الوسيلة الثامنة
سن التشريعات التي تردع المفسدين
وتحفظ على المجتمع مقومات بقائه وصلاحه
ومن وسـائل القرآن في إصـلاح المجتمع أنه سن من التشريعـات ما يحفظ على المجتمع مقومات بقائه وصلاحه، وأساسيات استمراره ونمائه، فقد استقرأ علماء الشريعة نصوص القرآن والسنة فوجدوا أنها جاءت لتحقيق مصالح العباد، ثم ظهر لهم من خلال الاستقراء أيضا أن تلك المصالح على ثلاثة أنواع: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
والمصالح الضرورية عرفوها بقولهم: إنها تلك «المصالح التي تتوقف عليها حياة الناس، وقيام المجتمع واستقراره، بحيث إذا فاتت اختل نظام الحياة، وساد الناس هرج ومرج، وعمت أمورهم الفوضى والاضطراب، ولحقهم الشقاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة» [1] .
وإذن فهذه المصالح الضرورية هي المقومات الأساسية لوجود المجتمع المستقر الآمن، ولا بد من حمايتها والمحافظة عليها إذ أردنا أن نحفظ على المجتمع أمنه واستقراره وصلاحه، وقد حصرها علماء الشريعة في خمسة [ ص: 130 ] مقاصد ضرورية، فقالوا: إن مقاصد الشريعة الضرورية هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض والنسل، وحفظ العقل [2] .
وإذا تأملنا في هـذه الضروريات المقومـات، سنجد على رأس القائمة: الدين؛ ذلك أن المجتمعات لا غنى لها عن الدين الحق، وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده،
فقال تعالى: ( ( إن الدين عند الله الإسلام ) ) (آل عمران: 19).
وقال سبحانه: ( ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ) (آل عمران: 85).
وهذا الدين هو أغلى وأعز ما يملكه المجتمع؛ إذ هو الإطار الشامل الذي يجمع الناس على العقائد والأحكام، والقيم والأخلاق، وهو الذي يؤلف بين أبناء المجتمع، ويجمع شتات قلوبهم وعقولهم، لتكون لهم به أوثق العرى وأمتن الوشائج:
( ( إنما المؤمنون إخوة ) ) (الحجرات: 10).
ولذلك فالعدوان على الدين هو عدوان على المجتمع في عقيدته وقيمه، وفي آدابه وأخلاقه، وفي أخوته ووحدته، وفي أمنه واستقراره.
ومن أجل حفظ الدين جاءت الآيات القرآنية تتوعد من يرتد عن دينه، ويبدل نعمة الله كفرا بأشد وعيد، فقال تعالى : ( ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر [ ص: 131 ] صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) ) (النحل: 106)،
وقال سبحانه: ( ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ) (البقرة: 217).
وأيضا، فمن مقومات المجتمع وأساسيات وجوده: أن تحفظ النفوس، وتصان الأعراض، وتحترم الأموال، وأي مساس بهذه المقومات الثلاثة فإنه يعود بالضرر البليغ على المجتمع بأسره، ولا يمكن لمجتمع أن تستقيم أموره، وأن تصلح أحواله، وأن تنمو فيه الحياة وترتقي إلا بالمحافظة على هذه المقومات، وردع كل من تسول له نفسه المساس بها.
وإذا نظرنا في القرآن سنجد أنه يعظم حرمة النفس الإنسانية، ويعتبر العدوان عليها من أكبر الكبائر، وأعظم المفاسد،
قال تعالى: ( ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) ) (المائدة:32).
ولحفظ النفوس، وردع المعتدين، شرع القرآن عقوبتين: دنيوية، وأخروية؛ فأما العقوبة الدنيوية فهي القصاص العادل من القاتل عمدا وعدوانا، قال تعالى: ( ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد [ ص: 132 ] ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) ) (البقرة: 178-179).
وأما العقـوبة الأخروية فهي عقوبة غليظـة يقشعر لهولها جلد المؤمن:
( ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) ) (النساء: 93).
وبعد حفظ النفس يأتي حفظ المال، فالمال عصب الحياة؛ إذ به تقوم ضرورات الحياة من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ودواء، ولذلك وصفه الله تعالى بقوله:
( ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) ) (النساء: 5) فالمال قوام الحياة.
ومن المهم جدا لصلاح المجتمع ولنمائه واستقراره أن يأمن الناس على أموالهم وممتلكاتهم ومقتنياتهم المادية؛ ولذلك شرع الله تعالى حد السرقة ليكون رادعا وزاجرا لكل من تسول له نفسه أن يعتدي على أموال الناس وممتلكاتهم،
فقال تعالى: ( ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ) (المائدة: 38).
وهذه العقوبة المقدرة من الله عز وجل لا شك أنها عقوبة عادلة تتناسب مع الآثار الخطيرة الناجمة عن جريمة السرقة؛ فالذي يسرق مالا لن يتورع عن انتهاك عرض، ولا عن قتل نفس وقفت تدافع عن مالها، فالسرقة تشيع الفوضى والخوف في المجتمع، وتخل بالأمن والاستقرار والسلم [ ص: 133 ] الاجتماعي، وتلحق أفدح الأضرار بأحوال الناس المعيشية والاقتصادية، وتتولد عنها جرائم وموبقات كثيرة.
وأما في مسألة حفظ العرض والنسل فالقرآن يعتبر الزنا جريمة من الجرائم الكبرى، ويرى فيه أخطارا تتجاوز حدود طرفيه إلى المجتمع بأسره؛ ذلك أن الإسلام لا يرى في العلاقة الجنسية أنـها مجرد استمتاع رجل بامرأة أو العكس، ولكنه يرى فيها أداة للتكاثر، ووسيلة لحفظ النسل الذي به تتحقق مهمـة الاستخلاف في الأرض، والمعاشرة الجنسية بين الزوجين هي، بهذا الاعتبار هي فعل يؤجر المسلم عليه، كما جاء في الحديث ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا ) [3] .
والزنا يعصف بكل هذه القيم الرفيعة، ويدمر كل تلك المعاني السامية، ويأتي بآثار معاكسة لها تماما؛ فهو يفسد العلاقات الزوجية والأسرية، ويفسد النسل، ويجني على حق الأبناء في أن ينشأوا كرماء أعزاء في جو أسري يمنحهم الحب والحنان والقدوة الصالحة، وهو سبب لكثير من الأمراض والاختلالات النفسية والعقلية والجسدية، ولذلك كله حرمه القرآن، وشدد في تحريمه، وجعل عقوبته من أشد العقوبات، فقال تعالى: ( ( الزانية والزاني [ ص: 134 ] فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) ) (النور: 2).
ومع هذه العقوبـة الدنيوية البليغة هنالك عقوبة أخروية شديدة يقررها القرآن،
يقول تعالى: ( ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) ) (الفرقان: 68-69).
والملاحظ هنا أن القرآن قد قرن الزنا بالشرك بالله، وقتل النفس المحرمة، وتوعد من يقترف تلك الموبقات بعذاب شديد مضاعف يخلد فيه الفاعل مهانا
( ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ) ) (الفرقان: 70).
وفي حفظ سمعة الأعراض، وحمايتها من الأقاويل والافتراءات نقرأ قوله تعالى:
( ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ) ) (النور: 4)،
وقوله سبحانه: ( ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) ) (النور: 23-25). [ ص: 135 ]
وكذلك أولى القرآن عنايته لحفظ العقل وصيانته، ولأجل ذلك شرع تحريم الخمر
فقال تعالى: ( ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) ) (المائدة: 90-91).
وهكذا يتبين أن القرآن قد أحاط مقومات المجتمع بسياج منيع من التشريعات، وإذا تأملنا في الحدود الشرعية فسنجد أنها إنما شرعت من أجل حفظ وحماية المجتمع في مقوماته الأساسية وهي: الدين والنفس والمال والعرض والنسل والعقل.. والحدود الشرعية وإن كانت نادرا ما تقام في المجتمع المسلم؛ إلا أن هيبة الحد الشرعي تفعل في النفوس فعلها؛ فيرتدع أهل الشر والفساد، وينزجر أهل الغواية ومن في قلبه مرض، فتؤتي تلك الحدود ثمارها أمنا وطمأنينة وعفافا وصلاحا في المجتمع، وتجارب المجتمعات الإسلامية على مدار العصور والأجيال خير شاهد ودليل على ذلك.
غير أنه ينبغي لنا عند النظر إلى تلك الحدود أن لا نغفل عن كونها إحدى مفردات المنهج القرآني في إصلاح المجتمع، فالحدود والعقوبات وحدها لا تنشئ مجتمعا صالحا، والنظرة الكلية للمنهج القرآني في إصلاح المجتمع ستجعلنا ندرك موقع تلك الحدود والعقوبات ضمن منهج متكامل ومتفرد، وإذا ما تم تفعيل المنهج القرآني وإعمال وسائله كلها في إصلاح المجتمع فإن تلك الوسائل بمجموعها ستؤدي دورها بتناغم وتكامل مؤثر. [ ص: 136 ]