الفصل الخامس
فمتى ينشأ فقه الاستغراب؟! [1]
إن الاستغراب- بهذا المعنى- يعبر عن قدرة (الأنا) على رؤية (الآخر) ودراسته وتحويله إلى موضوع، لكن الفرق هذه المرة هو أن (الاستغراب) يقوم على (أنا) محايد لا يبغي السيطرة كما قلت، وإن كان يبغي التحرر من هيمنة الغرب والخلاص من آثار ثقافته وتشوهاتها في عالمنا. إن (الاستغراب) لا يهدف إلى تدمير الثقافة الغربية وإنما يهدف إلى تحليلها والتعرف على مكوناتها الأساسية ورد عناصرها إلى منابعها، ودراستها بعمق بغية خلق مناعة ومقاومة وحساسية من تشوهاتها وبعض عناصرها التدميرية، وبالتالي تحصين الهوية الحضارية لأمتنا من العناصر القاتلة في ثقافة (الآخر)، وحماية مجتمعاتنا من النـزعات التدميرية في فكر (الآخر) وقيمه وتقاليده [2] .
وتجدر الإشارة، إلى أن المعنى الذي أوردناه لـ(الاستغراب) حديث بالمقارنة مع المفهوم الأقدم والأكثر انتشارا وشيوعا، أي طلب الغرب والشغف بثقافته [3] . وقد تتداخل معاني ومضامين التغريب والاستغراب [ ص: 85 ] والاغتراب في أكثر الكتابات وتتجه إلى معنى التأثر بالغرب والتماهي مع مكوناته الثقافية وعاداته وتقاليده الاجتماعية... إلخ.
والحقيقة أنه –لحد الآن- لم ينشأ عندنا (الاستغراب) في مقابل (الاستشراق) الذي أوجده الغربيون بكيانه ومناهجه ومدارسه وفلسفته وأهدافه، التي يمكن تلخيصها في الأهداف التالية: الدينية والاستعمارية والاقتصادية والعلمية [4] .
ورغم ذلك يمكن الاقتراب من مفهوم (الاستغراب) بهذا المعنى عند أشهر المتصلين الأوائل بالغرب من المسلمين، ومنهم على سبيل المثال:
- رفاعة الطهطاوي (ت1873) في كتابه «تخليص الإبريز»، حيث وصف ما صادفه في رحلته إلى باريس.
- محمد عبده (ت1905) في كتابه: «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، حيث قام بدراسة النصرانية والإسلام دراسة مقارنة.
- شكيب أرسلان (ت1946) في كتابه: «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم»؟
- مالك بن نبي (ت1973) في كتابه: «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» تناول اتجاهات الغرب المختلفة في السيطرة على العالم الإسلامي ومقدراته الاقتصادية والفكرية. [ ص: 86 ]
بالإضافة إلى آخرين مثل: الأفغاني، سيد قطب، الكواكبي، إقبال، محمد باقر الصدر، علي شريعتي...، الذين أنجزوا دراسات متميزة في نقد الاتجاهات الحديثة في الفكر الغربي، فكتبوا حولها مراجعات تقويمية.. وبقطع النظر عما تنطوي عليه تلك التقويمات من خطأ وصواب، تظل الحاجة لتأسيس (فقه الاستغراب) ملحة في عالمنا الذي ما فتئ يعيد إنتاج أدوات التبعية للغرب في كل شيء، لاسيما في عصر العولمة، ومطامع الإنسان الغربي في طمس الثقافات الأخرى وتعميم ثقافته على العالم بأسره [5] .
وهذا البحث يحاول الغوص في تراث الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر ليكشف عن الإرهاصات الأولى لـ(الاستغراب)، ثم ليستشرف آفاقه بعد أن يحدد منطلقاته وأهدافه، ثم ليحدد - باختصار- علاقاته بأهم قضايا الفكر الإسلامي الراهنة مثل: علم الكلام الجديد، حوار الحضارات، الاستشراق الجديد، وغيرها من أمهات القضايا الفكرية والثقافية المعاصرة.
ولكن قبل ذلك، ينبغي البحث في ماهية الغرب الثقافية والحضارية؟ وماهية معالم بنيته الفلسفية وقاعدته وأصوله الحضارية؟ كل ذلك لتيسير فهم هذه الذات المدروسة، وإعطاء خلاصات فكرية ونظرية عنها تتيح صياغة العلاقة المناسبة معها، في عالم أصبح لا يعترف بالانعزالية والانكماش والتقوقع على الذات؛ إنها مقدمات عامة في فقه الاستغراب الإسلامي. [ ص: 87 ]