الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحو فقه للاستغراب

الدكتور / محمد البنعيادي

المبحث الأول: موقع (الآخر) في الصحيفة (دستور المدينة)

إذا تأملنا نص الصحيفة هذا نلاحظ - دون عناء - أن رسالته تؤطر الحقل الحقوقي والمدني للمجتمع الوليد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استهدف بها الوضع الحقوقي والعلاقات التنظيمية الإدارية والسياسية والاجتماعية للمسلمين كـ(أمة) مع بعضهم ومع غيرهم؛ كما نلاحظ أن قواعد الخطاب الإسلامي تنطلق من قيمة من أهم القيم الإسلامية، ألا وهي الاعتراف بـ(الآخر). و(الآخر) هو في الأصل كل ما سوى الذات، فحينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، كانوا جميعا يمثلون (الآخر) بالنسبة إليه، فاعترف بهم لا اعترف ازدراء واستعـلاء، كمـا توحـي بذلك مزدوجـة «اليونان والبرابرة» أو «الرومان والبرابرة» وإنما اعتراف تمايز وتكافؤ:

( لكم دينكم ولي دين ) (الكافرون:6)

و«لليهود دينهم وللمسلمين دينهم».

وانطلق تعامله معهم من مبدأ أصيل كان يدعو به كل يوم: «وأشهد أن العباد كلهم إخـوة»؛ لأنـهم يشتركون جميعا في أن لهم أبا واحدا، فهم كما يسميهم القرآن «بنو آدم»، وهم يشتركون جميعا كذلك في أن لهم ربا واحدا؛ وأنهم مهما اختلفوا فإن ربوبية الله تجمع بينهم:

( الله ربنا وربكم ) (الشورى:47)،

( الله يجمع بيننا وإليه المصير ) (الشورى:15)؛

وأنهم سواسية في التمتع بخيرات هذه الربوبية، لا تفرقة بينهم ولا تميز في أي أمر من الأمور التي تتعلق بربوبية الله عز وجل، كالماء والغذاء والرزق [ ص: 51 ] والعطاء والدواء والشفاء والإمداد بسائر أسباب الحياة: ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) (الإسراء:20) [1] .

والصحيفة، بذلك، صيغة مبكرة ومتقدمة لإبرام المعاهدات والمواثيق الاجتماعية والدولية مع الآخرين.

ويأتي تعبير (أهل الصحيفة) ليحدد ماهية المنخرطين في هذه الصيغة، وهم كل من قبل بنود الصحيفة، سواء كان من أهل المدينة أو من غيرها من الأقوام والفئات الاجتماعية والفكرية والسياسية والعقائدية، وسواء كانوا من اليهود أم من العرب غير المسلمين، وهذا يكشف أن الصحيفة قد وضعت تنظيم علاقات الدولة والأمة فيما جاوز المدينة وليست خاصة بأهل المدينة وحدهم [2] .

ومن الخـلاصات والمحاور الكبرى، التي يمكن استخلاصها من الصحيفة ما يلي:

-كان العهد مع اليهود على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة (سياسة الدفاع المشترك) وضد قريش خاصة.

- التسـليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة الإسلام وقائده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- عدم مناصرة أي مهاجم للمدينة أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من السلطة السياسية التي يمثلها الرسول صلى الله عليه وسلم. [ ص: 52 ]

- قبول السلم ممن يجنحون إلى السلم وإن لم يعقدوا معه صلى الله عليه وسلم عهدا، وأن يوادعهم ما وادعوه.

- حقوق المواطنة الكاملة لليهود، يمارسون عبادتهم ويناصحون المسلمين... بمعنى أن المواطنة مفهوم أصيل أكدته الصحيفة وهي ترسم الإطار العام للحكم والإدارة في مرحلة التأسيس هذه.

ففي دولة المدينة التي رأس حـكومتها الرسـول صلى الله عليه وسلم نص (دستورها) - الصحيفة - على التعددية الدينية لرعية هذه الدولة الإسلامية الأولى، وعلى المساواة والعدل والإنصاف في حقوق المواطنة بين هذه الرعية المختلفة والمتعددة في الدين.... لقد حول الإسلام (القبائل) إلى لبنات في بناء (الأمة) الجديدة، وجعل أبناء الشرائع الدينية المتعددة لبنات أصلية في بناء (الأمة) الواحدة، وفي رعية هذه الدولة الإسلامية الواحدة...حتى أن تاريخ الفكر الإسلامي لم يعرف مصطلح (الأقلية)، وإنما عرف (الأمة الواحدة) التي جعل الإسلام تنوعها واختلافها - في الشرائع الدينية، في الشعوب والقبائل، وفي الألوان والأجناس، وفي اللغات والأقوام، وفي المناهج والعادات والتقاليد والأعراف- سنة من سنن الله، التي لا تبديل لها ولا تحويل.

فنص (دستور) الدولة الإسلامية الأولى -الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم عقب الهجرة إلى المدينة- على أن «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم...ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم.. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا [ ص: 53 ] محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.. وإن بينهم النصح والنصيحة والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه».

وتفيد دراسة نصوص الصحيفة أن (المواطنة) لا تساوق الانتماء الديني دائما بل يمكن أن تفترق عنه، حين يكون المجتمع السياسي مكونا من فئات ذات انتماء ديني متنوع، فقد تتساوى (المواطنة) مع الانتماء الديني حين يكون المجتمع السياسي كله ذا انتماء ديني واحد، فيتحد في الخارج المعاش مفهوم (الأمة) مع مفهوم (الوطن) والدولة و(المواطنة)، وقد لا تتحد هذه المفاهيم، فتكون (أمتان في الانتماء الديني) في وطن واحد، ومجتمع سياسي واحد ودولة واحدة.

ومن خلال ما سبـق، يتبين أن المجتمع السيـاسي الإسلامي المتنوع في الدولة الإسـلامية يمـكن أن يتكون من نسيج فكري وعقدي ولغوي... متنوع:

1- مسلمون يشكلون الغالبية، وهم عصب الأمة (بالمعنى العقيدي والديني)، في نسيج الدولة السياسي والتنظيمي.

2- يهود، نصارى، مجوس أو غيرهم... ينتمون في الأساس إلى الأرض التي تقرر إنشاء الدولة عليها (المدينة).

ويترتب على هذا نشوء حقوق للمواطن غير المسلم على المجتمع السياسي الإسلامي لابد من ضمانها والسهر على تحقيقها مقابل التزام [ ص: 54 ] المواطن غير المسلم بشروط الانتماء، التي حددتها بنود الصحيفة، وفيما قبل النص القرآني الذي تحدثنا عن بعض معالمه في الفصل السابق.

إن (الصحيفة) دستور وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لجماعته في المدينة ليحدد لها نظام العمل في شؤون الجماعة الداخلية والخارجية.. دستور كامل يبين الحدود الجغرافية لوطن الأمة (جوف المدينة ومنازل القبائل وكل من لحق بنا وجاهد معنا)، والمراد هنا منازل كل القبائل التي تنضم إلى الأمة و(تقر بما في الصحيفة) أي توافق على ذلك الدستور، وقد اتسعت مساحة المدينة بذلك، لأن القبائل حولها أخذت تنضم إلى الأمة الإسلامية [3] .

من خلال هذه الوقفات السريعة يظهر أن الصحيفة كانت إعلانا عن قيام أول دولة قانونية في الأرض نظم بها الرسول صلى الله عليه وسلم جميع شئونها ورسم سياستها الداخلية والخارجية بصفته (الرئيس) الأعلى للدولة الناشئة؛ إنه دستور فريد لم تحلم به البشرية في عمرها الطويل إلى يومنا هذا، حيث تضمنت الكثير من القواعد والمبادئ الأساسية التي ما تزال البشرية تحوم حولها مثل: إباحة الحريات، العقيدة والإقامة والتنقل ومزاولة الحرف دون تقييد مادامت هذه الحريات لا تضر مصلحة المجموع، وتراعي المبادئ الأخلاقية في السلوك الفردي وفي العلاقات الاجتماعية، والصحيفة بذلك، أسست لوحدة الشعور بالجماعة الإنسانية وحميمية العلاقات فيما بين أفرادها [4] . [ ص: 55 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية