تقديم
عمر عبيد حسنة 0 الحمد لله، الذي جعل الإسلام إنساني الرسالة، وجعل الخطاب الإسلامي عالميا موجها للناس كافة،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28 ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) (سبأ:28)،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158 ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) (الأعراف:158)،
واعتبر الناس بكل تنوعاتهم واختلافاتهم ينحدرون من أصل واحد،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) (النساء:1)،
وحدد ميزان الكرامة والتميز بالتقوى والعمل الصالح،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13 ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات:13)،
بعيدا عن الألوان والأجناس والأعراق؛ فميزان الكرامة في القيم الإسلامية كسبي من فعل الإنسان وسعيه وليس قسريا لا إرادة للإنسان بتحصيله، وبذلك جعل ميدان بناء الحضارة الإنسانية مشتركا إنسانيا متاحا للجميع، فالقيم والحضارة الإسلامية حضارة منفتحة متاحة للجميع وليست حـكرا على قوم أو لون أو جغرافيا، وبذلك برئت من العنصرية والتعصب والانغلاق:
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=26 ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) (المطففين:26).
[ ص: 5 ]
ولعل من أهم الميزات في الرؤية الإسلامية لـ(الآخر) على الرغم من مغايرته وكفره بما نؤمن به أنه يتمتع بحرية المعتقـد والكرامة الإنسـانية، فلا يكره على مـا لم يؤمن به، وشعـار الإسـلام في ذلك قولـه تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256 ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)،
وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=6 ( لكم دينكم ولي دين ) (الكافرون:6)،
سواء في ذلك من كان داخل مجتمع المسلمين يتمتع بالمواطنة الكاملة أو كان في مجتمع غير المسلمين، ما لم يكن عدوا محاربا.
كما جعل سبحانه الغاية من الرسالة الإسلامية، على تنوع خطابها ومخاطبها، هو إلحاق الرحمة بالعالمين،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107 ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)،
واعتبر التنوع والاختلاف والتغاير والتمايز سنة إلهية،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=22 ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) (الروم:22)،
وهذا الاختلاف والتنوع سبيل التعاون والتكامل والتعارف والتفاهم،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13 ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13)،
فالتعاون والتعارف والتكافل وبناء المشترك الإنساني هو علة الاختلاف ومقصده، ذلك أن هذا التنوع والاختلاف هو مقوم سنة المدافعة أو التدافع التي تشكل حركة الحضارة.
فالتنوع والاختلاف مصدر الإثراء والإغناء، ومحرض الحركة والتنافس والتدافع والتطور والارتقاء، وآية من آيات الله التي تتطلب التفكر والتدبر
[ ص: 6 ] والنظر، فلذلك خلق الله الخلق:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118 ( ولا يزالون مختلفين *
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هود:118-119)،
فالاختلاف خلق واقع وواقع قائم، إذ لا يمكن أن نتصور لا عقلا ولا شرعا ولا واقعا أن يكون الناس نسخة مكررة بأشكالهم وألوانهم ومواهبهم وقابلياتهم وعواطفهم ورغباتهم ونتصور في الوقت نفسه أن لهم حرية واختيارا(!) فالله سبحانه وتعالى خلق تنوعا في القابليات وفوارق فردية حتى تتوازى مع مهمات الحياة وأعبائها، وتمضي في الناس سنة التدافع، فكل ميسر لما خلق له، فالأعمال في الحياة متنوعة، والتضاريس متنوعة، والمناخات متنوعة، وهكذا... فالتنوع سنة كونية وخلقية، وضرورة حضارية، وميدان حركة وتنافس وتفاعل
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119 ( ولذلك خلقهم ) .
هـذه باختصار شـديد الرؤيـة الإسـلامية للحياة والأحياء، فالتنوع والاختلاف ووجود (الآخر) من لوازم الحياة الإنسانية وشروط انطـلاقها من النـاحية الشرعية والعقلية والواقعية ومن استحقاقات الحضارة الإنسانية.
والصلاة والسلام على المبعوث للناس جميعا، الذي جسد بسيرته وسنته الرؤية الإسلامية للعمل والتعامل مع الناس جميعا، بكل فئاتهم، والذي كان (الآخر) ولا يزال محلا لدعوته وخطابه، فلولا (الآخر)، محل الخطاب والهداية، لتوقف عطاء النبوة واستمرارها وخلودها ولتحول المجتمع البشري إلى مجتمع ملائكة.
[ ص: 7 ]
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» الثاني والثلاثون بعد المائة: «نحو فقه للاستغراب... مقاربة نظرية وتاريخية» للدكتور محمد البنعيادي، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في تشكيل الرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة وإنضاج المنهج السنني، الذي يحكم حركة الحياة والاجتهاد في تنـزيل القيم الإسلامية في الكتاب والسنة على واقع الناس من خلال استطاعاتهم، وفي ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، والوصول إلى آلية للتعامل مع العالم في ضوء هذه الرؤية بكل مواقعه وتنوعاته، أي النظر للعالم وتقويم مسيرته وتحديد مواطن الإصابة والخلل على مستوى (الذات) و(الآخر) من خلال القيم الإسلامية، والنظر للقيم الإسلامية والتعامل معها وإعادة قراءتها وتنـزيلها من خلال العالم المحيط بنا، ومد جسور الدعوة تجاه (الآخر) في محاولة لإنقاذه وإلحاق الرحمة به، وهذه مهمة النبوة وورثتها، وهذا تكليف شرعي تقتضيه عالمية الرسالة الإسلامية وإنسانية خطابها وتتطلبه أزمة إنسان الحضارة المعاصرة، على الرغم من كل منجزاتها في إطار أشياء الإنسان وأدواته التقنية.
وحتى نتمكن من قراءة العالم من خلال القيم الإسلامية، في الكتاب والسنة، وقراءة قيم الكتاب والسنة من خلال واقع الناس فإن الأمر يتطلب معرفة وفهم حال العالم، محل الخطاب والدعوة، والإحاطة بعلمه، وفقه قيم
[ ص: 8 ] الكتاب والسنة وكيفيات تنـزيلها من خلال الظروف والأحوال المختلفة والمتنوعة المستفادة من تطبيقات السيرة النبوية.
لذلك ففهم «الذات» (قيم الكتاب والسنة) بالدرجة الأولى والانطلاق لفهم (الآخر)، محل الدعوة والخطاب الإسلامي، يعتبر من الشروط الحضـارية والثقافية والشرعية الأساس لعملية العمل والتعامل والاضطلاع بعملية البلاغ المبين.
صحيح أن معرفة الوحي تضمنت أسس الخطاب في ضوء رؤية معرفية يقينية متأتية من خالق الإنسان، وأن الكثير ممن حمل خطابها من الدعاة والتجار وصلوا بها إلى (الآخر) بكل تنوعاته، وحققوا فتحا مبينا، ودخل الناس في دعوة الله، وتحولوا إلى حيز (الذات)، وانطلقوا بعد أن أصبحوا من (الذات)، من المؤمنين، لنشر الدعوة صوب (الآخر)، وكان الكسب مقدورا في جميع مجالات (الآخر)، بكل أنواعه وتنوعاته، مما يدل على صلاح الإسـلام، بما يمتلك من رصيد الفطرة الإنسانية والمعرفة بمن خلق الله، لمخاطبة الناس كافة، بمختلف مواقعهم ومستوياتهم وتنوعهم، كما يدل من جانب آخر على أن خطاب معرفة الوحي خطاب العارف بأحوال الإنسان، أي إنسان، القادر على النفاذ إلى عقله وقلبه وعاطفته.
لذلك نقول: إن ما يملكه خطاب الوحي من الخصائص الذاتية والبصارة بـ(الآخر) ومواصفات خطابه يختصر علينا معظم الطريق صوب معرفة أعماق (الآخرين) لو أحسنا التعامل مع قيمنا.
[ ص: 9 ]
لكننا نقول: وحيثما إن تنـزيل القيم على واقع الناس وكيفياته ووسـائله وأسـاليبه من فعل البشر كان لا بد من فقه وفهم وعلم لهذا الواقع يوازي فقه القيم نفسها، وإلا تعثرت وسائل التنـزيل وأسأنا للقيم وساهمنا بمحاصرتها.
فالقرآن الكريم، خطاب الله الخالد للإنسانية، منذ الخطوات الأولى للنبوة الخاتمة في دولة المدينة، رسم للمؤمنين الخارطة العقائدية والثقافية للأمم والشعوب، ولم يكتف بذلك بل امتد إلى الحديث عن الجذور والتاريخ لعوامل نشوء الأمم وسنن انقراضها ليحددوا مواقعهم ويختاروا وسائلهم ويعرفوا: كيف يتعاملون ويدعون ويتواصلون مع الأقوام الأخرى على هدى وبصيرة؟ وماذا يقدمون؟ وماذا يؤخرون؟ وماذا يحذرون؟ وكيف يفيدون؟ وجاءت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة بدعوته وتعامله ورسائله للملوك والأمراء وبناء جماعة المسلمين في ضوء هذه الرؤية القرآنية وهو الموحى إليه.
وقد تكون الإشكالية الكبيرة اليوم أننا نحاول قراءة العالم بلا أبجدية واضحة ومحددة، نقرأه من خارج القيم في الكتاب والسنة، ونحاول قراءة القيم من فراغ يستقبل كل شيء، نقرأها من خارج العالم وظروفه وتداعياته، ونصر على قراءتها من خلال ظروف ماضية غير ظروفنا الذاتية والعالمية، من خلال ظروف عفا عليها الزمن ولم يعد لها إلا العبرة.
فالإشكالية تكمن اليوم في قراءة القيم والتعامل معها من خلال ظروف غير الظروف التي نعيشها، وفي قراءة الظروف التي نعيشها خارج القيم في
[ ص: 10 ] الكتاب والسنة، وبذلك نخفق في القراءتين: قراءة العالم وكيفية التعامل معه؛ وقراءة (الذات) وكيفية الإفادة من عطائها.
وطالما أننا مستمرون في قراءة النص (قيم الكتاب والسنة) خارج الزمن الذي نعيشه ومشكلاته والنظر إليه من خلال زمن آخر ومجتمع آخر فسوف نبقى عاجزين عن التعامل معه والإفادة منه لعصرنا، لحاضرنا ومستقبلنا، إضافة إلى أننا بذلك نحاصر خلود النص وعطاءه، ونحكم عليه بأنه إنما نـزل لعصر سالف أو عصر سلف، دون أن نستطيع الامتداد بالنص للتنـزيل على واقع الناس.
ولعل هـذا من الأبجـديات الأولى المطلوبة لـ«الذات» وبنائها وتأهيلهـا لفهـم (الآخر) ضمـن أدوات ثقافية معينة ومن ثـم كيفية التعامل معه.
ولا شك أن ألوان (الآخر) متعددة، فهناك (الآخر) في اللون، و(الآخر) في الجنس، و(الآخر) في الجغرافيا، و(الآخر) في اللغة واللسان، و(الآخر) في المعتقد و(الآخر) في الثقافة...
لكن (الآخر) المراد هنا هو (الآخر) في المعتقد والثقافة، مهما كان لونه وجنسه وجغرافيته ولغته ولسانه وغير ذلك من الأمور القسرية، التي لا يد للإنسان فيها، كما أسلفنا.
فالمعتقد، الذي هو ثمرة لحرية الاختيار هو المحور الأساس، الذي تدور حوله وتنبثق منه الأحكام والمفاهيم.
[ ص: 11 ]
وهناك مجموعة أمور قد أشرنا إلى بعضها ونحاول هنا استكمال الصورة، فـ(الآخر) موجود عمليا، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو ثمرة لسنة الله في التنوع والاختلاف، والإسلام يعترف بوجوده ويمنحه المشروعية الواقعية؛ والاعتراف به والتعامل معه لا يعني إقراره وتصديقه على ما هو عليه.
و(الآخر) بكل أحواله محل الدعوة والتبليغ، وهو داخل في عموم الخطاب الإسلامي، وهو من أمة سيدنا محمد ( باعتبار أن أمة سيدنا محمد هي أمة الإجابة (الذات) التي آمنت به وصدقته، وأمة الدعوة (الآخر)، التي لما تؤمن به بعد فهي محل الدعوة والبلاغ المبين، لذلك فـ(الآخر) له كامل الحقوق الإنسانية في الرؤية الإسلامية.
إن التعامل مع (الآخر) سواء أكان ذلك في المجال السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو الدعوي بشكل صحيح مرجو النتائج مرهون، إلى حد بعيد، أو إن شئت فقل: مشروط بمعرفة (الآخر)، والإحاطة بعلمه، ومن ثم وضع الخطط والاستراتيجيات وتحديد الأدوات الصالحة للتعامل معه.
وأعتقد أن العالم جميعه في مسـيرته المعرفية، ومنذ اللحظـة التي بدأ فيها التفكير بوضع استراتيجيات العمل والتعامل، كانت معرفة (الآخر)، إضافة إلى معرفة (الذات)، ركنا أساسا في هذه الخطط، وخاصة على المستوى العسكري، فمعرفة العدو أو الخصم من حيث قوته وأسلحته ومواقعه الجغرافية وتضاريس المعركة وعقيدته العسكرية من لوازم الخطة،
[ ص: 12 ] حيث تبنى في ضوء ذلك كله استراتيجيات الدفاع والاستعداد والإعداد؛ والمعروف أن استعمال مصطلح الاستراتيجية بدأ أول ما بدأ في المجال العسكري، ومن ثم عمم هذا المصطلح على سائر المجالات، التي باتت تتطلب حصول المعرفة أو المعلومة حول الأمر المطروح لتكون مرتكزا في بناء الخطة ووضع الكيفيات واختيار الأدوات المطلوبة لتحقيق الأهداف.
وفي تقديري أن معرفة (الآخر) تتطلب أولا وقبل كل شيء معرفة عقيدتـه ومنظـومته القيمية، أو إن شئت فقـل: ثقافته وقيمه التي يؤمن بها ويسعى إلى تحقيقها؛ وتتطلب معرفة تاريخه، حيث تقرأ من خلاله استجاباته وتحولاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، لقيمة ومعتقداته وثقافته؛ كما تتطلب قراءة واقعه بكل إمكاناته ومكوناته وثقافته كامتداد لتاريخه، ووضع هذا الواقع ضمن مسيرته الحياتية، ومن ثم الخلوص إلى نتائج علمية وموضوعية لحاله، الذي يبصر بكيفية وضع خطة للتعامل معه.
فالمعلومة، وهي أساس كل شيء، هي أحوج ما تكون في مجال الدعوة والثقافة والحركة،
والله سبحانه وتعالى يقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36 ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء:36).
والمعلومة اليوم أصبحت هي القوة المرنة، التي بدأت تتجاوز قوة السلاح والمال وجميع الإمكانات؛ وميادين المعارك اليوم ومقومات الحروب السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية هي المعلومة، حتى لقد بات يطلق على العصر بكل ملامحه: «عصر المعلومات»؛ فالأرصدة الحقيقية للأمة هي
[ ص: 13 ] المعلومات، التي في ضوئها يتحقق النصر والظفر والغلبة الحضارية والثقافية والظهور والريادة والقيادة، حيث لم يبق مجال للأغبياء والكسالى في عالم الأذكياء والمبدعين والمكتشفين.
ولقد أدرك الغرب ذلك بشكل مبكر جدا، ونحن نستمر في سبات عميق، ولعلنا نقول: لقد أدرك ذلك منذ أن انتقلت القيادة الدينية للإسلام والمسلمين
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=109 ( حسدا من عند أنفسهم ) (البقرة:109)،
هذا الحسد شكل المحرض، فكانت المعلومة عن حال الإسلام والمسلمين بعقائده وثقافته وتاريخه وحاضره، وأسس لذلك علما أطلق عليه علم «الاستشراق»، الذي شكل النافذة التي بدأ الغرب ينظر من خلالها إلى كيفية التعامل معه، أو هي البوابة التي دخل منها ولا يزال مع اختلاف في تغيير عملية الحصول على المعلومة وطرائق استخدامها.
لقد كان «الاستشراق»، الذي يعتبر في محصلته النهائية تقديم قراءة دقيقة عن الشرق الإسلامي بكل مكوناته ليشكل دليلا للتعامل معه، هو الطليعة الممهدة للتبشير والاستعمار العسكري والثقافي والديني والسياسي، فكان «الاستشراق» بمثابة المنجم والمصنع؛ والتبشير والاستعمار هو المسوق؛ والعالم الإسلامي هو السوق والزبون لاستقبال البضائع.
لقد كانت الحروب الصليبية محاولة لاستعمار وحقد ديني، وجاءت من بعدها الحروب السياسية، بكل ألوانها، محاولة لاستعمار سياسي، وأعقبتها الحروب الاقتصادية لاستعمار اقتصادي والاحتياز على خامات وإمكانات
[ ص: 14 ] الشرق الإسلامي؛ واليوم تطورت مراكز «الاستشراق» بتشكيلها وأدواتها البحثية وأخذت شكلها الآخر وليس الأخير بإقامة مراكز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إلخ.. فمراكز الدراسات اليوم، بكل اهتماماتها وتشعباتها المعرفية، هي الصورة الأحدث لمراكز «الاستشراق»، فهي مراكز توفير المعلومة لأصحاب القرار في المجالات المتنوعة ليأتي الفعل في ضوء الفكر، وليأتي القرار في ضوء المعلومة.
ولعلنا نقول: إن ما توصلت إليه تلك المراكز من أدوات ووسائل للحصول على المعلومة، من خلال سعيها الدائب إقامة المؤتمرات والندوات ومؤسسات الحوار، يعتبر من أعظم حواس الاستشعار المبكر لمكونات الأمم والشعوب التي تمكن من القيام بمسح شامل لذهنيتها ورغباتها وتحديد نقاط الضعف والوهن ورسم الخطوط لكيفية اختراقها.. والأعجب من ذلك أن هذه المؤتمرات والندوات غالبا ما يكون محلها عواصم الشرق الإسلامي، وتمويلها من المال الإسلامي، وأشخاصها من تلامذة الغرب وأدواته، وموضوعاتها مختارة بعناية فائقة، ومحاورها محددة مسبقا، وليس ذلك فقط وإنما يحدد مسبقا لكل مشارك فيها من أبناء المسلمين، تلامذة الغرب، المربع والمحور المطلوب إليه التحدث فيه (!!)
إنها أشبه بعقود إذعان يمارسها الغرب على الشرق الإسلامي تحت عناوين وشعارات الحرية والديمقراطية والحوار المتكافئ، وتكون محصلتها مزيدا من الخبرة والمعرفة التي تمكن من مزيد من الهيمنة والاختراق لعالم
[ ص: 15 ] المسلمين.. والكثير منا ما يزال يعيش هذا الضلال وهو يظن أنه يحسن صنعـا، ونخشـى أن يصدق فينا قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=103 ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا *
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=104الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) (الكهف:103-104).
هذه المؤسسات، من مراكز للمعلومات والدراسات في شعب المعرفة المختلفة، التي تمول غالبا بأموال المسلمين، وتقدم لها أرض المسلمين، ويكون مادتها الواقع الإسلامي، تساند بماكينات إعلامية ضخمة تروج لها، وتسوق لبضاعتها، وتعمق أطروحاتها أيضا، وقد لا نستغرب أن يمول ذلك كله بأموال المسلمين ومساندة بعض ساستهم(!)
لقد أصبح حضور الغرب في حياتنا طاغيا، فهو في بيوتنا، وأسواقنا، وطعامنا، وشرابنا، وملابسنا، وعاداتنا، وأنماط حياتنا، في مدارسنا، وجامعاتنا، ومؤسساتنا، وأنديتنا، وقوانيننا، وحتى بات يتسلل إلى تربيتنا الخاصة... وكان ذلك ثمرة لمعارفه ومعلوماته عنا، فنحن مادة البحث والدرس والتجربة والاختبار وهو الدارس وحامل الكتاب والميزان والمعيار الحضاري، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(!)
إنه يمارس عقود الإذعان الحضارية، التي استلبت إرادتنا، ونحن مانزال عاجزين -شأن عالم التخلف- عن كيفية التعامل معه ومعرفـة ما نأخذ وما ندع، أو حتى التفكير بالتطاول لدراسته ونقده؛ وذلك أن القادر على الإفادة من (الآخر) هو الإنسان المتقدم المتعلم المتحضر، المؤمن بقيمه
[ ص: 16 ] ومعاييره الحضـارية، القـادر على توظيفها في التعـامل مـع (الذات) و(الآخر)، أما الإنسان المتخلف فلا يخرج عن أن يكون قاعا فارغا مستقبلا لكل شيء ورجعا لصدى كل شيء.
وأقول هنا: إنه لولا بقية من عقيدة الإسلام وثقافته ووجود بعض الخمائر المأمولة في استئـناف النهـوض ومعرفة كيفية التعامل مع (الآخر) لا ندرس الأمل وقتل الحلم؛ ذلك أن الغرب اليوم وصل إلى مرحلة التحكم بأحلامنا ورسم آمالنا.
وقـد تكون الدعـوة اليوم إلى فقـه الغـرب أو معرفـة الغـرب أو «الاستغراب» مقابل «الاستشراق» لونا من الفكر الدفاعي، الذي يتشكل غالبا من ردود الفعل.. لكن هل أصبح صحيحا أن نقابل الجغرافيا (الغرب) بالعقيدة والثقافة (الإسلام)؟ فالجغرافيا، كما هو معروف، تقابل وتقارن بجغرافيا، وأن العقيدة تقابل بعقيدة، خاصة وأن الكثير من المسلمين اليوم يعيشون في الغرب، سواء منهم من جاء نتيجة الهجرة أو من آمن من أبناء تلك البلاد.
وهل الغرب بعقائده وأجناسه وألوانه هو غرب واحد، وقد أصبح مكونا اليوم من مجموعة عقائد وأديان وثقافات متعددة؟ وهل النظر إليها بنظرة واحدة يعني، من بعض الوجوه، تخلفا وتضليلا في المعلومات والمعارف وبالتالي بالتعامل؟
[ ص: 17 ]
إن حضارة الغرب اليوم، أو مجتمعات الغرب، تضم، إلى جانب الكثير من الأديان والأعراق والأجناس المتعددة، كتلة عظيمة من المسلمين، الذين يشكلون شرايين أساسا في حياة الحضارة الغربية، ورصيدا معرفيا كبيرا لعالم المسلمين، ونوافذ دقيقة للمعلومات عن مكونات هذه المجتمعات وكيفية التعامل معها والتبصر بأحوالها وتحولاتها؛ فإلى أي مدى يمكن لنا أن نتعامل مع الغرب ونرسم خططنا السياسية والثقافية والدعوية من خلال هذا الرصيد، الذي يعيش في جوف الحضارة الغربية ويشارك في مسيرتها ويبصر الخلل الذي تعيشه ويبصر النوافذ والمداخل التي تمكن من الدخول عليه والتأثير فيه؟
وهل لنا أن نقول: إن ما نمتلك من معايير معرفة الوحي يمكن أن تشكل لنا القوة المانعة من الذوبان في هذا المد الطاغي للغرب بحضارته وثقافته وعقائده؟
وهل لنا أن نقول: إن وجود الخمائر المبصرة، في حياتنا الإسلامية، إلى جانب الطلائع الإسلامية والخبرات والخبراء الذين يعيشون في جوف الحضارة الغربية، يمكن أن تتمدد وتتولد وتحسن الأخذ والعطاء؟
وهل لنا أن نقول: إن انتشار الإسلام في هذه المجتمعات المتقدمة بشكل يكاد يكون أسرع من انتشاره واعتناقه من قبل الشعوب المتخلفة يؤكد لنا خلود الإسلام واستجابته لتطلعات الإنسان في كل المواقع والمستويات، ويمنحنا الإمكان الثقافي والحضاري والأمل بأن معرفة الوحي بما تمتلك من
[ ص: 18 ] رصيد الفطرة الإنسانية أقوى من غلبة الحضارة الغربية؟ وأن قوة الثقافة أقوى وأبقى من ثقافة القوة؟ وأن الدعوة إلى الفهم ما تزال مطلبا ملحا وسبيلا لكسب أكبر للدعوة الإسلامية؟
وهل يمكن أن نعتبر حقبة العولمة، بكل ما تحمل من سلبيات وطغيان وهيمنة للدول الأقوى، هي فرصة ولحظة تاريخية يمكن التقاطها لتحقيق معرفـة أفضـل وأشمل ووضـع خطة وإبداع وسيلة تتناسب مع أبعاد الدولة الثقافية أو الدولة الإعـلامية، التي يمتلـكها (الآخر) وتفتقـدها (الأنا)؛ وإن كانت هيـاكلها متوفرة في بلاد المسلمين فمضامينها ما تزال تملأ من (الآخر)؟
إن حضور (الآخر) الطاغي المهيمن، الذي يبشر بثقافته وقيمه وفلسفته وعقائده على أنها الصواب المطلق وسبيل الخلاص، من خلال إمكانات وماكينات إعلامية متنوعة وساحرة وقاهرة متحكمة بعقل الفرد وحواسه وإنتاج تقني متحكم بحركته وحاجاته، يتطلب وقفة صادقة مع (الذات) تقتضي الكثير من المراجعة والنقد ومعاودة الاحتماء المبصر بـ(الذات) وتجديد الاعتصام بالقرآن، مصدر القيم المعصومة، خاصة في اللحظات والمراحل التي ينفصل فيها السلطان عن القرآن ويصبح السلطان مستلحقا بـ(الآخر) متخليا عن (الذات).
كما يتطلب إيقاظ وعي الخمائر السليمة في الأمة، التي تمثل الطائفة القائمة على الحق الممتدة، التي لا يضرها من خالفها والتي تقدم أنموذج
[ ص: 19 ] الاقتداء وتدلل على خلود القيم الإسلامية وقدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان وإنسان وحوار أو مواجهة حضارية، إيقـاظ وعيها بكل ما يحيط بها ويتطلب منها.
إن معرفة (الآخر) أو الإحاطة بعلمه وتحويله ليصبح محل دراسة، عقائده وفلسفاته وتاريخه وأدبه وأخلاقه ورؤيته، لم تعد خيارا ولا ترفا ثقافيا ولا عملا نخبويا وإنما كان ولا يزال تكليفا شرعيا، سواء في ذلك كونه محل الدعوة والخطاب في محاولة لمعرفة مفاتيح حضارته وثقافته، التي تسهل الدخول إليه والتعامل معه ودعوته إلى الخير، أو كان ذلك مطلبا استراتيجيا للوقاية منه وإحباط مكره والإحاطة بعداوته.
وليس المقصود من الدعوة إلى دراسة (الآخر) إيقاظ روح العداوة والمواجهة وإيقاد الصراع الحضاري واستدعاء فترات التعصب والتمييز والعنصرية وإنما هو لتوفير الرؤية التي تمكن من التعامل معه في الحقول كلها، والمجالات جميعها، بدراية وفقه، في محاولة لرفع العصمة والوحدانية والمعيارية عن قيمه ومبادئه، التي يفرضها ليصبح هو أيضا محل نظر ودراسة.
ونعاود التأكيد أن (الآخر) ليس نمطا واحدا وإنما أنماط متعددة، لكل نمط خصائصه ومقوماته التي تتطلب نمطا مناسبا للتعامل معه، وأن العيون الإسلامية الموجودة في مواقع الثقافات والحضارات المتعددة والتي أصبحت جزءا منها تمثل حواس وبصائر لا بد من اعتمادها لفهم (الآخر) وتحديد مداخل التعامل معه.
[ ص: 20 ]
وبعد:
فلعل أهمية هذا الكتاب، أو هذه الدراسة، أنها حاولت أن تقدم نماذج من القيـم والمبادئ والفلسفـات، التي تشـكل عقل الغرب ومرجعيته التي بدأت تتجاوز اليوم الانحباس الجغرافي للدولة إلى الدولة الثقافية الحضارية، التي تحاول فرض مركزيتها ومعاييرها وتسعى لتحويل الثقافات والحضارات الأخرى من شريك فاعل إلى تباع منفعل لا يخرج عن إقامة مؤسسات الفكر الدفاعي، في أحسن الأحوال، بأساليبها وأدواتها العتيقة، التي ما يزال يعجز عن تطويرها وتجـديدها، حسبه أنه يدور في فلك (الآخر)، ويتحاكم إلى مبادئه ومعـاييره، وكأنه فوق النقد والمراجعة والدراسة، في محاولة للخروج من الارتهان الثقافي إلى مستوى الشريك الحضاري الذي يتجاوز الفكر الدفاعي إلى التقدم باتجاه نقد (الآخر) ودراسته ونزع العصمة عنه.
والكتاب يحاول تقديم رؤية عن (الآخر) وبناء أبجدية ما تزال غائبة عن الكثير من عالمنا لقراءة (الآخر)، كما يحاول صناعة مفاتيح ثقافية لكيفية فتح المغاليق الحضارية، بحيث يصبح (الآخر) محل نظر ودراسة وليس مسلمة فوق النقد والمراجعة.
فلقد حاول الباحث تقديم نظرات معمقة في جذور الفلسفة والثقافة الغربية والإتيان بنماذج من المراجعات الحديثة للفكر الغربي، كما تتبع تطور الاتصال بالغرب منذ النشأة ورصد مدى الاستجابة وتنوعها؛ وطرح سؤال
[ ص: 21 ] النهضة، وقدم نماذج لإجابات تاريخية ومعاصرة ومن أكثر من موقع جغرافي في بلاد المسلمين، كما توقف عند آليات إيقاظ الوعي والبحث في عوامل وأسباب ضعف (الذات) ونهوض (الآخر).
ويمكن اعتبـار الكتاب دعوة لفهـم (الآخر) وجعله محل دراسة بطريقة علمية ومنهجية تستدعي الكثير من الدراسات والتحليلات والمتابعات من خلال معايير معرفة الوحي، بكل عطائها في الحقول المتنوعة بعد هذا الكسل العقلي والتخلف الذهني والعجز الثقافي والاستسلام لثقافة القوة المهيمنة، الأمر الذي يساهم بتحريض (الذات) لاسترداد فاعليتها وتحديد موقعها من الثقافة الغربية المهيمنة، واستنهاضها للوصول إلى مرحلة الشهود الحضاري.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 22 ]
تقديم
عمر عبيد حسنة 0 الحمد لله، الذي جعل الإسلام إنساني الرسالة، وجعل الخطاب الإسلامي عالميًا موجهًا للناس كافة،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28 ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (سبأ:28)،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158 ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) (الأعراف:158)،
واعتبر الناس بكل تنوعاتهم واختلافاتهم ينحدرون من أصل واحد،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1 ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ) (النساء:1)،
وحدد ميزان الكرامة والتميز بالتقوى والعمل الصالح،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13 ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات:13)،
بعيدًا عن الألوان والأجناس والأعراق؛ فميزان الكرامة في القيم الإسلامية كسبي من فعل الإنسان وسعيه وليس قسريًا لا إرادة للإنسان بتحصيله، وبذلك جعل ميدان بناء الحضارة الإنسانية مشتركًا إنسانيًا متاحًا للجميع، فالقيم والحضارة الإسلامية حضارة منفتحة متاحة للجميع وليست حـكرًا على قوم أو لون أو جغرافيا، وبذلك برئت من العنصرية والتعصب والانغلاق:
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=26 ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) (المطففين:26).
[ ص: 5 ]
ولعل من أهم الميزات في الرؤية الإسلامية لـ(الآخر) على الرغم من مغايرته وكفره بما نؤمن به أنه يتمتع بحرية المعتقـد والكرامة الإنسـانية، فلا يُكره على مـا لم يؤمن به، وشعـار الإسـلام في ذلك قولـه تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256 ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (البقرة:256)،
وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=6 ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (الكافرون:6)،
سواء في ذلك من كان داخل مجتمع المسلمين يتمتع بالمواطنة الكاملة أو كان في مجتمع غير المسلمين، ما لم يكن عدوًا محاربًا.
كما جعل سبحانه الغاية من الرسالة الإسلامية، على تنوع خطابها ومخاطَبها، هو إلحاق الرحمة بالعالمين،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107 ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (الأنبياء:107)،
واعتبر التنوع والاختلاف والتغاير والتمايز سنة إلهية،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=22 ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ) (الروم:22)،
وهذا الاختلاف والتنوع سبيل التعاون والتكامل والتعارف والتفاهم،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13 ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) (الحجرات:13)،
فالتعاون والتعارف والتكافل وبناء المشترك الإنساني هو علة الاختلاف ومقصده، ذلك أن هذا التنوع والاختلاف هو مقوم سنة المدافعة أو التدافع التي تشكل حركة الحضارة.
فالتنوع والاختلاف مصدر الإثراء والإغناء، ومحرض الحركة والتنافس والتدافع والتطور والارتقاء، وآية من آيات الله التي تتطلب التفكر والتدبر
[ ص: 6 ] والنظر، فلذلك خلق الله الخلق:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118 ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) (هود:118-119)،
فالاختلاف خلق واقع وواقع قائم، إذ لا يمكن أن نتصور لا عقلًا ولا شرعًا ولا واقعًا أن يكون الناس نسخة مكررة بأشكالهم وألوانهم ومواهبهم وقابلياتهم وعواطفهم ورغباتهم ونتصور في الوقت نفسه أن لهم حرية واختيارًا(!) فالله سبحانه وتعالى خلق تنوعًا في القابليات وفوارق فردية حتى تتوازى مع مهمات الحياة وأعبائها، وتمضي في الناس سنة التدافع، فكلٌ ميسر لما خُلق له، فالأعمال في الحياة متنوعة، والتضاريس متنوعة، والمناخات متنوعة، وهكذا... فالتنوع سنة كونية وخلقية، وضرورة حضارية، وميدان حركة وتنافس وتفاعل
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119 ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) .
هـذه باختصار شـديد الرؤيـة الإسـلامية للحياة والأحياء، فالتنوع والاختلاف ووجود (الآخر) من لوازم الحياة الإنسانية وشروط انطـلاقها من النـاحية الشرعية والعقلية والواقعية ومن استحقاقات الحضارة الإنسانية.
والصلاة والسلام على المبعوث للناس جميعًا، الذي جسّد بسيرته وسنته الرؤية الإسلامية للعمل والتعامل مع الناس جميعًا، بكل فئاتهم، والذي كان (الآخر) ولا يزال محلًا لدعوته وخطابه، فلولا (الآخر)، محل الخطاب والهداية، لتوقف عطاء النبوة واستمرارها وخلودها ولتحول المجتمع البشري إلى مجتمع ملائكة.
[ ص: 7 ]
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» الثاني والثلاثون بعد المائة: «نحو فقه للاستغراب... مقاربة نظرية وتاريخية» للدكتور محمد البنعيادي، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في تشكيل الرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة وإنضاج المنهج السنني، الذي يحكم حركة الحياة والاجتهاد في تنـزيل القيم الإسلامية في الكتاب والسنة على واقع الناس من خلال استطاعاتهم، وفي ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، والوصول إلى آلية للتعامل مع العالم في ضوء هذه الرؤية بكل مواقعه وتنوعاته، أي النظر للعالم وتقويم مسيرته وتحديد مواطن الإصابة والخلل على مستوى (الذات) و(الآخر) من خلال القيم الإسلامية، والنظر للقيم الإسلامية والتعامل معها وإعادة قراءتها وتنـزيلها من خلال العالم المحيط بنا، ومد جسور الدعوة تجاه (الآخر) في محاولة لإنقاذه وإلحاق الرحمة به، وهذه مهمة النبوة وورثتها، وهذا تكليف شرعي تقتضيه عالمية الرسالة الإسلامية وإنسانية خطابها وتتطلبه أزمة إنسان الحضارة المعاصرة، على الرغم من كل منجزاتها في إطار أشياء الإنسان وأدواته التقنية.
وحتى نتمكن من قراءة العالم من خلال القيم الإسلامية، في الكتاب والسنة، وقراءة قيم الكتاب والسنة من خلال واقع الناس فإن الأمر يتطلب معرفة وفهم حال العالم، محل الخطاب والدعوة، والإحاطة بعلمه، وفقه قيم
[ ص: 8 ] الكتاب والسنة وكيفيات تنـزيلها من خلال الظروف والأحوال المختلفة والمتنوعة المستفادة من تطبيقات السيرة النبوية.
لذلك ففهم «الذات» (قيم الكتاب والسنة) بالدرجة الأولى والانطلاق لفهم (الآخر)، محل الدعوة والخطاب الإسلامي، يعتبر من الشروط الحضـارية والثقافية والشرعية الأساس لعملية العمل والتعامل والاضطلاع بعملية البلاغ المبين.
صحيح أن معرفة الوحي تضمنت أسس الخطاب في ضوء رؤية معرفية يقينية متأتية من خالق الإنسان، وأن الكثير ممن حمل خطابها من الدعاة والتجار وصلوا بها إلى (الآخر) بكل تنوعاته، وحققوا فتحا ًمبينًا، ودخل الناس في دعوة الله، وتحولوا إلى حيز (الذات)، وانطلقوا بعد أن أصبحوا من (الذات)، من المؤمنين، لنشر الدعوة صوب (الآخر)، وكان الكسب مقدورًا في جميع مجالات (الآخر)، بكل أنواعه وتنوعاته، مما يدل على صلاح الإسـلام، بما يمتلك من رصيد الفطرة الإنسانية والمعرفة بمن خلق الله، لمخاطبة الناس كافة، بمختلف مواقعهم ومستوياتهم وتنوعهم، كما يدل من جانب آخر على أن خطاب معرفة الوحي خطاب العارف بأحوال الإنسان، أي إنسان، القادر على النفاذ إلى عقله وقلبه وعاطفته.
لذلك نقول: إن ما يملكه خطاب الوحي من الخصائص الذاتية والبصارة بـ(الآخر) ومواصفات خطابه يختصر علينا معظم الطريق صوب معرفة أعماق (الآخرين) لو أحسنا التعامل مع قيمنا.
[ ص: 9 ]
لكننا نقول: وحيثما إن تنـزيل القيم على واقع الناس وكيفياته ووسـائله وأسـاليبه من فعل البشر كان لا بد من فقهٍ وفهم وعلم لهذا الواقع يوازي فقه القيم نفسها، وإلا تعثرت وسائل التنـزيل وأسأنا للقيم وساهمنا بمحاصرتها.
فالقرآن الكريم، خطاب الله الخالد للإنسانية، منذ الخطوات الأولى للنبوة الخاتمة في دولة المدينة، رسم للمؤمنين الخارطة العقائدية والثقافية للأمم والشعوب، ولم يكتف بذلك بل امتد إلى الحديث عن الجذور والتاريخ لعوامل نشوء الأمم وسنن انقراضها ليحددوا مواقعهم ويختاروا وسائلهم ويعرفوا: كيف يتعاملون ويدعون ويتواصلون مع الأقوام الأخرى على هدى وبصيرة؟ وماذا يقدمون؟ وماذا يؤخرون؟ وماذا يحذرون؟ وكيف يفيدون؟ وجاءت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة بدعوته وتعامله ورسائله للملوك والأمراء وبناء جماعة المسلمين في ضوء هذه الرؤية القرآنية وهو الموحى إليه.
وقد تكون الإشكالية الكبيرة اليوم أننا نحاول قراءة العالم بلا أبجدية واضحة ومحددة، نقرأه من خارج القيم في الكتاب والسنة، ونحاول قراءة القيم من فراغٍ يستقبل كل شيء، نقرأها من خارج العالم وظروفه وتداعياته، ونصر على قراءتها من خلال ظروف ماضية غير ظروفنا الذاتية والعالمية، من خلال ظروف عفا عليها الزمن ولم يعد لها إلا العبرة.
فالإشكالية تكمن اليوم في قراءة القيم والتعامل معها من خلال ظروف غير الظروف التي نعيشها، وفي قراءة الظروف التي نعيشها خارج القيم في
[ ص: 10 ] الكتاب والسنة، وبذلك نخفق في القراءتين: قراءة العالم وكيفية التعامل معه؛ وقراءة (الذات) وكيفية الإفادة من عطائها.
وطالما أننا مستمرون في قراءة النص (قيم الكتاب والسنة) خارج الزمن الذي نعيشه ومشكلاته والنظر إليه من خلال زمن آخر ومجتمع آخر فسوف نبقى عاجزين عن التعامل معه والإفادة منه لعصرنا، لحاضرنا ومستقبلنا، إضافة إلى أننا بذلك نحاصر خلود النص وعطاءه، ونحكم عليه بأنه إنما نـزل لعصر سالف أو عصر سلف، دون أن نستطيع الامتداد بالنص للتنـزيل على واقع الناس.
ولعل هـذا من الأبجـديات الأولى المطلوبة لـ«الذات» وبنائها وتأهيلهـا لفهـم (الآخر) ضمـن أدوات ثقافية معينة ومن ثـم كيفية التعامل معه.
ولا شك أن ألوان (الآخر) متعددة، فهناك (الآخر) في اللون، و(الآخر) في الجنس، و(الآخر) في الجغرافيا، و(الآخر) في اللغة واللسان، و(الآخر) في المعتقد و(الآخر) في الثقافة...
لكن (الآخر) المراد هنا هو (الآخر) في المعتقد والثقافة، مهما كان لونه وجنسه وجغرافيته ولغته ولسانه وغير ذلك من الأمور القسرية، التي لا يد للإنسان فيها، كما أسلفنا.
فالمعتقد، الذي هو ثمرة لحرية الاختيار هو المحور الأساس، الذي تدور حوله وتنبثق منه الأحكام والمفاهيم.
[ ص: 11 ]
وهناك مجموعة أمور قد أشرنا إلى بعضها ونحاول هنا استكمال الصورة، فـ(الآخر) موجود عمليًا، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو ثمرة لسنة الله في التنوع والاختلاف، والإسلام يعترف بوجوده ويمنحه المشروعية الواقعية؛ والاعتراف به والتعامل معه لا يعني إقراره وتصديقه على ما هو عليه.
و(الآخر) بكل أحواله محل الدعوة والتبليغ، وهو داخل في عموم الخطاب الإسلامي، وهو من أمة سيدنا محمد ( باعتبار أن أمة سيدنا محمد هي أمة الإجابة (الذات) التي آمنت به وصدقته، وأمة الدعوة (الآخر)، التي لما تؤمن به بعد فهي محل الدعوة والبلاغ المبين، لذلك فـ(الآخر) له كامل الحقوق الإنسانية في الرؤية الإسلامية.
إن التعامل مع (الآخر) سواء أكان ذلك في المجال السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو الدعوي بشكل صحيح مرجو النتائج مرهونٌ، إلى حدٍ بعيد، أو إن شئت فقل: مشروط بمعرفة (الآخر)، والإحاطة بعلمه، ومن ثم وضع الخطط والاستراتيجيات وتحديد الأدوات الصالحة للتعامل معه.
وأعتقد أن العالم جميعه في مسـيرته المعرفية، ومنذ اللحظـة التي بدأ فيها التفكير بوضع استراتيجيات العمل والتعامل، كانت معرفة (الآخر)، إضافة إلى معرفة (الذات)، ركنًا أساسًا في هذه الخطط، وخاصة على المستوى العسكري، فمعرفة العدو أو الخصم من حيث قوته وأسلحته ومواقعه الجغرافية وتضاريس المعركة وعقيدته العسكرية من لوازم الخطة،
[ ص: 12 ] حيث تبنى في ضوء ذلك كله استراتيجيات الدفاع والاستعداد والإعداد؛ والمعروف أن استعمال مصطلح الاستراتيجية بدأ أول ما بدأ في المجال العسكري، ومن ثم عُمّم هذا المصطلح على سائر المجالات، التي باتت تتطلب حصول المعرفة أو المعلومة حول الأمر المطروح لتكون مرتكزًا في بناء الخطة ووضع الكيفيات واختيار الأدوات المطلوبة لتحقيق الأهداف.
وفي تقديري أن معرفة (الآخر) تتطلب أولًا وقبل كل شيء معرفة عقيدتـه ومنظـومته القيمية، أو إن شئت فقـل: ثقافته وقيمه التي يؤمن بها ويسعى إلى تحقيقها؛ وتتطلب معرفة تاريخه، حيث تقرأ من خلاله استجاباته وتحولاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، لقيمة ومعتقداته وثقافته؛ كما تتطلب قراءة واقعه بكل إمكاناته ومكوناته وثقافته كامتداد لتاريخه، ووضع هذا الواقع ضمن مسيرته الحياتية، ومن ثم الخلوص إلى نتائج علمية وموضوعية لحاله، الذي يبصِّر بكيفية وضع خطة للتعامل معه.
فالمعلومة، وهي أساس كل شيء، هي أحوج ما تكون في مجال الدعوة والثقافة والحركة،
والله سبحانه وتعالى يقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36 ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (الإسراء:36).
والمعلومة اليوم أصبحت هي القوة المرنة، التي بدأت تتجاوز قوة السلاح والمال وجميع الإمكانات؛ وميادين المعارك اليوم ومقومات الحروب السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية هي المعلومة، حتى لقد بات يطلق على العصر بكل ملامحه: «عصر المعلومات»؛ فالأرصدة الحقيقية للأمة هي
[ ص: 13 ] المعلومات، التي في ضوئها يتحقق النصر والظفر والغلبة الحضارية والثقافية والظهور والريادة والقيادة، حيث لم يبق مجال للأغبياء والكسالى في عالم الأذكياء والمبدعين والمكتشفين.
ولقد أدرك الغرب ذلك بشكل مبكر جدًا، ونحن نستمر في سبات عميق، ولعلنا نقول: لقد أدرك ذلك منذ أن انتقلت القيادة الدينية للإسلام والمسلمين
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=109 ( حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) (البقرة:109)،
هذا الحسد شكل المحرض، فكانت المعلومة عن حال الإسلام والمسلمين بعقائده وثقافته وتاريخه وحاضره، وأسس لذلك علمًا أطلق عليه علم «الاستشراق»، الذي شكل النافذة التي بدأ الغرب ينظر من خلالها إلى كيفية التعامل معه، أو هي البوابة التي دخل منها ولا يزال مع اختلافٍ في تغيير عملية الحصول على المعلومة وطرائق استخدامها.
لقد كان «الاستشراق»، الذي يعتبر في محصلته النهائية تقديم قراءة دقيقة عن الشرق الإسلامي بكل مكوناته ليشكل دليلًا للتعامل معه، هو الطليعة الممهدة للتبشير والاستعمار العسكري والثقافي والديني والسياسي، فكان «الاستشراق» بمثابة المنجم والمصنع؛ والتبشير والاستعمار هو المسوِّق؛ والعالم الإسلامي هو السوق والزبون لاستقبال البضائع.
لقد كانت الحروب الصليبية محاولة لاستعمار وحقد ديني، وجاءت من بعدها الحروب السياسية، بكل ألوانها، محاولة لاستعمار سياسي، وأعقبتها الحروب الاقتصادية لاستعمار اقتصادي والاحتياز على خامات وإمكانات
[ ص: 14 ] الشرق الإسلامي؛ واليوم تطورت مراكز «الاستشراق» بتشكيلها وأدواتها البحثية وأخذت شكلها الآخر وليس الأخير بإقامة مراكز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إلخ.. فمراكز الدراسات اليوم، بكل اهتماماتها وتشعباتها المعرفية، هي الصورة الأحدث لمراكز «الاستشراق»، فهي مراكز توفير المعلومة لأصحاب القرار في المجالات المتنوعة ليأتي الفعل في ضوء الفكر، وليأتي القرار في ضوء المعلومة.
ولعلنا نقول: إن ما توصلت إليه تلك المراكز من أدوات ووسائل للحصول على المعلومة، من خلال سعيها الدائب إقامة المؤتمرات والندوات ومؤسسات الحوار، يعتبر من أعظم حواس الاستشعار المبكر لمكونات الأمم والشعوب التي تمكن من القيام بمسح شامل لذهنيتها ورغباتها وتحديد نقاط الضعف والوهن ورسم الخطوط لكيفية اختراقها.. والأعجب من ذلك أن هذه المؤتمرات والندوات غالبًا ما يكون محلها عواصم الشرق الإسلامي، وتمويلها من المال الإسلامي، وأشخاصها من تلامذة الغرب وأدواته، وموضوعاتها مختارة بعناية فائقة، ومحاورها محددة مسبقًا، وليس ذلك فقط وإنما يُحدّد مسبقًا لكل مشارك فيها من أبناء المسلمين، تلامذة الغرب، المربع والمحور المطلوب إليه التحدث فيه (!!)
إنها أشبه بعقود إذعان يمارسها الغرب على الشرق الإسلامي تحت عناوين وشعارات الحرية والديمقراطية والحوار المتكافئ، وتكون محصلتها مزيدًا من الخبرة والمعرفة التي تمكن من مزيد من الهيمنة والاختراق لعالم
[ ص: 15 ] المسلمين.. والكثير منا ما يزال يعيش هذا الضلال وهو يظن أنه يحسن صنعـًا، ونخشـى أن يصدق فينا قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=103 ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا *
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=104الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (الكهف:103-104).
هذه المؤسسات، من مراكز للمعلومات والدراسات في شعب المعرفة المختلفة، التي تموّل غالبًا بأموال المسلمين، وتقدم لها أرض المسلمين، ويكون مادتها الواقع الإسلامي، تُسانَد بماكينات إعلامية ضخمة تروج لها، وتسوق لبضاعتها، وتعمق أطروحاتها أيضًا، وقد لا نستغرب أن يموَّل ذلك كله بأموال المسلمين ومساندة بعض ساستهم(!)
لقد أصبح حضور الغرب في حياتنا طاغيًا، فهو في بيوتنا، وأسواقنا، وطعامنا، وشرابنا، وملابسنا، وعاداتنا، وأنماط حياتنا، في مدارسنا، وجامعاتنا، ومؤسساتنا، وأنديتنا، وقوانيننا، وحتى بات يتسلل إلى تربيتنا الخاصة... وكان ذلك ثمرة لمعارفه ومعلوماته عنا، فنحن مادة البحث والدرس والتجربة والاختبار وهو الدارس وحامل الكتاب والميزان والمعيار الحضاري، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(!)
إنه يمارس عقود الإذعان الحضارية، التي استلبت إرادتنا، ونحن مانزال عاجزين -شأن عالم التخلف- عن كيفية التعامل معه ومعرفـة ما نأخذ وما ندع، أو حتى التفكير بالتطاول لدراسته ونقده؛ وذلك أن القادر على الإفادة من (الآخر) هو الإنسان المتقدم المتعلم المتحضر، المؤمن بقيمه
[ ص: 16 ] ومعاييره الحضـارية، القـادر على توظيفها في التعـامل مـع (الذات) و(الآخر)، أما الإنسان المتخلف فلا يخرج عن أن يكون قاعًا فارغًا مستقبلًا لكل شيء ورجعًا لصدى كل شيء.
وأقول هنا: إنه لولا بقية من عقيدة الإسلام وثقافته ووجود بعض الخمائر المأمولة في استئـناف النهـوض ومعرفة كيفية التعامل مع (الآخر) لا ندرس الأمل وقُتل الحلم؛ ذلك أن الغرب اليوم وصل إلى مرحلة التحكم بأحلامنا ورسم آمالنا.
وقـد تكون الدعـوة اليوم إلى فقـه الغـرب أو معرفـة الغـرب أو «الاستغراب» مقابل «الاستشراق» لونًا من الفكر الدفاعي، الذي يتشكل غالبًا من ردود الفعل.. لكن هل أصبح صحيحًا أن نقابل الجغرافيا (الغرب) بالعقيدة والثقافة (الإسلام)؟ فالجغرافيا، كما هو معروف، تُقابَل وتُقارَن بجغرافيا، وأن العقيدة تقابل بعقيدة، خاصة وأن الكثير من المسلمين اليوم يعيشون في الغرب، سواء منهم من جاء نتيجة الهجرة أو من آمن من أبناء تلك البلاد.
وهل الغرب بعقائده وأجناسه وألوانه هو غرب واحد، وقد أصبح مكونًا اليوم من مجموعة عقائد وأديان وثقافات متعددة؟ وهل النظر إليها بنظرة واحدة يعني، من بعض الوجوه، تخلفًا وتضليلًا في المعلومات والمعارف وبالتالي بالتعامل؟
[ ص: 17 ]
إن حضارة الغرب اليوم، أو مجتمعات الغرب، تضم، إلى جانب الكثير من الأديان والأعراق والأجناس المتعددة، كتلة عظيمة من المسلمين، الذين يشكلون شرايين أساسًا في حياة الحضارة الغربية، ورصيدًا معرفيًا كبيرًا لعالم المسلمين، ونوافذ دقيقة للمعلومات عن مكونات هذه المجتمعات وكيفية التعامل معها والتبصر بأحوالها وتحولاتها؛ فإلى أي مدى يمكن لنا أن نتعامل مع الغرب ونرسم خططنا السياسية والثقافية والدعوية من خلال هذا الرصيد، الذي يعيش في جوف الحضارة الغربية ويشارك في مسيرتها ويبصر الخلل الذي تعيشه ويبصر النوافذ والمداخل التي تمكِّن من الدخول عليه والتأثير فيه؟
وهل لنا أن نقول: إن ما نمتلك من معايير معرفة الوحي يمكن أن تشكل لنا القوة المانعة من الذوبان في هذا المد الطاغي للغرب بحضارته وثقافته وعقائده؟
وهل لنا أن نقول: إن وجود الخمائر المبصرة، في حياتنا الإسلامية، إلى جانب الطلائع الإسلامية والخبرات والخبراء الذين يعيشون في جوف الحضارة الغربية، يمكن أن تتمدد وتتولد وتحسن الأخذ والعطاء؟
وهل لنا أن نقول: إن انتشار الإسلام في هذه المجتمعات المتقدمة بشكلٍ يكادُ يكون أسرع من انتشاره واعتناقه من قبل الشعوب المتخلفة يؤكد لنا خلود الإسلام واستجابته لتطلعات الإنسان في كل المواقع والمستويات، ويمنحنا الإمكان الثقافي والحضاري والأمل بأن معرفة الوحي بما تمتلك من
[ ص: 18 ] رصيد الفطرة الإنسانية أقوى من غلبة الحضارة الغربية؟ وأن قوة الثقافة أقوى وأبقى من ثقافة القوة؟ وأن الدعوة إلى الفهم ما تزال مطلبًا ملحًا وسبيلًا لكسب أكبر للدعوة الإسلامية؟
وهل يمكن أن نعتبر حقبة العولمة، بكل ما تحمل من سلبيات وطغيان وهيمنة للدول الأقوى، هي فرصة ولحظة تاريخية يمكن التقاطها لتحقيق معرفـة أفضـل وأشمل ووضـع خطةٍ وإبداع وسيلةٍ تتناسب مع أبعاد الدولة الثقافية أو الدولة الإعـلامية، التي يمتلـكها (الآخر) وتفتقـدها (الأنا)؛ وإن كانت هيـاكلها متوفرة في بلاد المسلمين فمضامينها ما تزال تملأ من (الآخر)؟
إن حضور (الآخر) الطاغي المهيمن، الذي يبشر بثقافته وقيمه وفلسفته وعقائده على أنها الصواب المطلق وسبيل الخلاص، من خلال إمكانات وماكينات إعلامية متنوعة وساحرة وقاهرة متحكمة بعقل الفرد وحواسه وإنتاجٍ تقني متحكم بحركته وحاجاته، يتطلب وقفةً صادقة مع (الذات) تقتضي الكثير من المراجعة والنقد ومعاودة الاحتماء المبصر بـ(الذات) وتجديد الاعتصام بالقرآن، مصدر القيم المعصومة، خاصة في اللحظات والمراحل التي ينفصل فيها السلطان عن القرآن ويصبح السلطان مستلحقًا بـ(الآخر) متخليًا عن (الذات).
كما يتطلب إيقاظ وعي الخمائر السليمة في الأمة، التي تمثل الطائفة القائمة على الحق الممتدة، التي لا يضرها من خالفها والتي تقدم أنموذج
[ ص: 19 ] الاقتداء وتدلل على خلود القيم الإسلامية وقدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان وإنسان وحوار أو مواجهة حضارية، إيقـاظ وعيها بكل ما يحيط بها ويُتطلب منها.
إن معرفة (الآخر) أو الإحاطة بعلمه وتحويله ليصبح محل دراسة، عقائده وفلسفاته وتاريخه وأدبه وأخلاقه ورؤيته، لم تعد خيارًا ولا ترفًا ثقافيًا ولا عملًا نخبويًا وإنما كان ولا يزال تكليفًا شرعيًا، سواء في ذلك كونه محل الدعوة والخطاب في محاولة لمعرفة مفاتيح حضارته وثقافته، التي تسهل الدخول إليه والتعامل معه ودعوته إلى الخير، أو كان ذلك مطلبًا استراتيجيًا للوقاية منه وإحباط مَكْرِه والإحاطة بعداوته.
وليس المقصود من الدعوة إلى دراسة (الآخر) إيقاظ روح العداوة والمواجهة وإيقاد الصراع الحضاري واستدعاء فترات التعصب والتمييز والعنصرية وإنما هو لتوفير الرؤية التي تمكن من التعامل معه في الحقول كلها، والمجالات جميعها، بدراية وفقهٍ، في محاولة لرفع العصمة والوحدانية والمعيارية عن قيمه ومبادئه، التي يفرضها ليصبح هو أيضًا محل نظر ودراسة.
ونعاود التأكيد أن (الآخر) ليس نمطًا واحدًا وإنما أنماط متعددة، لكل نمطٍ خصائصه ومقوماته التي تتطلب نمطًا مناسبًا للتعامل معه، وأن العيون الإسلامية الموجودة في مواقع الثقافات والحضارات المتعددة والتي أصبحت جزءًا منها تمثل حواس وبصائر لا بد من اعتمادها لفهم (الآخر) وتحديد مداخل التعامل معه.
[ ص: 20 ]
وبعد:
فلعل أهمية هذا الكتاب، أو هذه الدراسة، أنها حاولت أن تقدم نماذج من القيـم والمبادئ والفلسفـات، التي تشـكل عقل الغرب ومرجعيته التي بدأت تتجاوز اليوم الانحباس الجغرافي للدولة إلى الدولة الثقافية الحضارية، التي تحاول فرض مركزيتها ومعاييرها وتسعى لتحويل الثقافات والحضارات الأخرى من شريك فاعل إلى تباع منفعل لا يخرج عن إقامة مؤسسات الفكر الدفاعي، في أحسن الأحوال، بأساليبها وأدواتها العتيقة، التي ما يزال يعجز عن تطويرها وتجـديدها، حسبه أنه يدور في فلك (الآخر)، ويتحاكم إلى مبادئه ومعـاييره، وكأنه فوق النقد والمراجعة والدراسة، في محاولة للخروج من الارتهان الثقافي إلى مستوى الشريك الحضاري الذي يتجاوز الفكر الدفاعي إلى التقدم باتجاه نقد (الآخر) ودراسته ونزع العصمة عنه.
والكتاب يحاول تقديم رؤية عن (الآخر) وبناء أبجدية ما تزال غائبة عن الكثير من عالمنا لقراءة (الآخر)، كما يحاول صناعة مفاتيح ثقافية لكيفية فتح المغاليق الحضارية، بحيث يصبح (الآخر) محل نظر ودراسة وليس مسلَّمة فوق النقد والمراجعة.
فلقد حاول الباحث تقديم نظرات معمقة في جذور الفلسفة والثقافة الغربية والإتيان بنماذج من المراجعات الحديثة للفكر الغربي، كما تتبع تطور الاتصال بالغرب منذ النشأة ورصد مدى الاستجابة وتنوعها؛ وطرح سؤال
[ ص: 21 ] النهضة، وقدم نماذج لإجابات تاريخية ومعاصرة ومن أكثر من موقع جغرافي في بلاد المسلمين، كما توقف عند آليات إيقاظ الوعي والبحث في عوامل وأسباب ضعف (الذات) ونهوض (الآخر).
ويمكن اعتبـار الكتاب دعوة لفهـم (الآخر) وجعله محل دراسة بطريقة علمية ومنهجية تستدعي الكثير من الدراسات والتحليلات والمتابعات من خلال معايير معرفة الوحي، بكل عطائها في الحقول المتنوعة بعد هذا الكسل العقلي والتخلف الذهني والعجز الثقافي والاستسلام لثقافة القوة المهيمنة، الأمر الذي يساهم بتحريض (الذات) لاسترداد فاعليتها وتحديد موقعها من الثقافة الغربية المهيمنة، واستنهاضها للوصول إلى مرحلة الشهود الحضاري.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 22 ]