحفظ هـو: أن النقل بالنحو المذكور لا يمكنه أن ينتج معرفة حقيقية، ولا يولد علما يلتحم بالواقع أو يعبر عنه، لذلك ليس لهذا الهوس المتصاعد في المجال العربي والإسلامي نحو مجاراة نظم التعليم الأجنبية من تفسير سوى التبعية التي أثبتت من جديد إنها لم تحدث على الصعيد العلمي والتربوي أية نقلة نوعية، ولم تنتج حتى الآن أي شيء ذي قيمة، حتى بيوت الخبرة التي أضحت مرجعا في التأسيس والتطوير لم تفعل شيئا، بل لعلها كرست التبعية التي أصبح يتراجع خلالها الفهم السليم لطبيعة العملية التعليمية وخصوصياتـها التربوية، ومصداق ذلك هـذا الانخراط [ ص: 47 ] - من غير ما تبصر – في بعض التوجهات التعليمية المعولمة، أو الإعراض عن المناهج الإسلامية، أو تزايد الميل نحو التخلي عن اللغة القومية، حتى على مستوى تدريس الأدب العربي عند بعض الجامعات المستحدثة.
من جهة أخرى فإن التبعية في جانبها التكنولوجي أضحت تمحو الكثير من أنماط الحياة المحلية، كما أمسى في ظلها الكثير من الأدوات والأساليب التقليدية يتوارى ويفقد ما كان يؤديه من وظائف حيوية، حتى ليمكن القول: إن الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا الأجنبية قد عمق ظاهرة الاستلاب، وأخذ يدفع باتجاه الاستقالة عن كثير من مظاهر الخصوصية.
ولا شك أن القوى العالمية - المهيمنة منذ عصر الاستعمار حتى عصر العولمة - تعمل بشكل أو آخر على تكريس هـذه الحالة، وهي تنظر إلى عالم ما وراء البحار وفقا لنظرية التبعية ومبدأ تقسيم العمل بين المركز والأطراف.
إن التعليم الجامعي في المجال العربي والإسلامي ما برح في قلب تلك المعادلات، وهو منخرط – ربما عن وعي – في سياقات ذلك الاستتباع.
2- الاغتراب الثقافي والعلمي
إن التعاطي مع علوم (الآخر) معرفة ومناهج وبحوثا على نحو نقلي أفرز في المجال العربي والإسلامي طبقة من المتخصصين تعيش حالة من الرطانة العلمية والانفصام الثقافي والاجتماعي، وقد كان لتمادي هـؤلاء مع أفكار الغرب ومناهجه وتجاربه، أن وجدوا أنفسهم في موقف غريب، فلا هـم قادرون على فهم مجتمعاتهم فهما صحيحا، ولا هـم قادرون على توظيف ما قد تلقوه من معارف على نحو [ ص: 48 ] فعال، فكثير من المعارف التي يحملونها لا تتلاءم مع المتطلبات الحقيقية للواقع، حتى أن هـذا الأمر كثيرا ما كان يضعهم في حالة من البطالة المقنعة.
وإذا استطاع بعض من هـؤلاء استثمار معارفه في الداخل، فعادة ما يقع ذلك في إطار العواصـم الكبرى المتأثرة بنمط وأساليب المعيشة الغربية، غير أن هـذا الوضع قد ينتج بدوره، اغترابا من نوع آخر يمكن تسميتـه بالاغتراب الداخلي [1] .
ولعل لنظام البعثات دوره في توسيع هـذه الظاهرة، إذ حينما تضع الوزارات والجهات المعنية قائمة التخصصات المستهدفة، فالقائمة لا توضع في أكثر الأحيان وفقا لمنطق الأولويات، حتى ليدفـع بالطلاب باتجاه حقول أو فروع دراسية قد لا يستفيد منها المجتمع كثيرا، لذلك يعود هـؤلاء بعد التخرج وهم لا يجدون المناخ الداخلي المناسب لاستيعاب ما تعلموه.
وفي الحالة التي يمكن لبعضهم استثمار ما قد تعلمه، نجد أن ما يحمله من مناهج في التفكير أو من اتجاهات في العلم أو العمل قد لا ينسجم في كثير من الأحوال مع ما تقتضيه عمليات التغيير والإصلاح الداخلية، لا سيما حين تنصب انشغالاته على مشاكل جزئية أو عرضية، ولا تتوجه نحو معالجة المشاكل البنيوية والحقيقية. [ ص: 49 ] إنه يجب أن نعرف أن الطبيب أو البيولوجي أو المهندس أو عالم الاجتماع في الغرب لا يدرس «علما مجردا» وعابرا للثقافات والبيئات، بل يدرس العلم في إطار من الرؤى الفلسفية والاتجاهات الثقافية والحضارية الخاصة، لهذا فالطالب العربي والمسلم المتخرج من هـناك، يعود وقد سكنت لاوعيه تلك المؤثرات الفكرية والثقافية، وقد يصبح الكثير مما قد يقدمه من أفكار أو بحوث صدى لما تعلمه أو امتدادا لبحوث جرت هـناك، أو تفصيلا لبعض جوانبها، ولا غرابة بعد ذلك أن يتحول بعض من هـؤلاء إلى دليل لمنتجات الغرب، فكرية كانت أو مادية.
أما بالنسبة إلى التعليم التكنولوجي الذي يتم تلـقيه في الخارج، فحين لا يجد له الأرضية العلمية أو الفنية أو المؤسسـية التي تستوعبه في الداخل، أو لم يكن في الوسع تكييفه وفقا لمرحلة المجتمع وإمكانياته، فإنه يتحول إلى مجرد عنوان أكاديمي أو خبرة معلقة ليس لها من سياق.
3- هـجرة العقول
إن أحد الأسباب [2] التي تدعو أصحاب العقول والتخصصات من العرب والمسلمين إلى الهجرة هـو فقدان الصلة بين تخصصاتهم وحاجات المجتمع، أو عدم قدرة المؤسسات الداخلية على استيعاب تلك التخصصات. [ ص: 50 ] والحقيقة: أن منشأ هـذه الظاهرة طبيعة التعلم المحلي، الذي تقدم خلاله المناهج والنظم بمعزل عن الحاجات الاجتماعية والتنموية، والأمر يتفاقم مع من يتلقى علومه في الخارج حين لا يجد عند عودته المجال التوظيفي المناسب، مما قد يضطره إلى تغيير تخصصه أو التفكير بالهجرة إلى الخارج، ولعل تلقي العلوم باللغة الأجنبية -وهو يوجد حواجز لغوية ومفاهيمية، ويحول دون التواصل والتوصيل- قد يعمق من تلك الحالات، ومن الدراسات ما أثبت العلاقة بين ظاهرة الهجرة ولغة التخصص، حيث المتعلم بلغة أجنبية كثيرا ما يجد نفسه مدفوعا للبحث عن عمل في المجتمعات الصناعية التي يمكنه التكيف معها [3] لغويا وفنيا.
ولا ينفي هـذه الحقيقة أن كثيرا من الجامعات ومراكز العمل قد أضحت تفضل خريجي الجامعات الأجنبية، لا سيما مع تصاعد وتيرة العولمة واتساعها في العديد من البلدان العربية والإسلامية.
أخيرا، لا بد أن نشير إلى أن البلدان الأجنبية التي تستقبل ذوي الاختصاصات العالية من العرب والمسلمين هـي المستفيد الأكبر من ذلك، فيما تخسر البلدان العربية والإسلامية الكثير من الخبرات والطاقات التي كان بالإمكان تكييفها وتوظيفها لخدمة الداخل الذي هـو بأمس الحاجة إليها. [ ص: 51 ] لذلك بات من الضروري التوعية على أهمية توطين المعرفة والعلوم والتكنولوجيا، وسد المنافذ التي يتسرب منها العلماء، وإزالة الأسباب التي تدفع بذوي الاختصاص إلى الهجرة بعيدا عن الأوطان.
4- نشوء النـزعة العلموية «Scientism» وبروز ظاهرة التكنوقراط
ثمة اعتقاد تم الترويج له كثيرا، هـو أن العلم بمنـزعه التجريبـي يملك من القدرات ما يجعله الحل الوحيد لكل المشاكل، وقد تربت أجيال في العالم العربي والإسلامي تحت ظل هـذا المعتقد، حتى أضحت الجامعات والمراكز العلمية تتعامل مع العلوم والتكنولوجيا الأجنبية وكأنها تحمل سمات قدسية، دون وعي حقيقة ما تنطوي عليه من «أبعاد ثقافية» و «خصوصيات جغرافية» و «نسبيات معرفية»، وهذا ما غذى نزعة المحاكاة وأنعش حالة التسليم بمناهج الغرب واتجاهاته، ثم التهافت على ما تنتجه جامعاته ومعامله من معطيات، ناهيك عن أن القفز إلى نهايات العلوم ليس هـو السبيل المفضي إلى تأسيس العلم وبناء النهضة الحقيقية.
لقد ولدت هـذه النـزعة حالة من التعاطي مع العلم الجاهز ومنتجاته، حتى باتت النخبة المتخصصة ترى أن الوسيلة الوحيدة للتقدم هـي بتداول «أرقى» و «أحدث» النظريات والمناهج، دون أي تساؤل عما تنطوي عليه تلك النظريات والمناهج من أسس فلسفية [4] ، كما بات التعاطي مع معطيات [ ص: 52 ] العلوم، سواء في مجالات التدريس أو البحث أو التطبيق، كما لو كانت أجهزة جديرة بالاستخدام بشكل لا تحتاج معه إلى أية مراجعة أو تقويم، وتلك نزعة خطيرة على الصعيدين الفكري والتربوي.
لقد اقترن هـذا المنـزع بالذهنية التخصصية، التي اعتادت وضع الفواصل بين العلوم، وكانت تلك سمة من سمات « التكنوقراط »، الجماعات التي تحسن التساؤل عن الشيء كيف يكون، ولا تتساءل لم هـو، وتجيد الخوض في الوسائل، ولا تشغلها مسألة الغايات [5] .
إن التخصص الضيق المنعزل إذ يشجع على القطيعة بين وجهات النظر الفيزيائية والإنسانية، ويعمل على تمزيق الرؤية الثقافية، وتهميش دور السياسة العامة، فإنه يجعل العلم وكأنه غير معني بأحكام القيمة، وهذا مؤداه إفقاد الحركة العلمية نظرتها التكاملية ومغزاها الحضاري.
يجب توضيح أنه إذا كان من غايات العلم الغربي السيطرة على الطبيعة، وتوفير الرفاهية المادية والمعيشية, وتحقيق السيادة وبسـط النفوذ، فإن العلم في منظوره الإسـلامي يستهدف أساسا عمـارة الأرض، واستجلاء القـدرات الإلهية والحكمة العلوية في إدارة هـذا الوجود،
يقول تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28) . [ ص: 53 ] لهذا فتوطين العـلوم الذي نحن بصـدده يعنـي فيما يعنيه: عدم التسليم بمقولـة: إن العـلم الحديث هـو كل شيء، وإنه قادر على كل شيء، فالعلم - كما قيل - تنظيم المعرفة لا تنظيم العالـم، ومن المبالغة النظر إلى أنموذجـه التجريبي على أنه أساس التفكير، ومصدر الحقيقة، ومنتج المعنى.
إن وظيفة العلم الأولى قراءة صفحات الوجود، ووصف علائق أجزائه وانتظام مفرداته، وليس صياغة المعنى الذي هـو أمر متروك لمن يمتلك الرؤى الكلية، سواء كان من أهل الفلسفة أو من أصحاب الأديان [6] .