الفصل الثالث
لماذا فقه الاستغراب؟
من المسائل الشائكة في عالم الأفكار في العالم الإسلامي اليوم كيفية التعرف على الغرب ومعرفة أنساقه الفكرية وتجربته الحضارية وخصائصه، التي تميزه عن غيره من الكيانات الحضارية. ولذلك تواجهنا مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية دقيقة تساهم في فهم الغرب وتوفير آليات منهجية للتعامل معه.
وهنا يثار تساؤل عن كيفية ضبط العلاقة مع الغرب؛ إذ إن الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة به، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية، جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالعالم كله وبالعالم الإسلامي بوجه خاص.
إننا نتوخى في مقاربتنا هذه إبراز الاستعدادات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية العامة التي مكنت النظام الغربي من أن يبلور، بواسطتها، صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته. ثم تبيان محاولته - ليستقيم ذلك- رسم «مصير متعال» له ليجعل من نفسه محورا، بل مرجعا تاريخيا عالميا وحيدا في معالجة قضايا مجتمعات ما وراء البحار، وذلك من خلال إنشاء منظومات فكرية متوخيا من ورائها إجماعا نسبيا على رسالته التبشيرية «التحضيرية» بين مواطنيه لكي يتسنى له تصديرها من خلال إغواء وتنشئة [ ص: 70 ] نخب في المجتمعات المفتوحة لتكون معابر لبسط سيطرته وترسيخها في جسم هذه المجتمعات... ولاشك في أن هذا المسار قد تطلب استخدام مفاهيم العقلنة لإضفاء المشروعية على فتوحاته عبر تمثيل المجتمعات الخارجة عن حدوده على شكل«زوائد عائمة» من مخلفات تاريخية متدنية محكومة آجلا أو عاجلا بالانقراض والفناء» [1] .
ومن هنا تأتي أهمية هذا الموضوع. وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعا في حلوله للغرب، وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة. وقد ظهرت في عالمنا الإسلامي منذ عدة سنوات دعوات لدراسة الغرب أو إخضاعه لدراستنا، ومن ذلك ما كتبه «محمد الشاهد» حول أهداف هذه الدراسة، فذكر منها طلب علوم الغرب للإفادة من صالحها وبيان فساد طالحها، والخلفية الفكرية للفكر الغربي [2] .. ومن ضمن الموضوعات التي يمكن دراستها:
- دراسة عقيدة الغرب دراسة موضوعية بعيدا عن الحماسة والعاطفة.
- دراسة الشخصية الغربية من حيث مكوناتها وبناؤها النفسي والاجتماعي [3] .
وأكد «الشاهد» في مقالة أخرى على قضية مهمة وهي «إن علينا أن نبحث عن مخرج من موقفنا الضعيف إلى موقع قوي مؤثر، ولا يمكن ذلك [ ص: 71 ] إلا بدراسة علمية صادقة لما عليه أعداؤنا ولا حرج أن نتعلم من تجاربهم ومناهجهم ونأخذ منها ما ينفعنا ونترك منها ما عدا ذلك» [4] .
كما أصدر حسن حنفي كتابا ضخما بعنوان: «مقدمة في علم الاستغراب»، تناول فيه أهمية دراسة الغرب، فأوضح أن مهمة علم «الاستغراب» هي فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا، بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس، مهمته القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب، لغة وثقافة وعلما ومذاهب ونظريات وآراء [5] .
وقد نشأ الاستغراب من أجل استكمال حركة التحرر العربي والإسلامي، ولشعوب العالم الثالث على مستوى التحرر الثقافي والحضاري، تكملة للتحرر السياسي والاقتصادي، وتحويل الغرب من كونه مصدرا للعلم كي يصبح موضوعا للعلم. ومن ثم يمكن القضاء على ظاهرة «التغريب» في حياة العرب المعاصرة والانبهار بالغرب كنموذج وحيد وأبدي لتقدم الشرق حتى تتعدد النماذج، وحماية ثقافة الأمة من شقها إلى نصفين، علمانية وسلفية، وتجاوز رد الفعل إلى الدراسة العلمية الموضوعية. كما يهدف إلى رد الثقافة الغربية إلى حدودها الطبيعية، وإثبات تاريخيتها، مصادرها [ ص: 72 ] ومسارها، بداية وذروة ونهاية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وقد ينشأ حوار خصب للحضارات يقوم على تعدد المسارات الحضارية والالتقاء بينها دون حضارة مركزية كبرى لديها عقدة عظمة، وحضارات صغرى في الأطراف لديها عقدة نقص. فـلا يوجـد تلميـذ أبدي أو معلم أبدي. ولا يكفي أدب الرحلات بين الشرق والغرب أو الخطاب السياسي الشائع، الذي يعبر عن موازين القوى. حينئذ يمكن التحول من صدام الحضارات إلى حوار الثقافات من أجل الإثراء المتبادل. وإذا كان الاستشراق يعبر عن ذروة الحضارة الغربية، وهي الآن في نهايتها، فإن الاستغراب قد يعبر عن دورة جديدة للحضارة الإسلامية، وهي في بدايتها [6] .
وأشار حنفي في مواضع أخرى إلى مهمات أخرى لعلم «الاستغراب» ومنها أنه يسعى إلى القضاء على «المركزية الأوروبية Eurocentricity،Eurocentrism»، وبيان كيف أخذ الوعي الأوروبي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة... مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدودها الطبيعية بعد أن انتشرت خارج حدودها إبان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام، وهيمنته على وكالات الأنباء ودور النشر الكبرى ومراكز الأبحاث العملية والاستخبارات [7] . [ ص: 73 ]
ويذهب حسن حنفي إلى أن الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل والنقيض من (الاستشراق) [8] .
كما يقدم كتاب «مقدمات الاستتباع» منهجا جديرا بالاحتذاء في تأسيس «علم الاستغراب» يقام على أصول علمية تتجاوز الدعوات الدعائية وتتعداه إلى أطر فكرية رصينة قادرة على استيعاب الفكر الغربـي، متوخيا قيم العدل ومبتغيا الحقيقة ومدركا أن شنآن القوم/الغرب ليس مدعاة للظلم، ومؤمنا أن الوصـول إلى الحقيقة أعظـم من الانتصار على الخصم، (حتى) لا نكرر منهج الغرب في التعامل مع الشرق، ولكن نؤسس لفقه استغراب يعتمد على القيم الحاكمة من توحيد وعمران وتزكية، ويلتزم القيم والمثل العليا للوجود البشري من عدل وصدق وأمانة وحب حقيقي وسعي للوصول إلى بعض نورها لتحقيق غاية الوجود الإنساني في التعارف والاستفادة والتلاقح بعد الإقرار بأننا مختلفون ولذلك خلقنا. [9]
إن الدعوة إلى قيام فقه الاستغراب يرجى ألا تكون مجرد رد فعل لظاهرة الاستشراق، التي تكونت منذ أكثر من سبع مائة سنة على أقل تقدير،.. وبالتالي يعني ذلك فهم الغرب ومنطلقاته في حملاته المتكررة على الشرق، ليس على مستوى الحروب فحسب، ولكن على مستويات أخرى ثقافية وسياسية واقتصادية [10] . [ ص: 74 ]
وحين أستدعي مصطلح (الاستغراب) لا أعرفه فقط أو أضع له حدودا أو رسوما - كما يعبر الأقدمون- بل لمحاولة معالجة حقل معرفي يتصل بشكل أو بآخر بهذه المفاهيم والمصطلحات، التي تستمد حضورها من «سلطة المعرفة وجبروتها»، معالجة حقل معرفي يبحث في سر تحول الغرب إلى مركز يهيمن على جميع الأطراف عبر علومه وقواعده الفلسفية ومطامعه وطموحاته كأسلحة فعالة وقوية ممهدة لفرض واستمرار الهيمنة على الآخر تكريسا لمركزيته و«استتباع» أطرافه بعد قهر ثقافتهم وتهميشها وتقديم بدائل تنميطية تارة باسم «التثاقف والمثاقفة» وأخرى باسم «العقلنة» وأخرى باسم «الحرية والديموقراطية» و.. كل ذلك من أجل تمرير شبكة واسعة وكبيرة بديلة من المعارف والمعطيات التاريخية والجغرافية والجيوسياسية والأيديولوجية تطمس ثقافات الآخرين وتبرز مركزية الغرب وتبرز معها تسميات يختارها المركز من قبيل: الشرق الأوسط والأدنى والأقصى، والعالم الثالث و... وكل ذلك توخيا لعزل الأطراف عن مواقع التأثير والاستفراد بالعالم وتنميطه وإبعاده عن كل ما يمكن أن ينبه إلى حقيقة هويتـه، وكل ما يحول دون جعله مستعدا للتنكر لذاته الثقافية والدينية والاجتماعية حتى يسهل استبدالها بطريق التقليد والتبعية والاستتباع «بثقافة المركز» [11] .
فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، [ ص: 75 ] ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة، وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أن الغرب لم يعد بذلك البريق الذي كان عليه منذ قرن تقريبا، ولم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك مثلا، فالعالم الغربي صار حافلا بالفوضى، ولم يعد المسلم الباحث عن إعادة بناء حضارته يجد في الغرب نموذجا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوي من أخطاء.
فالغرب تجربة حضارية تعد درسا خطيرا ومهما لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لإعادة دراسة حركة البناء الحضاري، وحركة التاريخ، ولبناء الفكر الإسلامي على أسسه الأصيلة، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونا أزليا أشار إليه القرآن في قوله تعالى:
( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140).
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية؛ حتى يفهم مشكلاته فهما واقعيا، يقوم أسباب نهضته كما يقوم أسباب فوضاه وتخلفه تقويما [ ص: 76 ] موضوعيا. وحتى تنظم علاقاته مع هذه التجربة، ويستفاد من هذه التجربة البشرية، ويدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة، وغير نابعة من إطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوها أو جزئيا أو شقيا.
ولقد أضاع المسلمون كثيرا من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، [12] دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى كثيرا من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظريا، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها، فإننا لن ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولن نعرف كيف تكونت، وكيف أنها في طريق التحلل والزوال لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية. [ ص: 77 ]
إن تحديد الصلة العميقة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يتطلب إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية، وتحديد ما يمكن أن نساهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها، وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجها عالميا، فمن المفيد قطعا أن ننظر إلى حركة التاريخ والواقع من زاوية عالمية لنكتسب بذلك وعيا عالميا، فإذا أدركنا مشكلاتنا في هذا المستوى، فإننا سندرك -لا محالة- حقيقة الدور الذي يناط بنا في حضارة القرن الواحد والعشرين. لذلك فالتعرف على الحضارة الغربية تكليف فكري وضرورة تاريخية بعيدا عن اللجوء إلى أسلوب القوة، الذي لا يكون إلا في مواجهة الغزو العسكري وردع المؤامرات السيـاسية ومخاطرها، أما المواجهـة الفكرية والثقـافية فلا تستخدم فيها القوات العسكرية.. لأن اللجوء إلى القوة يزيد من اضطرام الفكر المخالف. فلابد -إذن- من اللجوء إلى المنطق الواعي في مواجهة الفكر المنافس، لابد لدفع الخطر المحدق من اقتراح منطق أقوى وفكر أشمل وأكثر جاذبية، وما لم نكن مجهزين بمثل هذا الفكر والمنطق، فعلينا عقد العزم على تحصيله قبل أي شيء آخر، والإسلام يمتلك هذا الفكر والمنطق [13] . [ ص: 78 ]